صدر في العشرين من سبتمبر الحالي عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الوايبو) مؤشر الأداء العالمي للابتكار للعام2021 بعنوان (تتبع الابتكار خلال جائحة كوفيد19)؛ والذي يُجسد «أداء النظام الإيكولوجي للابتكار لـ 132 اقتصادً، ويتتبع أحدث اتجاهات الابتكار العالمية» – بحسب ما ورد في مقدمته -.

فإذا كان تقرير مؤشر الأداء العالمي للابتكار في العام 2020 حمل هَمَّ (من سيموِّل الابتكار؟)، حيث أبدى التقرير قلقا من تأثير جائحة كورونا كوفيد 19 على مصادر تمويل الابتكار في العالم، بناء على تأثير الجوائح والأوبئة السابقة على قدرة الدول على الاستثمار في الابتكار، إلا أن تقرير مؤشر أداء الابتكار هذا العام فاجأ العالم بقدرة الابتكار على الصمود رغم الخسارات البشرية وانهيار العديد من الاقتصادات العالمية؛ فقد صرَّح التقرير بأن الاستثمار في الابتكار بلغ «أعلى مستوى له على الإطلاق قبل انتشار الوباء، حيث حقق البحث والتطوير نمواً بنسبة استثنائية بلغت 8.5 في المائة في عام 2019»، والتي استمرت في النمو خلال العام 2020، سواء في استمرارية الإنتاج العلمي، وزيادة نفقات البحث والتطوير، وإيداعات الملكية الفكرية، واستثمار الأموال في المشروعات الابتكارية.

وعلى الرغم من انهيار اقتصادات العالم بشكل عام، إلاَّ أن التقرير يكشف عن (تواصل) نمو «مخصصات الميزانية الحكومية للاقتصادات الأكثر إنفاقا على البحث والتطوير في عام 2020»، إضافة إلى تعزيز هذه الموازنات عن طريق الشركات العالمية المنفقة على البحوث، والتي قدمت أعلى مستوى من الدعم على الابتكار في القطاعات خاصة التكنولوجيا الطبية والحيوية والإبداعية؛ حيث بلغ إنفاقها الإجمالي على البحث والتطوير – بحسب التقرير – إلى حوالي «10 بالمائة في العام 2020، مع إبلاغ 60 في المائة من الشركات كثيفة البحث والتطوير عن رفع نفقاتها».

الأمر الذي يكشف تنبه العالم إلى ضرورة تنمية مجالات البحث والتطوير وأهميتها سواء في ابتكار الوسائل والتدابير التي تسهم في احتواء الوباء وتداعياته، أو تلك الابتكارات والبحوث التي تُعزز من التعافي الاجتماعي والاقتصادي، وبالتالي فإن العالم في ظل أزمة كورونا كوفيد 19، وجَّه استثماراته (حكومات وشركات) نحو البحث والتطوير لإيمانه بقدرته على تسريع وتيرة التعافي من ناحية، وتعزيز النمو الاقتصادي وتنميته من ناحية أخرى. الأمر الذي يجعل من الابتكار قاعدة أساسية لاستثمارات قطاعات المستقبل واستدامتها.

ولهذا فإن الاستثمارات التي وجهها العالم نحو البحث والتطوير تُقدم اليوم الخيارات الأسياسية لتطور التكنولوجيا والبرمجيات والمعلومات والاتصالات سواء أكانت خدمات أو أجهزة، إضافة إلى التكنولوجيا الحيوية واستمثارها في الابتكارات المتنوعة، مما أتاح فرصاً جديدة أمام القطاعات التي شهدت انهيارً اقتصاديا أو ضعفا في الموارد، مما عزز من توجه العالم نحو تلك الخيارات التي يتيحها الابتكار باعتبارها فرصا جديدة للاستثمار ، وتعظيم القوة الاقتصادية الموجَّهة نحو قطاعات البحث والتطوير.

إن هذا الاستثمار اللافت الذي يكشفه تقرير (مؤشر الابتكار العالمي 2021) رغم الانكماش الاقتصادي العالمي، يجعلنا نراجع تلك الموازنات المحلية المخصصة للبحث والتطوير في السلطنة من ناحية، ومدى مساهمة القطاع الخاص في هذا المجال الذي يعوِّل عليه العالم للتعافي الاقتصادي؛ فعلى الرغم من تقدُّم السلطنة (8) مراتب مقارنة بالعام الماضي في مؤشر الابتكار العالمي، وهو تقدم مبشِّر على الرغم من التحديات الاقتصادية التي واجهة هذا القطاع، إلا أنه تقدم لا يحقق الطموح، فما زالت السلطنة في المرتبة (76) عالميا، الأمر الذي يعني أن تحقيق المرتبة (40) عالميا في العام 2030 بحسب مؤشر الأداء الذي تطمح إليه رؤية عمان 2040، لا يتطلب التقدم وحسب بل القفزات المتسارعة، التي تكشف العمل الدؤوب والدعم المتواصل، وتبني آفاق البحث والتطوير بوصفه ركيزة استثمارية قادرة على تحقيق الأهداف التنموية للرؤية في كافة القطاعات.

