أ.د. حسني محمد نصر

لم يعد من المنطقي الحكم على كفاءة النظام الإعلامي في دولة ما استنادا فقط إلى تصنيفها العالمي في مقاييس حرية الصحافة، أو طبيعة النظام السياسي والإعلامي القائم وما إذا كان ليبراليًا أو سلطويًا.

المتغيرات الإعلامية الجديدة والأدوار التي أصبحت تلعبها وسائل الإعلام الوطنية التقليدية والجديدة في أوقات الكوارث الطبيعية يجب أن تكون ضمن آليات تقويم المنظومة الإعلامية، والحكم على مدى كفايتها وقدرتها على الوفاء باحتياجات الحكومات والمواطنين من المعلومات والتفسير والتوجيه، قبل وأثناء وبعد التعرض لهذه الكوارث.

من هذا المنطلق يمكن القول إن النظام الإعلامي العماني يتسم بدرجة عالية من الكفاءة ليس فقط لدوره في الإعصار الأخير الذي ضرب سواحل السلطنة الأيام الماضية، ولكن لتراكم هذه الأدوار والخبرات في التعامل مع الأعاصير والحالات المناخية الطارئة التي عاشتها السلطنة منذ إعصار «جونو» وحتى إعصار «شاهين» الأخير.

واقع الأمر أن تيارا جديدا بدأ يتشكل في العالم في السنوات الأخيرة يقوم على فكرة أنك إذا لم تكن قادرا على منع الكوارث الطبيعية أو حتى الكوارث التي من صنع الإنسان، فإن تسخير كافة إمكاناتك للتعامل معها يمكن أن يسهم في التقليل من الخسائر الناجمة عنها سواء في الأرواح أو الممتلكات إلى أقصى حد من خلال استخدام نظام اتصالي وإعلامي فعال واستخدام الأنظمة القائمة على التكنولوجيا الحديثة، وبالتالي الحد من المعاناة البشرية الناجمة عن الآثار الكارثية لمثل هذه الظواهر الطبيعية المدمرة كالأعاصير والزلازل والبراكين وغيرها.

وإذا كان من المبكر تقويم فاعلية وكفاءة التعامل الإعلامي الرسمي والشعبي العُماني أثناء إعصار «شاهين»، فإن هناك نقاطا مضيئة كثيرة يمكن رصدها في هذا التعامل، تجعلنا نقول إن دور وسائل الإعلام في تغطية تلك الكارثة من جميع زواياها كان ضمانة أساسية من ضمانات تحقيق السلامة العامة وتقليل الخسائر البشرية والاقتصادية إلى أدنى حد ممكن.

لقد طورت السلطنة نهجًا وطنيًا واضحًا في إدارة الكوارث الطبيعية في السنوات الأخيرة وضعت الإعلام ووسائله في قلبه، إلى جانب الآليات الأخرى المتصلة بأعمال المركز الوطني لإدارة الحالات الطارئة.

يقوم هذا النهج على فكرة العمل الوقائي الذي يؤمن بأن الإغاثة بعد الكارثة تظل غير فعالة إذا لم يتم اتخاذ التدابير اللازمة قبل وقوع الكارثة، ويوظف هذا النهج كل الوسائل والإمكانات للاستعداد للمخاطر، والتخطيط لها بطريقة استباقية بدلا من انتظار وقوعها والرد على تداعياتها.

لقد أثبت ما حدث في إعصار «شاهين» أن التأهب والاستعداد أهم مرحلة في إدارة الكارثة سواء قبل أو بعد حدوثها، وأن تناغم الأداء الإعلامي أمر بالغ الأهمية للتخفيف من حدة مثل هذه الكوارث.

والواقع أن المتابع للإعلام العماني يستطيع أن يلحظ حالة التلاحم والتكامل الذي استطاعت وسائل الإعلام أن تنخرط فيها سريعا سواء بين الإذاعات المسموعة بعضها البعض، أو في المحطات التلفزيونية، وحسابات وزارة الإعلام، ومركز الأخبار بإذاعة وتلفزيون سلطنة عمان، ووكالة الأنباء العمانية على منصات التواصل الاجتماعي، وحسابات الصحف العمانية والمؤثرين على تويتر (المواطنون الصحفيون)، سواء في بث الأخبار أو التوجيهات والتعليمات والطمأنة الخاصة بالتعامل مع الإعصار.

لقد كان الأداء الإعلامي العُماني خلال الإعصار، كما وصفته لبعض من سألني، أشبه بسيمفونية رائعة يشارك فيها كل العازفين كل حسب قدرته وحسب الآلة التي يستخدمها دون انتظار توجيهات مباشرة من قائد الأوركسترا الذي كان يراقب العزف من بعيد حتى يطمئن على سلامة المعزوفة الإعلامية وجودتها، وقد شاركني هذا الرأي عدد من أصدقائي الإعلاميين والصحفيين والأكاديميين من خارج السلطنة، الذين كانوا يتابعون الحدث من خلال وسائل الإعلام العُمانية الرسمية رغم تغطية بعض وسائل الإعلام العالمية له.

