shialoom@gmail.com -

تحتاج المناقشة عن العقد الاجتماعي هنا إلى كثير من الجرأة، وهذه الجرأة ليس معناها الخروج عن أدب المناقشة والحديث، أو الدخول في مناخات الثرثرة المفضية إلى اللاشيء، وإنما تحتاج الجرأة هنا إلى كثير من المعرفة عن حقيقة هذا العقد، والمعرفة عن مجموعة التموضعات التي ينيخ العقد ركابه من خلالها، وسط هذه المعارف والمفاهيم المتداخلة، والمتصادمة حول المفهوم المطاطي المتداول؛ وفق بعض التعريفات التي تشير إليه، وفي ظل فوضى من الممارسات التي تختلط فيها الحقوق والواجبات، فلا يدري أحدنا أهو حق له، أم واجب وهو يمارس شيئا من متطلبات هذا العقد. صحيح أن الأوائل ممن اشتغلوا على موضوع العقد الاجتماعي، حددوه بماهية العلاقة بين الشعوب وحكوماتهم، وهي العلاقة التي تفضي إلى دور الحكومات في توفير الحقوق الطبيعية للفرد، مقابل أن هذا الفرد يتنازل عن بعض من حريته الـ «مطلقة» بحيث تكون مطالبته بحقوقه لا تنزلق في مساحات من الفوضى، وعدم التنظيم.

كما هو حال الحرية المطلقة التي يودها البعض، إلا أن هذا التضييق في التعريف بماهية العقد؛ على ما يبدو؛ لم يستطع أن يلبي متطلبات الجمهور المتوخاة منه، فاتساع الطموحات والآمال لدى الفرد؛ لم تستطع الحكومات التوفيق في تحقيقها بالصورة التي يتوقعها الفرد، حيث تنامى سقف الطموحات إلى الحد الذي خاطب فيه المنطق أن يكون للفرد أيضا دور مهم في تسمين هذا العقد، وفي كرمه، وفي عطائه، وحتى لا تكون المسألة في اتجاه أفقي ممتد يتمثل في عطاء دون مقابل، فالعدالة تقتضي أن يكون لكل حق واجب، وحتى لا تتوقف العلاقة بين الطرفين الحكومات، وأبنائها عند نقطة تكون فاصلة، وذلك خوف الانزلاق في متون الصدامات، وعدم التوافق، وعدم الرضا، وعدم نمو بيئات قابلة لتفريخ القلق، وتوليد المنازعات، ومن هنا؛ على ما يبدو؛ تجيء نشأة البرلمانات لتجسير الهوة بين الطرفين، لتجفيف منابع الشقاق وعدم الوفاق بينهما، فهل انتهت القضية عند هذا الحد؟ تنبثق أهمية هذا العقد؛ وعلى ما يبدو ؛ من خوف الوقوع في براثن المصلحة الذاتية للفرد، أو للمجموعة، لأن هذه المصلحة الذاتية ذاهبة؛ بلا جدال إلى الأنانية، والأنانية سوف تذهب إلى التعدي على مصالح الآخرين، وقد تفضي إلى ارتكاب الأخطاء، وقد تتعاظم هذه الأخطاء إلى مستويات متقدمة حيث الوصول إلى الجرائم، والتي من ضمنها التعدي على حرية الآخرين وحقوقهم المشروعة، وهذا يحصل؛ عادة؛ عندما يستشعر الفرد أن من حقه ممارسة حريته الكاملة، أو المطلقة، وهذا يحصل عندما يغيب القانون عن الممارسة الواعية له من قبل كلا الطرفين، الحكومة – ممثلة في أعضائها المتجاوزين لحدود مسؤولياتهم - ومن قبل الفرد العادي عندما تستحكم فيه الأنانية فلا يرى غير نفسه فقط، وهذه؛ حسب التصور؛ أنها من العوائق الموضوعية التي تواجه مفهوم الـ»عقد الاجتماعي»وتصطدم بمحددات، وتتناقض مع مبادئه والتزاماته، ومن هنا تقتضي الضرورة القصوى أن يكون هناك حارس أمين لهذا العقد، وهذا الحارس له شقان؛ هما: الشق القانوني، وهو المهم هنا، والشق الثاني: هو مجموعة القيم الحاكمة التي يؤمن بأهميتها أبناء المجتمع، ويقرونها كأسلوب مقبول لتطبيق مبادئ العقد دون تكلف، ودون إلزام؛ حيث يحل الاختيار في التنفيذ وفق قناعات الشخص لا أكثر، ولعل الصدق هنا يمتثل أكثر من أي موقف آخر، وهذه الأهمية تمثل شريان حياة يتوزع بين أجسامهم، فلا يرون فيه غير البقاء، فبقاؤه هو حياتهم.

