الإنسان.. فكرة، وبدون قدرته على التفكير لا يعدو أن يكون حيواناً يرتع في مراعي البهيمية، والاشتغال بقراءة الأفكار شعور بإنسانية الإنسان. وقد كتبتُ حول الفكرة طيلة العشرين سنة المنصرمة، من «قوانين حركة الفكرة»، إلى «تفكيرنا.. من القولبة حتى التشظي» الذي نشرتْه -وغيره- مشكورة «جريدة عُمان»، وقد أثارت هذه المقالات حولها حراكاً نقدياً جيداً. ومقال اليوم.. يحاول أن يفكر في الفكرة ذاتها، مع الاعتراف بأن التمييز بينها وبين المفكِّر بها تقسيم اعتباري مدرسي، لا يحكي الحقيقة ذاتها.

بدايةً.. علينا أن نميّز بين الفكرة والمفكَّر فيه، المفكَّر فيه.. هو المعلومة؛ أي ما يحصّله الإنسان من معرفة، فيقتنصها ذهنه بشيء من حواسه الخمس، فالنص.. الذي نقرأه والعبارات التي نسمعها هي معلومات يستقيها الذهن، وهكذا.. المبصَرات من ألوان ومشخَّصات، والروائح التي نشمها، والمطعومات التي نتذوقها، والمواد التي تلامسها أجسادنا، كلها مادة للتفكير، وبالتفكير تنشأ الفكرة، وبخروجها من الذهن تصبح معلومة، إما بياناً كنص أو قصيدة أو خطاب، وإما انفعالاً رضيّاً أو ساخطاً، وإما عملاً كبناء مشروع أو هدم آخر، ونحو ذلك. فكل ما يقوم به الإنسان في الحياة نتاج تفكيره، فهو في الذهن فكرة، وعند الآخرين معلومة.

المعلومة.. التي لم يجترحها التفكير محايدة، وأما التفكير فيها فمصبوغ بصبغة المفكِّر فيها، فشجرة ما.. خارج أذهاننا -بكونها معلومة- هي كائن واحد، بيد أن تفكيرنا فيها تحدده زاوية نظرنا إليها، فمنا مَن يراها ظلاً، وآخر يراها جهاز تنقية للهواء، وثالث بأنها نافعة، وغيره ضارة، وهكذا.

وبذلك.. تختلف الأذواق في كل شيء تقريباً، وما نخاله اتفاقاً لو نبشنا في تفاصيله لوجدنا فيه اختلافاً كثيراً. وحتى النص الديني؛ فَهْمُنا له مباين عن النص ذاته، بل الله بكونه حقيقة وجودية غير موجود في تفكيرنا بحقيقة ذاته، وما يوجد إن هو إلا تصورنا عنه، ولذا.. ينبغي للعقل التواضع في تعامله مع مَن يختلف عنه في تصوره لمفهوم الله أو دلالة النص، أو أي شيء آخر، فلا يقصي فَهْمَ غيره، فكلاهما يعبّران عن زاوية من التفكير، وليس عن حقيقة المفكَّر فيه.

ولأن الفكرة نابعة من الإنسان؛ فهي تحمل خصائصه النفسية، ومنها العنف، وبنظري.. أن هذا راجع إلى خاصية التملك المستقرة في كيان الإنسان، فهو إذا ما تملك شيئاً فإنه ينافح بقوة لإبقائه في حيازته. وهناك أحوال في التملك، فقد يتنازل الإنسان عن الأرخص لأجل حصوله على الأثمن، وهذا ينطبق على تملّكه للأفكار، وقد يتنازل عن شيء مادي لما يراه مبدأً، أو يتنازل عن مبدأ أدنى لصالح مبدأ أعلى. وهنا ينبغي أن تتدخل الأخلاق لتهذِّب الفكرة، وتنفي عنها العنف.

ومن خصائص الفكرة.. أنها براجماتية؛ نفعية عملية، فهي تولد تحت ضغط الحاجة، لأن الإنسان ذاته لم يتكوّن وعيه وينمو إلا نتيجة الحاجة، ولولاها لما ارتقى عن منزلة الحيوان. ويتحدد وجود الفكرة وانتشارها بمقدار انتفاع الناس منها، فإذا زالت حاجتهم عن أمر ما أخذ التفكير عنه يتلاشى، فمثلاً.. قبل عقود؛ كان الإنسان يشغل تفكيره في الساعة الميكانيكية: كيف يمكن تطويرها، وجعلها سهلة الاستعمال والإصلاح، وأكثر جاذبية؟ أما اليوم.. فالتفكير فيها محدود؛ يخص طبقة معينة، فعموم البشر لديهم ساعة رقمية، كما أنها غالباً لم تعد مستقلة لتشبع نهماً جمالياً لدى الإنسان، بل انساحت في الحركة اليومية، فلا يفكر فيها بكونها أداةً محتاجاً لها، حيث بإمكانه معرفة الوقت من هاتفه وسيارته وبرامجه الرقمية؛ التي تحسب له الوقت بأجزاء أقل من الثانية. والآن.. ندرك أكثر مما مضى؛ ظهور مخترعات ووظائف اقتضتها الحاجة، واختفاء أخرى استغنت عنها حياة الناس.