لقد شكل الصحفيون الذين كانوا يلاحقون تطورات الإعصار وتداعياته للصحف ووكالة الأنباء، والإعلاميون من رجال الإذاعة والتلفزيون سواء كانوا أمام أو خلف ناقل الصوت والكاميرا، أو أمام شاشات أجهزة الحاسوب للبث الفوري للأخبار على المنصات المختلفة، ما يمكن أن نسميه «كتيبة دفاع متقدمة» لمواجهة الإعصار، خاصة أن بعضهم لم يترك مكانه على خطوط المواجهة إلا بعد ساعات طويلة من العمل، وهو ما وفر تغطية حية ومباشرة وفورية لتطورات الأحداث، أشبعت إلى حد كبير حاجات المواطنين والمقيمين المتزايدة من المعلومات، والتي على أساسها كانوا يتخذون قراراتهم الفردية والجماعية سواء بالبقاء في المنازل في بعض المناطق، أو الإخلاء في مناطق أخرى، أو المبادرة بتقديم المساعدة للآخرين.

لقد كان لوسائل الإعلام العمانية دور بارز ليس فقط في تعريف المواطنين بتقنيات إدارة وتحليل بيانات خط سير الإعصار منذ تشكله، ولكن أيضا بأصول وسلوكيات إدارة المخاطر المترتبة عليه، وأكثر الطرق فعالية لتجنب تلك المخاطر، على المستويين العام والشخصي. وهنا يجب ألا نغفل الدور المهم الذي لعبته إدارات ودوائر الإعلام والاتصال بالمؤسسات الحكومية ذات العلاقة بالإعصار، مثل شرطة عمان السلطانية، واللجنة الوطنية للدفاع المدني والوزارات الخدمية والمحافظات والولايات.

فقد برهنت كل هذه المؤسسات وغيرها من المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني على فهم جيد ومتطور لدور وسائل الإعلام وضرورة إقامة علاقات متميزة معها، وقد اتضح ذلك في البث المنتظم والمتكرر والفاعل للإنذارات المبكرة عن الإعصار، وخطط وأماكن الإجلاء، والمساعدة في أنشطة ما بعد الإعصار.

ومن قبيل الأمانة هنا، وفي إطار هذا التقويم المبكر، أن نشير إلى دور وسائل الإعلام العُمانية الخاصة، التي خصصت كل مساحاتها الورقية والزمنية تقريبًا لتغطية الإعصار، وأسهمت في نجاح الإعلام العماني بشكل عام في هذا الاختبار الصعب.

صحيح أن الصحف والقنوات الإعلامية الخاصة لها مصالح تجارية، إلا أن الصحف والإذاعات العمانية الخاصة ضربت مثالا يحتذى على التضحية بتلك المصالح لحساب الأبعاد الوطنية والأخلاقية والمعنوية في تغطية الكوارث الطبيعية، ووفرت معلومات موثوقة ورسالة صحيحة في الوقت المناسب، وأوجدت بيئة من التضامن داخل المجتمع.

وشبيه بهذا الدور الذي لعبه الإعلام الخاص، الدور المتفرد الذي لعبه المؤثرون على منصات التواصل الاجتماعي خاصة «تويتر»، و«انستغرام»، وكان من وجهة نظري دور وطني مسؤول، وهو ما يجعلنا نطالب بدعم قادة الرأي على هذه المنصات بالمعلومات، وإشراكهم في وضع الخطط الإعلامية الخاصة بالتعامل مع الكوارث الطبيعية.

في تقديري أن الأثر الأهم للإعلام العماني قبل وأثناء هذا الإعصار يتمثل في الأثر التراكمي طويل المدى الذي حققه، واستطاع من خلاله تغيير عقلية وقناعات أفراد المجتمع فيما يتعلق بالتعامل مع الكوارث الطبيعية، فمع التسليم بأن هذه الكوارث لا دخل للإنسان في حدوثها، وأنها تحدث في كل دول العالم المتقدمة منها والنامية على حد سواء، وتترك أثارها التدميرية المباشرة على البني الأساسية والبشر، فإن أسلوب التعامل الرشيد معها يمكن أن يخفف من حدة تلك الآثار.

وقد تعلم الجميع من الأعاصير والحالات المناخية السابقة، وهو ما سهّل على الإعلام القيام بدوره في الإقناع، وفي أن يكون أكثر مصداقية لدى عامة الناس.

لقد أثبتت المنظومة الإعلامية العمانية أنها منظومة رصينة، إذ لم تجرها ضخامة الإعصار والمخاوف المتزايدة منه، إلى المتاجرة به -كما تفعل وسائل الإعلام في دول أخرى- عبر بث الأخبار المثيرة، والتي كان من شأنها أن تولّد أزمات أخرى وتتسبب في المزيد من الخسائر.

وبفضل الله وبرؤية ثاقبة من القائمين على أمره، لم يقع الإعلام العُماني ضحية التهويل والتضخيم أو التهوين، وعالج الحدث بحكمة ورثها عن مؤسس نهضة عُمان الحديثة المغفور له جلالة السلطان قابوس بن سعيد، ورسخها حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه -، وتعلمها من تاريخه الطويل والتجارب السابقة.