تعددت أشكال الحب في رواية "حرير الغزالة" وتداخلت فيما بينها حد الاندماج أحيانا، فذابت الفوارق ما بين الحب الأسري، وحب الصداقة، وحب الجنس الآخر؛ فمنذ الصفحات الأولى تجري إعادة رسم العلاقات الأسرية وروابط الدم من جديد بإحلال الأسرة البديلة محل الأسرة البيولوجية، تمثلها الأم بالرضاعة "سعدة" والأخت بالرضاعة "آسية" والأب بالرضاعة "والد آسية". تبدأ هذه الخلخلة والإحلال منذ المشهد الأول الذي يجسد معنى التخلي بدءا من ذهول الأم الحقيقية عن رضيعتها التي أفلتتها في لحظة الفاجعة لتتلقفها يد امرأة أخرى ستصبح أمها. وهكذا جرى سحب الأم الحقيقية إلى صف خلفي من المشهد. وسنعرف على امتداد خط السرد أنها هناك ولكننا لا نراها تقريبا بعد هذه الحادثة. ومثلها سينزوي بقية أفراد عائلتها من أب وإخوة إلى صفوف أبعد وأبعد، على الرغم من معرفتنا أنهم موجودون ولكن لا نراهم أو نسمعهم.

تحقق العائلة البديلة اكتفاء للطفلة غزالة بأم مُحبّة، وأخت ودود، وأب يقاسمها محبته واهتمامه كفرد أصيل من عائلته الصغيرة. عائلة متكاملة تفيض بالمحبة التي لا تجدها الطفلة "غزالة" في أسرتها الحقيقية لأسباب لا ندركها بشكل واضح، ولكن نصل إليها بالنظر والمقارنة؛ مقارنة غزالة بين أمها سعدة وأمها الحقيقية فتحية، يقول السارد العليم: "نسيت غزالة زعلها. أقعت بجانب سعدة، وقالت: "أمي سعدة، أعطيني خبزة ساخنة ورُشِّي لي عليها سمن وسكر". أبوها أيضا يعود إلى البيت مرة ومرتين في الشهر، حيث يعمل موظفا في وزارة الإسكان بمسقط، ولكن بيتهم لا يعبق بالبخور، ولا يمتلئ بالدمى والسكاكر لها ولإخوتها، ولا تغني أمها أغاني حلوة كالتي تغنيها سعدة"(ص18). وهكذا نعرف أن البيت الذي هو رمز الألفة المحمية _ كما يقول باشلار(*) _ ينطبق على البيت البديل، وليس على البيت الحقيقي الذي تنتمي إليه الطفلة "غزالة" ولا تذهب إليه إلا باكية وموعودة بعودة في الصباح إلى البيت البديل. ونقرأ السارد العليم في مكان آخر يقارن بين يدي "سعدة" اللتين تلقفتاها، ويدي أمها اللتين قذفتاها: "ترى يدي سعدة وهما تقذفان زهوة وتتلقفانها، إنهما غير يدي أمها فتحية، اللتين تقذفان الرُّضع ولا تتلقفانهم. على الرغم من أن أمها عرضت أن تعتني بالتوأم لمَّا حصلت غزالة على الوظيفة محاسبة في هذه الشركة المرموقة بعد تخرجها إلا أن غزالة فضلت أن تودعهما في حضانة. بررت لأمها التي ما تزال تعيش في بناية الخوير مع أولادها وزوجها والعمة مليحة: "كلها سنة وسنتان ويدخلان المدرسة"، دارت إحساسها بالعار بأنها ببساطة تأتمن على طفليها الأيادي الغريبة ولا تأتمن يدي أمها"(ص71). بقدر ما يكشف هذا الاقتباس غياب الثقة في الأم الحقيقية منذ الحادثة الأولى، فإنه يرسم كذلك المسافة بين "غزالة" وبقية أفراد عائلتها البيولوجية الذين جرى التعبير عنهم كأغراب يتبعون الأم في موقعها البعيد؛ فالأب زوجها، والإخوة أولادها بلا ضمير يربطهم بغزالة، وإنما ورد ذكرهم مرتبطين بالأم: زوجها، وأولادها. يتساوى وجودهم وطبيعته مع طبيعة وجود الأم، وتبعدهم المسافة نفسها منذ اللحظة الأولى. وبقيت العمّة دائما عمّة، تصلح أن تكون عمة لأي أحد إلا "غزالة".

