الإسهام العلمي للمرأة العمانية.. إن كان حضوره في الأدبيات المدوّنة قليلًا؛ فإن سجل المرأة الاجتماعي فيها نادر، وما قد يضيّق الفجوة بين واقع منجز المرأة وتوثيقه من قِبَل الباحثين؛ وجود وثائق الوصايا والبيوع والهبات وقسمة المواريث، التي احتفظت بالكثير من الأعمال الخيرية التي قدمتها المرأة في مختلف أدوار التاريخ العماني. وهذا ما جعل الوثيقة في هذا الجانب أوفر حظًا للباحثين من مادة توثيق إسهامها العملي، التي اقتصرت على الموارد الفقهية والأدبية اليسيرة للمرأة، أو على تقييدات نَسْخِها للكتب وتملّكها لها التي نجت من مفرمة التلف والضياع، أو وريقات متناثرة هنا وهناك ما زالت حية من بستان عطائها. ومع ذلك.. فلا يزال الطريق طويلًا أمام البحث حتى يحصد ما حفلت به حقول العطاء الاجتماعي والأفعال الإنسانية؛ التي كانت المرأة لا تقل فيه عطاءً عن الرجل، إن لم تَفُقْه أحيانًا. هذا بالنسبة للدور الاجتماعي.. وأما المشاركة السياسية فإنها أكثر جدبًا في رصد حوادث المرأة وفعلها السياسي، ولأن الوثائق الاجتماعية أكثر وجودًا وأيسر حصولًا؛ فالمقال يركز على تحليل بعض الحدث السياسي، مع عدم إغفال الجانب الاجتماعي.

العهد اليعربي.. كسائر الأزمنة العمانية، كان الوضع السائد فيه مشاركة المرأة في المجتمع، لكن ذكرها في الأدبيات المدوّنة متوارِ أو ضعيف، بل إن التخاطب الاجتماعي كان يلابسه الخجل، فإلى وقت قريب.. يعتبر ذكر اسم الزوجة والأم والابنة البالغة عيبًا، وكأن النقلة التي سار عليها الإسلام لتخفيف النظرة المنحازة للذكورة، لصالح التكامل بين الجنسين، لم تحدث تغييرًا اجتماعيًا؛ يحفظ للمرأة حقوقها، دون أن يميل بها إلى خلل اجتماعي في مجتمع لم تتغير هيكلته.

هذا وضع سائد في مجتمعاتنا، وقد ألقى بظلاله الكثيفة على المدونات الفقهية والأدبية، فمثلًا.. بالنسبة للشيخة عائشة بنت راشد الريامية قليلًا ما تذكر باسمها، وقد تذكرها على جهة التصغير باسم «عويش»، وهذا التصغير لأسماء النساء باقٍ عندنا حتى اليوم. وغالبًا يرد ذكر الريامية باسم «بنت راشد»، رغم المكانة العظيمة التي بلغتها في العلم، حتى أصبحت أحد أقطاب الفتوى بعمان، وممن يرجع العلماء إليهم في النقاش الفقهي، ورغم -كذلك- الصفات العلمية والتبجيلية التي اتشح بجمالها بعض المصادر التي رصدت جانبًا من حياتها الاجتماعية ومواقفها السياسية وآثارها العلمية. ومع ذلك.. فإن وضع تواري المرأة أو مواراتها؛ لم يكن يعزلها عن المشاركة الاجتماعية، ولم يمنعها حقوقها المالية وغيرها، في حدود منظومة الفقه التي تسود المجتمع.

لقد حفظ التاريخ «نُسَخًَا» كثيرة من الوصايا التي أوقفتها المرأة للصالح الاجتماعي، وتأتي عائشة بنت محمد بن يوسف العبرية مثالًا طيبًا على ذلك، فقد كانت امرأة ثرية سخية من الحمراء، وصفت بأنها زاهدة كثيرة العبادة. والدها محمد بن يوسف بن طالب العبري (ت:1121هـ) كان واليًا زمن اليعاربة، وقد تزوجت من الفقيه سالم بن خميس العبري (ت:1160هـ) صاحب كتاب «فواكه البستان». ومن أعمالها الجليلة بناء مسجد الصاروج بالحمراء -الآن اسمه مسجد السحمة- وسُمّي بذلك لأنه بُني بالصاروج والحجارة. والصاروج مادة تصنع بحرق التراب، فيتحول إلى مادة أشبه بالإسمنت. وتتميّز المباني الصاروجية بقلة تأثير عوامل التعرية عليها كالأمطار، وبطول بقائها، والبناء بها يدل على فخامة المبنى ويسر الباني وجوده. فلَإن تبني هذه المرأة مسجدًا بالصاروج فهذا يدل على منزلتها الاجتماعية ومقدرتها المالية ونفسها السخية. وما يؤكد على ثرائها وجميل عطائها أنها أوقفت بستانًا كثير النخل مع ما يحتاجه من الماء لعمل الخل، يكفي لأهل مدينة الحمراء عامةً حينذاك. والخل سائل يستعمل في تطييب لحم الشواء، وبعض الأطعمة الأخرى. ويصنع من الماء والتمر والفلفل والملح، بتخليله في جرار فخارية، قرابة أربعين يومًا. وأوقفت كذلك ما يفضل من ثمر ذلك البستان عن الخل لمسجد الصلف في الحمراء لفطرة الصائمين، ولإصلاح مسجد الصاروج. كما أوقفت لإصلاحه «أثر ماء» من نصيب لها في فلج العراقي بولاية عبري.

