عمّان - العمانية:
تعلّق التشكيلي والخزّاف الأردني الراحل محمود طه بمفردة الطين منذ طفولته، فقد كانت تغوص فيه قدماه في فصل الشتاء حين يضطر للسير إلى مسافات طويلة نحو مدرسته في بلدة يازور الفلسطينية التي وقعت تحت الاحتلال في عام 1948 وهُجِّر سكانها قسرًا.
وغدا الطين لعبة محمود طه الأثيرة؛ إذ كان يقوم بجمع كتل الطين المتشكّلة في برك الماء الصغيرة ويصنع منها تشكيلات متنوّعة من الدمى والألعاب والبيوت وغيرها من التكوينات العفوية البسيطة، وبعد أن لجأ الفنان مع عائلته في المخيمات الفلسطينية صار الطين يمثّل له سلسلة من المعاناة، حيث أرضية الخيمة طين، العيش وسطه والتعايش معه أمر لا مفر منه ولا بديل عنه، ومن تلك التجربة، تغيّرت نظرة الفنان للطين الذي أصبح مادة للتعبير عن القهر والبؤس بعد أنْ كان مادة للّعب والتسلية.
وحين انضم محمود طه إلى أكاديمية الفنون في بغداد، عام 1963، عاد التوافق بينه وبين الطين من جديد، وبشكل منهجي ودراسي، فأخذ يُطوِّر أساليب تعامله مع هذه المادة التي رأى فيها قدرةً على بناء علاقات جديدة مع الأشياء حوله، والتعبير عن الرؤى والأفكار التي تشغله، وعلى رأسها همّه الوطني وقضيّته الفلسطينية، وقد استند في ذلك إلى مرجعيّته الثقافية هو المحبّ للشعر، وعلى ثقافته القومية العربية والإسلامية، ولهذا بدأ إنجاز أعمال ذات مضامين فنية وإبداعية ثرية، تقترب من روح المتلقي وتلامس هواجسه الإنسانية.
وفي وقتٍ لاحق، طوَّر الخزّاف محمود طه تقنياته التي يشتغل عليها، لتتنوَّع بين الطباعة والجرافيك والسيراميك والنحت، واستثمر الخط العربي بعد أن شُغِف بتكويناته، فأنجز قطعًا غاية في الجمال نُقشت عليها عباراتٌ بأعقد الخطوط العربية من مثل الثُّلُث والكوفي القديم، وقد تعامل الفنان مع الخطّ باحترام شديد لقواعد كتابته وزواياه ومنحنياته، إذ يقول في أحد الحوارات معه: "الخط العربي من أهم عناصر الفنون الإسلامية، فقد استخدمه المسلمون في العِمارة والخزف وأشغال المعادن والخشب، بدأ ذلك من الخط الكوفي ثم تعددت أشكاله وبلغت ذروتها في بداية القرن العشرين".
ويُضيف: "التعامل مع الخط العربي للاستفادة من عناصره في الفن التشكيلي، مسألةٌ سليمة بالأساس ومن حيث المبدأ، وقد انطلقتْ بداياتها من مصر والعراق، غير أنّها أصبحت الآن، وفي الكثير من الأعمال التشكيلية، مجرّد تقليعة، لا يمكن النظر إليها بما ينطوي عليه الأصل من بُعد حضاري، أو كقيمة إبداعية حقيقية؛ لكثرة ما أصابها من امتهان وإسفاف".
ومن آرائه في هذا المجال أنّ الذين يدّعون بأنّ الحروفية من الخصائص الواضحة في حركة التشكيل العربية يستندون في ذلك إلى قاعدة غير دقيقة؛ ذلك أن كثيرًا من الفنانين في إيران وماليزيا وباكستان وغيرها من الدول الإسلامية يستخدمون الحروفية بإتقان شديد ومستويات فنية عالية.
المتأمل في أعمال محمود طه الحروفية، يجد شغفًا لديه تجاه الخط العربي، وهذا ما جعله شديد الالتزام بقواعد كتابته الصحيحة، ومؤمنًا بأنّ هذه التشكيلات لا يُمكن أن تُغرق الفن في المحلية، بل هي توصل الصوت المحلي إلى العالمية.