تنطلق الحقيقة «الاجتماعية» التي نادى بها علماء الاجتماع وعدوها منطلقا مهما لمهادنة أبناء المجتمع بعضهم لبعض، من الفطرة البشرية، فالإنسان؛ كما هو معلوم «اجتماعي بطبعه» وهذه الاجتماعية هي التي تتيح له الفرص الكثيرة لأن يوازن بين ما يريده لنفسه، وبين ما يريده الآخرون منه، وقد يعد ذلك «مقايضة» أو سمها ما شئت، ولكنها تبقى حقيقة، وقابليتها للتنفيذ لا تحتاج إلى كثير من إعمال الفكر والاجتهاد، فهي حاصلة بفعل الممارسة المتبادلة بين أبناء المجتمع، صغر هذا المجتمع أو كبر، ومن هنا تحقن الأجيال بهذه الثيمة «الاجتماعية» وينشأون عليها ممارسة، وسلوكا، ووراثة، والسؤال: هل في هذه الممارسة، أو المعايشة، صور من هذا العقد الذي يتحدث عنه؟ وإذا كان غير ذلك فما هي حدود هذا العقد الاجتماعي؛ إذا تم التسليم أن الـ«مقايضة» حاصلة؛ سواء في مستواها الرسمي في علاقة المواطن بالحكومة، أو العكس، أو في مستواها الاجتماعي بين أبناء الحي الواحد، أو القرية، أو الأسرة؟ والإجابة على هذا السؤال تقربنا من النظر في حالة التعقيد المتنامية للتركيبة الاجتماعية «فسيولوجيا وسيكولوجيا» التي تفرض هي الأخرى الكثير من التحديات التي على العقد الاجتماعي مجابهتها، ومن هذه التحديات هي شيوع ثقافة السوق المتنامية بين أفراد المجتمع، وهذه الثقافة تذهب أكثر إلى النظر إلى مبدأ «الربح والخسارة» ولا تلتفت كثيرا إلى مناخات الحالة الاجتماعية، بل ترى في هذه الاجتماعية؛ وهي أساس العقد الاجتماعي؛ شيئا ثانويا، وبالتالي فإن تحقق الإشباع المادي من الربح، يمكن النظر بعد ذلك إلى متطلبات هذا العقد، وإلا يبقى مفهوما فارغا من مضمونه، ولذلك- على سبيل المثال- فلو أجريت إحصائية لعدد الأغنياء في أي بلد، والغنى المقصود به هنا؛ ذلك الغنى الطاغي، أو المتخم، فالنتيجة ستكون أن هناك عددا محدودا منهم، ولكن الواحد منهم قد تتجاوز ثروته إمكانيات الحكومات نفسها، وبصورة أخرى، يمثل حكومة داخل حكومة بما يملكه من ثروات متنوعة، ومتعددة، ولكن مع ذلك، ولأن ثقافة الربح والخسارة متوغلة في ذاته، فلن يلتفت إلى ما يذهب إليه العقد الاجتماعي، مع أن هذا الفرد أو ذاك هو واحد من الذين استفادوا من عطايا هذا العقد في بداية التشكل الأولى لحالة الغنى، وفوق ذلك أنه لو أنفق ما يتجاوز الإنفاق الحكومي في بلده، فلن يسقط من أرصدته ما يستحق الذكر.

وتذهب المقاربة ذاتها في شأن مستويات التحدي التي يواجهها العقد الاجتماعي في كل المجتمعات؛ على ما يبدو؛ وهذه المقاربة تذهب إلى النظر في مناخات العولمة التي تكتسح كل جزئيات حياة الإنسان، وتتوسع أكثر وأكثر ما مرور الزمن، فـ «إلى أي حد يمكن لـ «العقد الاجتماعي» أن يصمد في ظل العولمة إن هو ينطلق أساسا من بساطة المجتمعات»؟ هذه المجتمعات التي مارست حقيقة هذا العقد دون أن تدخل في متون التعريفات والمصطلحات التي استحدثتها الحاجة المعرفية حاضرا؟ يقينا؛ أن الصورة ليست قاتمة تماما، على الرغم مما يستجد من أحداث في هذا الجانب، فلا يزال هناك بصيص أمل لإطالة عمر هذا العقد، فكثيرا ما نسمع عن أيادٍ بيضاء تجاوزت مظان الذات، وتحررت من قيودها إلى حد كبير، نزلت من قمم قصورها بـ»الباراشوت» فأكسبت أوطانها أعمارا جديدة من العطاء والسخاء، وأرّخت في الذاكرة الجمعية أن الدنيا لا تزال بخير، ولكنها تبقى حالات استثنائية، وموسومة؛ أحيانا؛ بمواسم، أو مناسبات، ومع ذلك تبعث على الاطمئنان، وهذا أمر جيد لإطالة عمر العقد الاجتماعي، وإن لم يكن بصورة منتظمة.

يبقى هنا سؤال ختامي؛ وهو: هل هناك علاقة موضوعية بين الـ«عقد الاجتماعي» والـ«صالح العام»؟ سواء من حيث تعريف المصطلح؛ من ناحية، ومن حيث التنفيذ على الواقع من ناحية ثانية؟ ومن حيث الشمولية من ناحية ثالثة؟ ويبدو من خلال الإطار العام أن المصطلحين قريبان جدا من بعضهما من حيث التعريف، ولكنهما يختلفان في جزئيات معينة من حيث الممارسة، حيث يركن الـ«عقد الاجتماعي» إلى المقايضة (حق يقابله واجب) أكثر، بينما تذهب الصورة في شأن الـ«صالح العام» إلى مصلحة مشتركة تهم الجميع، وعلى هؤلاء الجميع المحافظة عليها، سواء أكان هذا الجميع تجمعهم خصوصية معينة كأسرة، أو أصدقاء، أو تتسع الصورة لتشمل مجتمعا أكبر كوطن.