محمد جميل أحمد

يبدو عالمنا اليوم، أكثر بعداً عن أي تصنيف مستقبلي يمكن توقعه له، من واقع ما يجري فيه. فبالأمس، فيما كانت فكرة «التقدم» هي التي تمنح الناس ثقةً عظيمة ومتفائلة بالمستقبل، لا يمكننا اليوم أن نتنبأ بمستقبل عالمنا، لاسيما في ظل انفجار ثورة المعلوماتية والاتصالات التي خلطت أوراقاً كثيرة.

لقد كان عصر الحرب الباردة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يتطلع إلى غد أفضل، بعد أن عرفت القوى الكبرى التي قادت الدمار في تلك الحرب معنى عبثية الحرب الكونية الثانية، لهذا فيما كان الإيمان بمستقبل السلم والأمن الدوليين هو السائد، كان هناك في أوساط قلة من الفلاسفة السياسيين من أمثال الفيلسوفة الألمانية «حنة آرندت» يسود خوف من حرب نووية، نسبةً لأن القوة الذرية التي أنهت الحرب العالمية الثانية بسقوط القنبلة الذرية على اليابان، كانت قد تطورت بعد عقد ونصف من تاريخ إلقاء القنبلة الذرية إلى قنبلة نووية تجاوزت قوتها التدميرية بدرجات أكبر.

ولكن لأن السلاح النووي سلاح ردع، غير قابل للاستخدام في الحروب التقليدية؛ فإن ذلك كان بمثابة طمأنينة ما لصانعي سياسات العالم.

بنهاية الحرب الباردة «سقوط جدار برلين» «تفكك الاتحاد السوفيتي» نهاية ثمانينيات القرن الماضي وبداية تسعينياته، بشر بعض الفلاسفة الأمريكيين بعصر جديد، وتنبأ المفكر الأمريكي فوكياما بما أسماه: «نهاية التاريخ» في إشارة إلى أن الليبرالية الغربية هي أرقى شكل للحياة الإنسانية التي ستستقر عليها نهاية الإنسان المتحضر، وأنه ليس هناك نهاية أخرى يمكن أن يخترع البشر عبرها صيغة للعيش أجدى من الليبرالية الغربية.

وفيما كان الأمريكيون يبشرون بالنظام العالمي الجديد ذي القطب الواحد، على إيقاع العولمة وثورة المعلومات والاتصالات، كانت المفاجأة أن إحدى ردود الفعل السريعة لفوضى عالم ثورة المعلوماتية والاتصال، هي كارثة 11 سبتمبر 2001 الإرهابية على يد جماعة القاعدة، وبدا واضحاً أن العالم منذ ذلك الحدث انعطف إلى وجهة جديدة؛ لأن التسريع الذي عكسه نقل الأحداث الإرهابية الكبرى نقلاً معولماً مع تغطيات وسائل البث، كان يعود بردود أفعال متعددة الوجهة والمكان في العنف والعنف المضاد، وتأكد لكثير من المفكرين الاستراتيجيين في العالم، أن التعقيد الذي جلبته العولمة للعالم بربط أطرافه على نحو يجعله ذا مصير واحد، ستكون له ضريبةً كبرى لابد أن يدفعها العالم، وأن الإرهاب الذي بدا في عنفه المعولم جزءاً من ظاهر العولمة ذاتها، ستكون الحرب عليه مسألة في غاية التعقيد، لا تعد إلا بزمن دائري للعنف! فرغم فظاعات الحرب العالمية وأهوالها، كانت هناك إمكانية لإنهائها؛ لأنها كانت حرباً بين دول وكيانات مادية لها شخصيتها الاعتبارية، ويمكن من خلالها التعامل مع قواعد محددة لإدارة الحرب والسلم في العالم، لكن في حرب الإرهاب المعولم هذا، أصبح للمنظمات الإرهابية أشكالاً هلامية لا وجود محدد لها أو كيان، وإنما هي قدرات مميتة لجماعات متطرفة جعلت من هشاشة الحياة المفتوحة في مدن العالم الحديث ميداناً لضرباتها الإرهابية، مما جعل الأمر عسيراً جداً.

فحركة تلك الجماعات والأفراد مستغلةً أدوات العولمة ومعرفة العولمة على نحوٍ براجماتي أصبحت حركة غير مضبوطة بحيث لا يتوقع أحد من أين تأتي الضربات الإرهابية.

واليوم في زمن كورونا، وما ألحقته بالعالم من أضرار وما كشفت عنه من مفاجآت، يبدو أن العالم أيضاً يمر بمنعطف جديد، فمن حيث لا يتوقع أحد بدا لوهلة أن العجز عن مواجهة كورونا في شهورها الأولى من الانتشار قد أعاد العالم قروناً إلى الوراء من عدم القدرة على فعل أي تدابير وقائية، ماعدا تدابير التباعد الاجتماعي، وأصبح المرض الذي حاصر العالم وذكَّره بماضيه البعيد، كاشفاً عن عجز الإنسانية كلها لشهور، وعدم قدرتها على مواجهة فايروس كورونا تحدياً لم يكن في حسبان البشر من قبل.

إن أخص خصائص ثورة المعلوماتية والاتصال، أنها فيما تعزز تواصل البشر عبر الوسائط، فإنها كذلك تعزز أكثر فأكثر فقدَ قدرتهم على التعمق في حقائق الأشياء عبر المعرفة، ومن ثم أصبحت القدرة على الحصول على المعلومات بديلاً لهوية البحث والمعرفة وعادات القراءة الضرورية لوعي العالم بصورة أكثر دقة. ومع هذا النمط المتسارع سيكون عسيراً فهم مستقبل العالم، بحيث يمكننا القول أنه: مستقبل غامض!