وربما يعود سبب اعتماد محمود طه في عدد لا يُستهان به من أعماله على الخط العربي، أنّه كان مولعًا بالشعر، ومن اشتغالاته البارزة في هذا المضمار ما قدّمه من أعمال تعتمد على قصيدة "البحث عن عبدالله البري" للشاعر الفلسطيني وليد سيف، وتمكّن الفنان من خلالها من الكشف عن مساحات جديدة في بناء اللوحة التي احتشدت بالرموز والعناصر، وبرهنت على جماليات التزاوج بين أشكال الفنون والإبداعات على اختلافها.
وفي أعماله المنفَّذة بالخزف، استطاع محمود طه أن يقدِّم قطعًا فنية جمالية تعبّر عن القضية الفلسطينية، وهي قطع تحمل في طياتها الكثير من المعاني والرموز التاريخية والأحداث الحياتية التي عاشها الفنان والأشكال التي خلّدتها ذاكرته لبلدة طفولته، كما نرى في الأعمال التي ضمّها معرضه "المقامة العاشرة: ورق وطين وذاكرة" (2012)، حيث استلهم تكويناته من قِباب مساجد القدس وقبة الصخرة المشرّفة، وأضاف لها العديد من الرموز التي تؤكّد الحق العربي في فلسطين المحتلة، وتُظهر وحشية المُمارسات الاستيطانية ومحاولات تهويد المدينة المقدّسة.
وكثيرًا ما ردّد طه في تصريحاته: "القضية الفلسطينية والموضوع الفلسطيني وموضوع اللاجئين تشغلني كثيرًا وأفكّر بها كثيرًا؛ لأنني عشت نصف حياتي في مخيم للّاجئين وأعرف أيّ معاناة يعيشها اللاجئ".
وفي معرض طه الشهير الذي حمل عنوان "المقامة العاشرةـ ورق وطين وذاكرة- 3" (2010)، حضرت مفردات القِباب والمآذن والتجسيد التعبيري للجسد الإنساني وتكثفت عبر المساحات اللونية وأسطح اللوحات، وفي عمله "الضمائر المنفصلة" تحديدًا، أراد الفنان التعبير عن بؤس الخطاب السياسي تجاه الصراع الذي يدور على أرض فلسطين. أما في عمله "الضمائر المنفصلة"، فقد حاول ربط هذه الضمائر وما تشير إليه من دلالات بالهم الوطني والقضية عبر التكوينات الدلالية والتوزيع اللوني والملمس أيضًا.
ظل الهمّ الوطني ملازمًا لمحمود طه في جلّ معارضه، كما في "تواقيع على هوامش العهدة العمرية" الذي ضم أعمالاً أنجزها بعد زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى الكنيست الإسرائيلي، وكذلك "مسافات للوطن والذاكرة" و"مقامات الوطن والذاكرة" و"المقامة العاشرة: ورق وطين وذاكرة 1+2"، إذ ظل هذا الفنان الذي توفي يوم 6 فبراير 2017، وفيًا لقضيته، ومعبّرًا عنها بصيغ جمالية لا تخلو من التجديد والتطوير والتجريب.
تعلّق التشكيلي والخزّاف الأردني الراحل محمود طه بمفردة الطين منذ طفولته، فقد كانت تغوص فيه قدماه في فصل الشتاء حين يضطر للسير إلى مسافات طويلة نحو مدرسته في بلدة يازور الفلسطينية التي وقعت تحت الاحتلال في عام 1948 وهُجِّر سكانها قسرًا.
وغدا الطين لعبة محمود طه الأثيرة؛ إذ كان يقوم بجمع كتل الطين المتشكّلة في برك الماء الصغيرة ويصنع منها تشكيلات متنوّعة من الدمى والألعاب والبيوت وغيرها من التكوينات العفوية البسيطة، وبعد أن لجأ الفنان مع عائلته في المخيمات الفلسطينية صار الطين يمثّل له سلسلة من المعاناة، حيث أرضية الخيمة طين، العيش وسطه والتعايش معه أمر لا مفر منه ولا بديل عنه، ومن تلك التجربة، تغيّرت نظرة الفنان للطين الذي أصبح مادة للتعبير عن القهر والبؤس بعد أنْ كان مادة للّعب والتسلية.
