الحكم التاريخي الذي أصدرته المحكمة العليا في أستراليا الأربعاء الماضي، وأكدت فيه مسؤولية شركات ووسائل الإعلام عن التعليقات التي ينشرها مستخدمو شبكة فيسبوك على حساباتها، قد يكون له عواقب مستقبلية واسعة النطاق على حرية مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي في التعبير عن آرائهم، والطريقة التي سوف تسمح بها تلك الوسائل لقرائها بالتعليق على منشوراتها، وكيفية تفاعلهم معها على منصات التواصل الاجتماعي.

بهذا الحكم سيكون على مواقع الصحف والإذاعات والمحطات التلفزيونية وحسابات التواصل الاجتماعي الخاصة بها أن تمارس نوعا من الرقابة المسبقة، وأن تراجع تعليقات المستخدمين قبل أن تسمح بنشرها، مثلما كان يحدث قبل سنوات عند ظهور الصحافة الإلكترونية، أو أن تعين محررين رقباء تكون كل مهمتهم متابعة حركة التعليقات، وحذف أي تعليق يرى المحرر أنه يمكن أن يشكل جريمة من جرائم النشر قد تقود الموقع أو الحساب إلى المحاكم.

المؤكد أن هذا الحكم الأسترالي قد يصل صداه إلى مناطق كثيرة في العالم، ويتكرر في دول أخرى كثيرة تنعم فيها تعليقات القراء والمستخدمين على المواقع الإعلامية بحرية كبيرة ولا تتعرض لأي نوع من أنواع الرقابة، وهو ما أدى إلى تحول هذه التعليقات إلى منتديات يتم فيها تبادل السباب والتشهير والإهانات والاتهامات بين المستخدمين بعضهم بعضا من جانب، وبينهم وبين من تتحدث عنهم المادة الإعلامية من جانب آخر.

الواقع أن الرقابة على تعليقات المستخدمين على الأخبار والمقالات والصور التي تنشرها المنصات الإعلامية الرقمية سواء على فيسبوك أو غيره، والتي كان معمولا بها في السابق، تعيد طرح قضية المسؤولية القانونية التائهة بين أطرافها الثلاثة: المنصة الرقمية، ووسيلة الإعلام التي تستخدم هذه المنصة، والمستخدم الذي أدلى بتعليق يتضمن قذفا أو سبا أو إهانة لشخص أو مؤسسة.

وبهذا التفسير القانوني للمحكمة العليا الأسترالية تم حصر المسؤولية الكاملة على المنصة الإعلامية وحدها، ما يعني أنه سيكون عليها لعب دور حارس البوابة، وتقييم كل تعليق وإجازته أو عدم إجازته للنشر.

قصة هذا الحكم الذي أثار الجدل حول حرية التعبير، وقد يغير قواعد التعبير الحر عن الآراء على المواقع الإعلامية وعلى حساباتها على شبكات التواصل، جديرة بأن تروى، حتى نفهم لماذا ألقت المحكمة بالمسؤولية الكاملة على الشركات الإعلامية.

القصة باختصار تعود إلى العام 2016، عندما أقام مواطن أسترالي يدعي ديلان فولر، وهو محتجز سابق في سجن للأحداث، وكان بطلا لفضيحة إساءة معاملة في السجن نشرت وقتها على نطاق إعلامي واسع، دعوى قضائية، بعد إطلاق سراحه، ضد ثلاث شركات إعلامية كبيرة هي «ناين انترتينمنت» المالكة لشركة «فيرفاكس ميديا»، وصحيفة «سيدني مورننج هيرالد»، و»نيوز كورب أستراليا» المملوكة لروبرت مردوخ، وهي شركة تابعة لنيوز كورب، التي تمتلك « قناة «أستراليان نيوز»، وتمتلك أيضًا شركة «داو جونز»، ناشرة صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية ذائعة الصيت، وشبكة «سكاي نيوز أستراليا»، اتهمها فيها بالتشهير به، على أساس أن التعليقات العامة التي نشرت على صفحاتهم على فيسبوك أساءت له واتهمته بارتكاب جرائم ثبتت براءته منها.

وبعد تداول القضايا في المحاكم الأدنى صدر الحكم الأول لصالح فولر في نهاية مايو من العام الماضي عن محكمة في ولاية نيو ساوث ويلز الأسترالية يقر بمسؤولية الشركات الإعلامية عن تعليقات القراء. وهو ما دفع الشركات الثلاثة إلى استئناف الحكم حتى وصل إلى المحكمة العليا التي رأت أن ادعاء الشركات الإعلامية بعدم مسؤوليتها عن تعليقات زوار صفحاتها لم يكن واقعيا، وأن ممارساتها تسهل وتشجع نشر التعليقات من جانب مستخدمي فيسبوك، وهو ما يجعلها مسؤولة عنها قانونيا.