والحق أن قطاعات السلطنة المختلفة تعمل بجد في مجالات البحث والتطوير والابتكار، على الرغم من تفرُّق هذه الأعمال والتحديات التي تواجهها في العديد من المؤسسات، إلاَّ أن هناك الكثير من الجهود التي تُبذل من أجل تنمية هذا القطاع الحيوي، ولعل وجود حاضنات الابتكار في المؤسسات الأكاديمية المختلفة، وجهود قطاع التكنولوجيا والصناعات الإبداعية، إضافة إلى برامج التأهيل والتدريب في مجالات هذا القطاع وغير ذلك، كلها تؤسس لنظام إيكولوجي طموح للابتكار يهدف إلى تحقيق نمو في بنية البحث والتطوير في السلطنة.

ولهذا فإن مؤشر الابتكار العالمي يمنح فرصة لتقييم الأداء في مجالات البحث والتطوير، والتوازن بين المدخلات والمخرجات للوصول إلى الكفاءة المطلوبة، فعلى الرغم من الجهود المبذولة في هذا القطاع إلاَّ أن التقرير يعكس الكثير من الإشكالات التي تجعل هذا التوازن غير قادر على التحقق، ولعل الدعم المالي أحد أهم تلك التحديات التي تجعل كفاءة التوازن بين مدخلات الابتكار ومخرجاته بعيدة التحقق، ولهذا فإن حجم الاستثمارات في الابتكار يحتاج إلى بنية تحتية قوية قادرة على الدعم وتنمية رأس المال البشري.

كما أن الاستثمار في البحث والتطوير لتحقيق مخرجات ابتكارية يحتاج إلى تطوير منظومة التعليم العام، إضافة إلى وجود المؤسسات الداعمة للأنشطة المبتكرة، فالسلطنة تحتضن الكثير من الشباب المبتكر القادر على تنمية قطاع البحوث وفق كفاءة عالية، وقد كشفت الحاضنات الابتكارية عن الكثير من تلك الإبداعات والابتكارات التي تم تسجيلها، وبقيت ضمن نطاقاها الضيق دون أن تُتاح لها الفرصة للوصول إلى الأسواق حتى المحلية منها، والسبب في ذلك يعود إلى عدم قدرة تلك الحاضنات على تمويل أو المساهمة في تمويل تلك الابتكارات من ناحية، وعدم توفر الشركات المختصة القادرة على تبني تلك الابتكارات من ناحية أخرى.

لذا فإن تنمية هذا القطاع يحتاج إلى شركات قادرة على الاستثمار في البحث والابتكار بما يحقق تطورا في سوق الأعمال من ناحية، وتنمية قطاع الابتكارات واستدامته من ناحية أخرى؛ فمجال الابتكارات يفتح الأبواب للكثير من الفرص على مستوى العلامات التجارية، والتصاميم الصناعية بأنواعها، مما يتيح القدرة على تمكين الابتكار، وفتح فرص عمل للشباب من خلال الوظائف الإبداعية. الأمر الذي يدعم فرص التوازن بين مدخلات الإبداع في السلطنة ومخرجاته، ويعزز بيئة الأعمال والاستثمار في الصناعات الإبداعية المختلفة.

ولعل التقدم الذي أحرزته العديد من الدول في تقرير مؤشر الابتكار العالمي2021، والتي تقع ضمن إقليم تصنيف السلطنة نفسه يُعد نموذجا مهما؛ حيث تقدمت الكثير منها إلى المراتب (30) الأولى عالميا كالإمارات العربية المتحدة، وحققت بعضها (قفزة كبيرة) – بتعبير التقرير – إلى المراتب (50) كما هو الحال في تركيا، و(تسلقت) – بحسب التقرير - ثماني منها المراتب بما في ذلك جمهورية مصر العربية والجزائر. الأمر الذي يعني أن تحقيق السلطنة لهدف الوصول إلى المرتبة (40) في العام 2030 يحتاج إلى (قفزة كبيرة).

والحال أن السلطنة في سعيها المتواصل نحو تحقيق (مجتمع المعرفة)، قدمت العديد من المبادرات المحلية في التخطيط والعمل على تنمية قطاع البحث والتطوير، سواء في رؤية عمان 2040، أو في الاستراتيجية الوطنية للابتكار2040، أو في تأسيس الحاضنات المتعددة، لذلك يبقى أن تتكاتف جهود المؤسسات الحكومية والشركات لدعم هذا القطاع، وإنتاج صناعات إبداعية، وابتكارات قادرة على المنافسة، عندها يمكن أن تحقق السلطنة القفزات المتتابعة حتى تصل إلى المرتبة (20) عالميا في العام 2040، كما هو مأمول.