أما في الشأن السياسي فكانت عائشة الريامية هي المبرّزة بين النساء، وقد كُتب عن موقفها من الإمامين بلعرب بن سلطان وأخيه سيف «قيد الأرض»، وسألقي مزيدًا من الضوء عليه في المقال القادم بإذن الله. إن الحراك السياسي الذي شهده عهد اليعاربة لم يقتصر على الرجل، بل أحدث وعيًا لدى المرأة كذلك، وهما حراك ووعي انعكسا على الأحداث التي أعقبت عهدهم، فنتائج مرحلة ما؛ غالبًا تظهر بعد مدة. وهنا أذكر بعض المواقف النسائية في الشأن السياسي الذي كان امتدادًا للعهد اليعربي، ولعله جاء بتأثير من الموقف الصلب الذي أبدته عائشة الريامية قبل ذلك، فنسجت النساء على منوالها.

ساق المؤرخ حميد بن محمد بن رزيق قصة مبشرة الزفيتية مع الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي، الذي نُصّب إمامًا على عمان عام 1162هـ، ويرجع ابن رزيق قصتها إلى ما قبل تنصيبه، حيث كان في سباق خيل ببلدة تنعم في الظاهرة، فجاءته أعرابية وقالت له: لا يليق بك أن تتسابق مع هؤلاء القوم، وأنت ستصبح إمامًا لعمان. فسألها عن اسمها: فقالت: مبشرة. وسألها: من أي العرب أنت؟ فأجابته: من بني زفيت. ثم أصبح إمامًا كما قالت وبشرته. القصة.. لم يقف عليها ابن رزيق بنفسه، وإنما رواها عن المشايخ المُسِنة، ولا تبعد عندي أن تكون من الأسطرة التي تضاف عادةً إلى العظماء، بيد أن الأسطورة تخفي تحتها ما يمكن قراءته في السياقات الاجتماعية والسياسية، فأصل الأسطورة تشخيص لحدث ما، ثم يزاد عليه أو ينقص منه بتناقل الرواة، بحيث يخرجه من حيّز منطوقه إلى فضاء الخيال الذي يفرضه التغيّر الاجتماعي.

ما يمكن قراءته من القصة.. هو أن المرأة في المجتمع العماني كانت حاضرة بالمشاركة السياسية والاجتماعية، لم تكن بمعزل تام عن الرجل. نعم.. كانت تتوارى خلفه اجتماعيًا، إلا أنها أدت أيضًا أدوارًا مهمة، وأحيانًا خطِرة. وقصة المرأة الزفيتية رغم عدم واقعيتها، وأنها تنسب إلى أواخر العهد اليعربي، لكنها تفصح عن الحس السياسي للمرأة الممتد من ذلك العهد.

ويُروى أن حبيب بن سالم الأمبوسعيدي النزوي، من علماء القرن الثاني عشر الهجري، قبل أن يتفقه أصيب بالهموم بسبب الفقر المدقع وكثرة العيال، حتى أيأسته من الحياة، فلما رأته إحدى نسائه على هذا الحال صرفته عن همومه، حتى اندفع إلى طلب العلم، فتعلم وتبقّر فيه، وأصبح من كبار فقهاء زمانه، وإليه ترجع الفتوى في عمان، وكانت له أدوار سياسية كبيرة، وكل هذا من أثر تلك المرأة التي أخرجته من حالته النفسية، ودفعت به إلى حقل العلم.

ومما دونته كتب التاريخ امتدادًا لذلك العهد المهيب.. حادثة وقعت عام 1198هـ، وهي أن امرأة من نزوى اسمها عامرية العبيدانية كانت ذات حنكة سياسية ورأي سديد، فقد قامت بعمل ذكي في مساعدة الشيخ أبي نبهان جاعد بن خميس الخروصي (ت:1237هـ)، لمّا ذهب إلى نزوى لأمر من أمور السياسة، فاستقبله بها أهل حجرة العقر، ثم بدّلوا رأيهم لما تخوَّفوا من الإمام سعيد بن أحمد البوسعيدي، فخشيت العبيدانية أن يخذلوه ويوقعوا بينه وبين الإمام سعيد، فأشارت إليه بالمغادرة قبل أن يأتي الإمام وعسكره فيحاصروه، فخرج الشيخ بناءً على نصيحتها من نزوى وقفل راجعًا إلى بلده. فأنقذت هذه المرأة بحنكتها الشيخ جاعد، وجنّبت نزوى سفك الدماء، وبقي الأمر بيد الإمام سعيد.

ختامًا.. من تمام المقال ذكر مراجعه؛ وهي: «الفتح المبين» و«الصحيفة القحطانية» لابن رزيق، و«الموسوعة العمانية» و«معجم النساء العمانيات» لسلطان الشيباني، و«السيرة الزكية للمرأة الإباضية» لبدرية الشقصية.