ولكن هذا الاكتفاء بالعائلة البديلة انقطع وانفرط بالاختفاء: بموت "سعدة" وطفلتها الصغيرة "زهوة"، وهجرة "آسية" ووالدها من القرية دون سابق إنذار أو وداع، لتتمدد الفجوة التي تركتها هذه الأسرة في نفس الطفلة "غزالة" وتكبر. وستسعى تاليا لردمها بكل ما أوتيت من وسائل بحث عن حب بقي ناقصا على الدوام: فكلما أرادته حبا، جاءها متلبسا بلبوس الصداقة؛ فالعازف الذي أحبته عاد إليها بعد الهجر، ولكن لا ليعيد عهود الحب وجذوته، وإنما ليقدم لها عرضا مختلفا، عرضا بالصداقة يكفّر به عن انقطاع حبٍّ مضى، "قال إن غزالة ستظل أم أولاده وصديقته"(ص102)، وإنه "يريد أن يظل يتحدث معها – كصديق، ويشرب معها إذا جاء البيت فنجان قهوة – كصديق. وربما يشكو لها زملاءه أو زوجته الجديدة – كصديق"(ص103).

ويصرّ مغني الملكة بدوره أن يكون شيئا آخر إلا أن يكون حبيبا يُحَس ويُلمَس، واختار أن يتصرف "كطفل ينتظر التدليل"(ص95)، وهي لديها طفلان تربيهما وحدها وليست ناقصة طفلا ثالثا تدلـله وتُرضيه. ومثل العازف ومغني الملكة فعل الفيل فعلهما، عندما راح يؤكد لها "أنتِ أروع صديقة"(ص180). أما هي فـ "لا تريد برد الصداقة، ولا برد المودة، ولا برد التعاطف، ولا برد الأنس، ولا برد اللطف. تريد نار الحب. لا شيء أقل، ولا بشرارة واحدة"(ص102). وهكذا كلما فسد حب بدَّلته "غزالة" بآخر قبل أن تدرك أخيرا أن "الحب اللامشروط من سعدة وآسية لم يتكرر ثانية. فهمت أن هذا النوع من العاطفة الخالصة يستحيل أن يوجد بهذا الصفاء وإنكار الذات بين البالغين"(ص67). يقول السارد العليم في تفسير شخصية "غزالة" وتبرير تنقلها من عاشق إلى آخر: "ربما يكون لكل إنسان حصة مقدرة من الحب، وطلب المزيد هو مجرد تطاول، ربما كانت غزالة قد أوتيت حصتها كاملة في طفولتها، وغرامياتها البائسة بعد ذلك هي مجرد محاولة لاستبقاء صفاء ذلك الحب وعمقه؛ حب آسية وأمها سعدة"(ص181 - 182). ولكن سببا آخر يضاف إلى رغبة "غزالة" المستميتة في تعويض الحب المفقود، وهو إحساسها الضمني بعقدة نقص تدفعها لخوض التجربة تلو الأخرى، يعززه إحساسها المتكرر بأن صغر سنها يمنعها من فهم الطرف المقابل، وقصور فهمها _ كما تظن _ يقود إلى تسريع خسارتها إياه. نقرأ مثلا: "تَذكّرتْ كم شككتْ في نفسها لكونها أصغر منه، وكيف كانت تعزو إقفال النقاش إلى عدم نضجها هي. وأحست بالضيم"(ص92). حدث هذا مع كل عشاقها قبل أن تدرك متأخرة أن الخلل يكمن في طبيعة الطرف المقابل الذي يقبل بنصف الحب، ونصف الشغف، ونصف النار، وليس فيها هي بالضرورة التي لا ترضى بأقل من نار كاملة لا تنقص منها شرارة واحدة.