واستندت المحكمة إلى حقيقة أن الشركات الإعلامية تشجع على زيادة المشاركة في منشوراتها لكي يشاهد محتواها جمهورًا أكبر، وهو ما يساعد في جذب المزيد من عائدات الإعلانات.

قرار المحكمة أثار عاصفة من النقد خاصة من جانب شركات الإعلام التي رأت أنه يعني أن وسائل الإعلام لا يمكنها مشاركة أي قصة عبر فيسبوك دون خوف من مقاضاتهم على تعليقات لم ينشروها، وليس لهم سيطرة عليها، كما أنه يخلق حالة استثنائية حيث تكون كل صفحة عامة على المنصات الاجتماعية سواء كانت مملوكة من قبل السياسيين أو الشركات الإعلامية مسؤولة عن تعليقات الجهات الخارجية على تلك الصفحات.

وعبرت تلك الشركات عن خيبة أملها من القرار باعتبار أنه يخنق النقاش الحر، ويعرقل تبادل الأفكار، وسيكون له تداعيات على ما يمكن أن تنشره وسائل الإعلام على شبكات التواصل الاجتماعي في المستقبل، وسيفتح المجال لمزيد من قضايا التشهير التي قد ترفع ضد شركات الإعلام بسبب تعليقات قرائها.

ما الذي يمكن أن تفعله الشركات الإعلامية لحل هذه المعضلة القانونية التي قد تتكرر في دول أخرى؟ في تقديري أن الرقابة المسبقة التي قد تفرضها المنصات الإعلامية على تعليقات المستخدمين قبل نشرها لن تكون مجدية، ويمكن أن تؤدى في النهاية إلى هروب المستخدمين من الموقع إذا تأخر نشر تعليقاتهم أو تم استبعادها، بعد أن اعتادوا على النشر الفوري والحر لهذه التعليقات في السنوات الأخيرة.

في ضوء ذلك يبقى أمام الشركات الإعلامية خياران، الأول أن يتم منحها فرصة لتعديل التعليقات المسيئة في حال تقدم شخص أو جهة بالشكوى منها، وذلك قبل أن يمنح هذا الشخص حق مقاضاة الشركة. أما الخيار الثاني فيمكن اللجوء إليه في حالة رفض الخيار الأول، وهو إزالة التعليق المسيء تماما من الموقع ومن الأرشيف أيضا. ويبقى الملاذ الأخير للهروب من قضايا التشهير بسبب تعليقات المستخدمين أن تمنع الشركات الإعلامية جمهورها من التعليق على القصص التي تنشرها على منصات التواصل الاجتماعي، خاصة وأن هذه المنصات تتيح للناشرين إغلاق التعليقات تماما.

وعلى سبيل المثال بدأت شركة فيسبوك في مارس الماضي السماح للناشرين الذين لديهم صفحات على المنصة بإيقاف التعليقات على منشوراتها، ومنحتهم سلطة تقييد قدرة بعض الأشخاص على التعليق على منشورات محددة. ويبدو هذا الخيار الأخير مستبعدا تماما في الوقت الحالي لأنه يحرم وسائل الإعلام من التواصل مع الجمهور ومن حركة المرور الكثيفة على المواقع الإعلامية، وبالتالي من العائدات والأرباح من الإعلانات. صحيح أن هذا الإجراء يمكن أن يحمي وسائل الإعلام من مزاعم التشهير، ولكنه في نفس الوقت يزيد من صعوبة الترويج لمقالاتها، وكسب إيرادات الإعلانات.

من الصعب توقع ما يمكن أن يؤول إليه الأمر فيما يتعلق بحرية تعبير المستخدمين على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي التابعة لوسائل الإعلام عن آرائهم، ليس في أستراليا وحدها ولكن في العالم كله، خاصة وأن هناك مشرعين وسياسيين أمريكيين يطالبون بالاحتذاء بما فعلته أستراليا، وإجراء تغييرات قانونية تحدد مسؤولية شركات الإعلام عن تعليقات زوار صفحاتها، رغم أن القانون الأمريكي يعفي شركات وسائل التواصل الاجتماعي وكذلك شركات الإعلام من المسؤولية القانونية لما ينشره الأشخاص على الموقع. ويحمي التعديل الأول من الدستور الأمريكي حرية التعبير ويلقى مسؤولية الإثبات في قضايا التشهير على عاتق المدعي وليس على وسائل الإعلام. في ضوء ذلك يمكننا القول إن ما حدث في أستراليا، إذا تكرر في دول أخرى قد يكون إيذانا بنهاية عصر حرية التعبير المفتوحة على منصات التواصل الاجتماعي.