ما إن بلغ دوار "القرم" حتى سطعت في رأسه فكرة جديدة، زيارة مكان يرفض السقوط من ذاكرته، أخذ المسار اليمين فكانت "الجنيبي" عن يمينه، وعلى اليسار تبدّت عمارات مختلفة بينها محلات "بيتزا هوت" بلوحتها الحمراء التي لا تخطئها العين.

اندفع بالسيارة بروح متوثبة حتى بلغ محطة الوقود التي تقع بدايات "وادي عدّي"، الذي لا يعرف لماذا سُمي كذلك، لكنه تذكر بقوة ما أحدثه هذا الوادي الجبار أيام الأنواء المناخية التي عُرفت حينها بـ"جونو"، وكيف أتى هذا الإعصار على الممتلكات والبنية الأساسية، ومن بينها الشارع الجديد الذي شُيد حينها ليربط مناطق مسقط المختلفة بولاية العامرات.

دخل إلى المحطة، مر بمطعم عُرف سابقًا بـ"كاميليا" ، فكان مسجد وادي عدّي في وجهه، ثم انعطف يمينًا في طريق قديم حتى وجد نفسه في بداية المنطقة. بوادي عدي الذي ودعه قبل سنوات طويلة ظهرت نفس البيوت ومحلات الخياطة والخضروات والمطاعم المتواضعة، السكك الضيقة نفسها التي تتكدس بسيارات السكان على جانبيها، المدرسة والمسجد لم يتغير بهما إلا القليل الذي قد لا يلحظه من لا يُعير التفاصيل الصغيرة اهتمامًا.

منازل المنطقة القديمة توثق لماضٍ لا يُنسى لأسر مسقطية، وأُسر من محافظات مختلفة استوطنت العاصمة لكنها بعد حين نزحت إلى مناطق أكثر عصرية وحداثة في الخوير أو الغبرة أو العذيبة لأسباب مختلفة، من بينها السكن بمنازل أكثر اتساعًا ورحابة.

ببطء وحذر دلف بسيارته في الطريق المؤدي إلى حيث توجد "العزبة "، ولا يذهبن التفكير بأحدكم إلى معنى "العزبة " المتعارف عليه لدى البعض وهو أنها "مساحة شاسعة من الأرض تُربى فيها الحيوانات كالجمال والماعز و... ، وتزرع فيها النخيل الباسقات وأنواع الخُضر والفواكه بسبب وفرة المياه"، أو تلك التي تقام فيها الاستراحات وأحواض السباحة وملاعب العشب الاصطناعي، لا ليس الأمر كذلك إنما العزبة المقصودة هنا هي "بيت العزاب" من العاملين بمسقط بعيدًا عن أُسرهم، هذا البيت المُشّرع الأبواب لكل غريب وباحث عن عمل وقاصد لزيارة مستشفى ومتسوق وقاضٍ لإجازة صيفية و .... .

داخل حُجرات منزل وادي عدي القديم القابع بآخر نقطة في السفح المنخفض من الجبل دارت قصص وحكايات، وازدهرت مع الأيام خلافات بلغت أن أصبحت مزمنة، بسبب تنافر الطباع واختلاف وجهات النظر واختلاف قدرة البعض على التحمل وغيرها من الأسباب.

حياة ساكني العزبة اشتراكية بامتياز، فلا تملُكَ فيها ولا خصوصية، فالغُرف مشتركة ودورات المياه وبقية المرافق وحتى الفراش ملكُ للجميع، ومن جاهر برغبته في اقتناء غُرفة خاصة عُد "بطرانًا" ومتكبرًا وانتهازيًا، وقد يكلفه ذلك الطرد أو دفع مبلغًا كبيرًا بسبب تفكيره "الفوقي" كما يرى البعض.

لا يستنكف بعض ساكني العزبة من استخدام عطرك أو معجون أسنانك، أو معدات الحلاقة الخاصة بك، كما لا يرى أي غضاضة في أن يرد على مكالمة وردت على هاتفك وأنت بعيد عنه، أو أن يبحث في درجك الخاص عن مقص لتقليم الأظافر، أو أن يُقلب في أوراقك أو ملفاتك بحجة أن نيته دومًا "صافية".

لا تستغرب أو تأخذك الدهشة، إذا عُدت من عملك المسائي أيام الإجازة الأسبوعية متأخرًا، ووجدت أسرة أحد الساكنين بكاملها تغط في نومٍ عميق، في المجلس أو الغرفة التي يوجد فراشك بها، لأن رب الأسرة "ظن" أن الجميع ذاهبون إلى ولاياتهم فقرر أن يوفر إيجار سكن أسرته.

أما أنت أيها العائد من عملك مجهدًا إذا ما حدث موقف كهذا فما عليك إلا أن تنسحب بهدوء ولا تزعج النائمين، وتبحث لك عن أي فندق تنام فيه ولتناقش الأمر لاحقًا، نعم لا تأتي على ذكره لأن البعض موافقون على هذا التصرف، على اعتبار أنهم يقومون بنفس التصرف وأنت لا تدري.

إشكالات لا حصر لها تدور بين ساكني العزبة، أهمها الاتفاق على الطبخ من عدمه، والتنظيف وكيفية القيام به، وإشكالية كبرى تتعلق بمحددات وشروط قبول شخص جديد للانضمام، إذ يرى البعض أن انضمامه سيقلل مبلغ الإيجار الذي يدفعه كل شخص حتى لو كان ذلك على حساب راحة الباقين، فيما يرى البعض الآخر أن زيادة شخص جديد يعني زيادة الاختلاف والفوضى والقضاء على ما تبقى من أمل في الراحة والهدوء.

بابتسامة باهتة لا تخلو من تذكر لمواقف نبيلة تعلَّم منها الصبر والاعتماد على النفس والتجاهل، وأخرى تكرس لأيام بائسة ضاعت في مهب الريح، يمم بسيارته جهة الطريق الضيق باتجاه المخرج أسِفًا على سنوات ضيعها مفتقدًا أقل مواصفات الراحة، قال وقد بدت المنطقة خلفه: لو أُعيد لي العُمر الذي ضاع هُنا لكنت شخصًا آخر غير هذا.