القرية لا تَحضُر، والمدينة لا تَتذكّر:

على غرار قرية "العوافي" المُتخيَّلة في روايتها "سيدات القمر"، ترسم جوخة الحارثي في "حرير الغزالة" قرية أخرى مُتخيَّلة تحمل اسم "شعرات باط"؛ فالقرية في أعمال جوخة تحمل أسماء مستعارة؛ لأنها تمثل معادلا مكانيا محتملا لأية قرية عمانية. بينما المكان الآخر لا يمكن إلا أن يكون هو ذاته، فترِد في "حرير الغزالة": مسقط، صحار، صور، أبوظبي، وغيرها من الأماكن بأسمائها الصريحة. تصف "غزالة" قريتها "شعرات باط" لمغني الملكة تقول: "تخيل الجبال العالية، لا تدع مسربا إلى البلد إلا واديا ضيّقا فإن جاء السيل انقفلت السبل. وفي الفسحة الصغيرة بين الجبال بيوت قليلة متناثرة، وبساتين أقل متجمعة، وفلج يتوسطها، فكأنها شعرات مبعثرة في إبط الأرض"(ص39). وهكذا تحوّل الاسم الغريب _ الذي قد يثير اشمئزاز القارئ في الوهلة الأولى _ إلى معنى مقبول بل طريف أيضا، ويعيد إلى الأذهان عشرات القرى العمانية التي حملت مسميّات غريبة، وكانت ذات إيحاءات سلبية أحيانا، ثم جرى تغييرها كما تغيّر اسم "شعرات باط" بأوامر عليا في مطلع التسعينيات إلى "الواحة".

استأثرت القرية في الرواية بحكايات الماضي، حيث كانت فضاءً لطفولة "غزالة" و"آسية"، تلاعبان البقرة محبوبة والقط شيبوب، وتقطفان أوراق الشجر الجبلي مع "سعدة"، وتلعبان أسفل الجبال المحيطة مع الأولاد والبنات، وتشاركان أطفال القرية الغوص في حوض مزرعة "طاهر" زوج "سريرة" الثاني، والسباحة مع "فادية" في الفلج الذي تتخلل سلسلته بيوت القرية. أما المدينة فلها لغة الحاضر، والعمل، والأولاد، ونزهات التسوق، ومواعيد المطاعم والمقاهي. تنقّلت شخصيات جوخة الحارثي بين القرية والمدينة، وتحوّلت مع تحوّل شكل الحياة فيهما، وتغيرت مع تغير طبيعتهما على امتداد ثلاثة عقود. بيد أنه التحوّل الذي يُبقي للقرية قدرتها على إذكاء وهج الحكايات، وإشعال فتيل الحنين مهما تقدم الزمن.

لا ينفصل الزمان في رواية "حرير الغزالة" عن المكان، فما ارتبط بالقرية متصل بالماضي الذي لم يعد كما كان، بدءا من اسم القرية "شعرات باط" الذي تغيّر إلى "الواحة"، فتغيّر معه وجهها منذ أن بدأت البلدوزرات في شق الطرق إليها وإنشاء المدارس. تحضر القرية بوصفها موطنا للذكريات، وليست لحاضرٍ يعاش فيه. وقد ارتبطت القرية في ذاكرة "غزالة" ببيت الأسرة البديلة، حيث كان الحب كاملا خالصا ونقيا. وبما أن البيت البديل بأفراده لم يعد موجودا، فقد تحوّلت القرية من واقعها الفيزيائي إلى مادة حكائية تسردها لعشاقها المتعاقبين.

