هدى حمد

هل تحتمل الثقافةُ الفكرةَ الحالمةَ التي آمن بها رامبو حول قدرتها على تغيير العالم؟ أو هل تحتمل رفض بودلير للعالم النَّفْعي؟ ربما بات من الصعب تمني حالة مثالية بهذا المعنى، ولكن بالمقابل من الصعب أيضا الانغماس في مجتمعات ذات طابع استهلاكي وحسب!

في بلد كعُمان بكل حمولاتها التاريخية والسياسية علينا أن نعول على الثقافة بأشكالها المختلفة، أن تكون رهاننا، لا أن تكون أول ما يُقدم كقربانٍ في أي أزمة اقتصادية. فالكثير من الأنشطة الثقافية تتلاشى تدريجيا، بعضها توقف قبل كوفيد-19 مثل «الملتقى الأدبي» و«مهرجان الشعر» و«مهرجان المسرح»، وبعضها ارتبط توقفه بالوباء، كجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب!

ولا نعرف على وجه الدقة، إن كانت المؤسسات الثقافية في فترة نقاهة، أو أنّها ترسمُ استراتيجية تروم خلق أفق جديد ما أن تنكشف غُمّة الوباء!

ولكن في كل الأحوال، ينبغي للثقافة ألا تُهمش لمجرد أنّها تنتجُ عقولا تتحلى بروح النقد، ولديها قلق السؤال والتفكير الذي يتجاوز الحالة القطيعية. فالثقافة بمعناها العريض تمنحُ فرصا للعيش على نحو أفضل، «فالوعي المُصوغ عبر الثقافة يجعل الكائنات الإنسانيّة قادرة على الدفاع عن نفسها أكثر، وأن تستمتع بالحياة أكثر، أو أن تعاني أقلّ»، فلسنا بحاجة لتربية مجتمعات «الإذعان السلبي» كما يصفها يوسا في كتابه «حضارة الفُرجة».

ولأن الثقافة حلقات متصلة ببعضها، تبدأ من مقاعد الدرس المدرسي والجامعة وليس انتهاء بالمؤسسات الثقافية الحكومية منها والمدنية، نلحظُ أنّ التعليم مُتقاعس هو الآخر عن توفير السبل للأفراد ليصبحوا مُبدعين، ليس فيما يتعلق بالفنّ والأدب وحسب، بل في أغلب المجالات تقريبا.

لا أدري من أين التقط ابني هذه الجملة وظل يرددها: «نحن نُفرخُ عمالا لا مُتعلمين» وبقدر دهشتي، إلا أنّ تلك الجملة على بساطتها تشي إلى أي درجة نحن نُعنى بربط التعليم بالعمل، لا بالقيمة المعرفية ولا بعلاج الخواء الروحي لدى أبنائنا!

ما نشهده الآن هو حالة من التراخي، قد تؤثر سلبا في القدرة على استقطاب الشباب، الأمر الذي يؤدي لضياع أصواتهم الشخصية والمتفردة في محاولة تمييعها في الصوت العام، الأمر الذي لن يؤدي لحالة من التجانس كما نظن، وإنّما لحالة من التشويه!

لم يعد ممكنا منع الشباب من الانخراط في السوشال ميديا ولا منع سيلان الوسائط الجديدة بمديحها المجاني أو سخطها الصاخب. ولا ينبغي لوسائل التواصل الاجتماعي أن تُصبح بُعبعا مُرعبا، ففي جانبها المضيء، منحتْ أصواتا عديدة حقها في الظهور، وما كانت لتظهر لو حكرنا الثقافة في الأشكال التقليدية. ولكن السؤال: كيف يمكن -جوار هذا العالم الافتراضي- أن ندعم المنصات الواقعية!

ما زلنا نتذكر الملتقيات الأدبية على اختلاف مشاربها، وما أحدثته من ضجيج وأسئلة وصخب، وما أفرزته من أجيال متتابعة من الكتاب والباحثين في عُمان. كانت الملتقيات شكلا واقعيا انفعاليا يحركُ الحيوية المرغوبة بين الأوساط، ولا ينبغي أن تختفي بهذه السهولة!

ولأنّ الثقافة لا تنفصل عن الحرية أيضا، فمن الصعب رفع كفاءتها، إذا لم نتعاف بعد من أفكارنا الجاهزة، فنظن أن الكتب -على سبيل المثال- تُشكل خطرا على المجتمعات، أو نشعر بقلق حيال تداول الأفكار الجديدة، فالمجتمعات القوية تثبتُ دائما أنّها تنهض على تدافع الأفكار لا على ثباتها.

وجود جائزة محلية رفيعة المستوى للعُمانيين، تتضمن كل الأشكال الكتابية والفنية، تُصاغ على نحو من الجدية وبمجلس أمناء، ولجان تحكيم عريقة، بات أمرا ضروريا، لصنع فارق حقيقي، لنقدم أسماء جادة من عام لآخر، دون أن ندعي المثالية ونتجاهل أهمية البعد المادي، ليتفرغ المثقف والفنان لما يعود بالنفع عليه وعلى المجتمع عموما.

قد يتبدى للقراء أنّ في هذا دفاعًا عن رغبات فئة صغيرة ونخبوية، هي الفئة المثقفة، ولكن في حقيقة الأمر، الثقافة والحرية يحتاجها الجميع كأسلوب للحياة.