والأكثر من ذلك.. أن معتقدنا الديني يقوم على إثارة تفكيرنا البراجماتي، فأنت إن تقيّدت بما جاء به حصلت على منفعة في الدنيا وسعادة في العقبى، وإن أعرضت عمّا جاء به خسرت السعادة الأخروية، وقد تفوتك المنفعة الدنيوية.

وتحكم الأفكار فيما بينها علاقات لا نهائية، فالفكرة.. تعيش في وسط اجتماعي، وتتلبس هذه العلاقات بالمعلومة قبل ولوجها إلى أذهاننا، فلا تفكير بدون معرفة سابقة، وهي معرفة قادمة إلينا من مناطق كثيرة، فعندما نفكر فنحن ندين لما لا يحصى من المفكرين، مما يضعنا أمام «تقليد فكري»، فمثلاً.. معلومة كـ«الباطل» أو «الحق»؛ كانت يوماً ما أفكاراً في عقول عديدة سكّت معناها وألبستها المفهوم الذي وصل لأدمغتنا، وهي أفكار ذات علاقات؛ لو تتبعناها لوجدناها شيئاً عجباً.

والأفكار.. لا تنشأ في أذهاننا مستقلة، وإنما من خلال شبكة من التفكير الخاضع لاعتبارات كثيرة؛ منها: المعلومات الحاصلة لدينا، ومناهج تفكيرنا، ومعتقداتنا الدينية والسياسة، وأوضاعنا الاجتماعية وحالتنا النفسية، شبكة متداخلة ومعقدة تصهر تفكيرنا صهراً لتخرج الفكرة.

قد يقع الإنسان في خطأ التصور نحو أفكاره، عندما يعتقد بأنها اصطناعٌ بحتٌ لعقله مبرأ من كل تأثير، والأخطل.. من يرى بأن وحدها الصواب وما عداها أخاليط وخمّان. مع أن الفكرة لا يمكن الحكم على صوابها أو خطئها إلا بمعيار متفق عليه بين الأطراف المعنية بها، فهي صحيحة وفق ذلك المعيار وبين أولئك الأطراف فحسب، أما خارج هذا الإطار فلها شأن آخر.

والفكرة.. ذات طبيعة متحولة؛ فهي تارة زئبقية، سهلة التشكّل سريعة التغيّر، وتارة أخرى جامدة بطيئة التغيّر، وكل ذلك.. بحسب الوضع الذي توجد فيه، فإن وضعت في دورق ستلزم شكله، وإن كانت طليقة فهي لا يكاد يجتمع لها جامع ولا تستقر في قرار. وهذه الطبيعة؛ لا يمكن وصفها بإيجاب أو سلب، فهي ذاتية في الفكرة، وإنما يمكن تقييمها بالنظر لمفعولها، وبحسب المعيار الذي نحكم بها عليه، وفي الوسط الذي تظهر فيه.

تكون الفكرة مفعمة بالعاطفة عند انبثاقها، فبعض الأفكار يخال صاحبها أنها من قوتها قد تحطم الجبال أو تفلق البحار أو تنشئ خلقاً آخر، وما إن تخرج من ذهنه إلى غيره، فيتعامل معها بكونها معلومة، حتى تفقد كثيراً من وهجها العاطفي، لاسيما.. إن قوبلت بالنقد. والفكرة.. تخبو عاطفتها بمرور الزمن، حتى يصبح وهجها خيطاً لا يكاد تبصره عين، هذا إن لم ينطفِ. ولذلك.. من يعتنق مذهباً جديداً في الحياة تجده متحمساً له؛ يريد أن يطمس معالم مذهبه القديم، حتى يكاد من فرط حماسه أن ينطبق عليه القول السائر: (المحمى على النار أشد إحراقاً من النار).

وبرغم ما ذكرته عن الفكرة فهي تخضع للمنطق، ولا يمكن أن تعمل بدونه، إلا أنه منطق يتشكّل بحسب منهجنا الذهني، وهو منهج متطور ونامٍ باستمرار، بحيث إن كل معلومة؛ جليلة القدر أو دقيقته تؤثر عليه، وتعيد صياغته، وبالتالي.. فالفكرة تخضع للتفكير وفق المنهج الذي يعمل في أدمغتنا. وهذا المنطق ليس بالضرورة مُسلّماً به لدى الجميع، بل يكفي أن يرتضيه الإنسان نفسه، بغض النظر عن صحته أو سقمه في نظر غيره.

والفكرة.. ابنة الوهم، فهي لا تقوم على الحقائق، لأن الحقيقة حقيقة في ذاتها لا في أذهاننا، وهذا قد يراه البعض صادماً، ولكنه واقع تفكيرنا، فمثلاً.. كان الإنسان يرى الكتلة الحديدية صلدة صماء، فبنى على هذه المسلّمة نظام حياته في الاستفادة من الحديد، ولم يكن يخطر بباله بأن معظم هذه الكتلة فراغ، وحتى ما نتصوره عن الحديد الآن؛ قد يأتي ما يكشف بأنه وَهْمٌ. وذلك.. لأن الفكرة تتولد من تصورنا للشيء، وهي ليست الشيء ذاته، وقد صدق المتقدمون عندما كانوا يتكلمون عن أمر ما يقولون: وفي وهمنا. أي.. في تفكيرنا.