أما المدينة فهي فضاء التعويض عن الحب المفقود، وما من ذاكرة تشدّها إلى زمن مضى سوى ذاكرة القرية التي كانتها في يوم ما، وهي ذاكرة مقطوعة عمن وفد إليها ولم يكن جزءا منها قبل أن تصبح ما هي عليه اليوم؛ فذاكرة المكان حصيلة تراكمية، وستحتاج المدينة _ أية مدينة متحوّلة عن قرية كبيرة _ وقتا طويلا حتى تتخذ هويتها التي تشبه إنسانها المولود فيها والوافد إليها على حد سواء.

ولكن الأمر يحتمل جانبا آخر لدى حديثنا عن القرية والمدينة في "حرير الغزالة"، وهو جانب لا ينفصل عن زمانية المكان التي قدّمنا لها آنفا، يرتبط بفعل الاسترجاع حسب بول ريكور الذي يذهب إلى أن السرد القصصي والسرد التاريخي يشتركان في أنهما ينهضان على عملية الاسترجاع من الماضي(**). وبما أن فعل الحكي يستند على استرجاع الماضي الذي تمثله حكايات القرية، فمن الطبيعي أن تحضر هذه القرية بنحو أوضح من المدينة؛ لأن صورتها مُنجَزة ومكتملة في الذاكرة، وهو ما لا تتوفر عليه المدينة التي ما تزال في طور التشكل، ولا تتيح راهنيتها المتحولة استجلاء الرؤية حيالها قبل مضي فاصلة زمنية كافية تسعف تناولها كمادة ثابتة ومستقرة.

وعلى الرغم من ذلك، نُفاجأ بأن غزالة المسكونة بالحب لا ترى المكان إلا بعين المحبوب. رأت القرية بعين "آسية" و"سعدة" وهي تشاركهما الرعي وقطف أوراق الشجر، أو وهي تلعب مع "آسية" أسفل الجبال وفي الفلج وحوض الماء. ورأت المدينة أول مرة بعين العازف، إذ كانت تنفلت "من البيت كفراشة، تجد العازف متكئا على باب البناية، ويبدآن المشي. لم تكن قد سارت في كل هذه الشوارع والساحات الفارغة والحدائق المهجورة وباحات الجوامع قبل أن تعرفه. كانت تعبر أحيانا في سيارة أبيها، فلا يكاد يستوقفها شيء، لكن العازف علمها كيف تحب المشي في الفجر، وكيف تكتشف المدينة وهي تصحو، تراقب الهنود يفتحون المخابز وأكشاك الشاي ويعدون سندويتشات البيض والجبن، وتضحك على حراس المدارس يتعثرون في النوم وهم يفكّون قلوب البوابات الحديدية، حارسة البنات من المواعيد"(ص154- 155). وضعت "غزالة" عينيها في قلبها، فلا ترى المكان ولا أي شيء آخر إلا به، وتلك كانت محنتها الأولى والأخيرة.

يمتد زمن الرواية 30 عاما، منذ ولادة "غزالة" في عام 1986، وحتى عام 2016. وهو زمن اختزل أربعة أجيال تكثّف حضورها جميعا عبر امتداد زمني قصير بفعل الاسترجاع تارة، ومزامنة اللحظة الراهنة تارة أخرى على مستويين سرديين يتقاطعان ويفترقان. وقد أسهمت التواريخ المتصدرة يوميات "حرير" في تتبع خط الزمن الحاضر الممتد من 2006 وحتى 2016، ما أتاح القبض على ملامح التحول الذي طال الشخصيات الرئيسة في الرواية تبعا لحركية الزمن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) انظر غاستون باشلار: جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 1984، ص35

(**) راجع بول ريكور: الذاكرة والسرد، حوارات، ترجمة وتقديم سمير مندي، دار كنوز المعرفة، عمّان، 2016، ص13