وحين انضم محمود طه إلى أكاديمية الفنون في بغداد، عام 1963، عاد التوافق بينه وبين الطين من جديد، وبشكل منهجي ودراسي، فأخذ يُطوِّر أساليب تعامله مع هذه المادة التي رأى فيها قدرةً على بناء علاقات جديدة مع الأشياء حوله، والتعبير عن الرؤى والأفكار التي تشغله، وعلى رأسها همّه الوطني وقضيّته الفلسطينية، وقد استند في ذلك إلى مرجعيّته الثقافية هو المحبّ للشعر، وعلى ثقافته القومية العربية والإسلامية، ولهذا بدأ إنجاز أعمال ذات مضامين فنية وإبداعية ثرية، تقترب من روح المتلقي وتلامس هواجسه الإنسانية.
وفي وقتٍ لاحق، طوَّر الخزّاف محمود طه تقنياته التي يشتغل عليها، لتتنوَّع بين الطباعة والجرافيك والسيراميك والنحت، واستثمر الخط العربي بعد أن شُغِف بتكويناته، فأنجز قطعًا غاية في الجمال نُقشت عليها عباراتٌ بأعقد الخطوط العربية من مثل الثُّلُث والكوفي القديم، وقد تعامل الفنان مع الخطّ باحترام شديد لقواعد كتابته وزواياه ومنحنياته، إذ يقول في أحد الحوارات معه: "الخط العربي من أهم عناصر الفنون الإسلامية، فقد استخدمه المسلمون في العِمارة والخزف وأشغال المعادن والخشب، بدأ ذلك من الخط الكوفي ثم تعددت أشكاله وبلغت ذروتها في بداية القرن العشرين".
ويُضيف: "التعامل مع الخط العربي للاستفادة من عناصره في الفن التشكيلي، مسألةٌ سليمة بالأساس ومن حيث المبدأ، وقد انطلقتْ بداياتها من مصر والعراق، غير أنّها أصبحت الآن، وفي الكثير من الأعمال التشكيلية، مجرّد تقليعة، لا يمكن النظر إليها بما ينطوي عليه الأصل من بُعد حضاري، أو كقيمة إبداعية حقيقية؛ لكثرة ما أصابها من امتهان وإسفاف".
ومن آرائه في هذا المجال أنّ الذين يدّعون بأنّ الحروفية من الخصائص الواضحة في حركة التشكيل العربية يستندون في ذلك إلى قاعدة غير دقيقة؛ ذلك أن كثيرًا من الفنانين في إيران وماليزيا وباكستان وغيرها من الدول الإسلامية يستخدمون الحروفية بإتقان شديد ومستويات فنية عالية.
المتأمل في أعمال محمود طه الحروفية، يجد شغفًا لديه تجاه الخط العربي، وهذا ما جعله شديد الالتزام بقواعد كتابته الصحيحة، ومؤمنًا بأنّ هذه التشكيلات لا يُمكن أن تُغرق الفن في المحلية، بل هي توصل الصوت المحلي إلى العالمية.
وربما يعود سبب اعتماد محمود طه في عدد لا يُستهان به من أعماله على الخط العربي، أنّه كان مولعًا بالشعر، ومن اشتغالاته البارزة في هذا المضمار ما قدّمه من أعمال تعتمد على قصيدة "البحث عن عبدالله البري" للشاعر الفلسطيني وليد سيف، وتمكّن الفنان من خلالها من الكشف عن مساحات جديدة في بناء اللوحة التي احتشدت بالرموز والعناصر، وبرهنت على جماليات التزاوج بين أشكال الفنون والإبداعات على اختلافها.
وفي أعماله المنفَّذة بالخزف، استطاع محمود طه أن يقدِّم قطعًا فنية جمالية تعبّر عن القضية الفلسطينية، وهي قطع تحمل في طياتها الكثير من المعاني والرموز التاريخية والأحداث الحياتية التي عاشها الفنان والأشكال التي خلّدتها ذاكرته لبلدة طفولته، كما نرى في الأعمال التي ضمّها معرضه "المقامة العاشرة: ورق وطين وذاكرة" (2012)، حيث استلهم تكويناته من قِباب مساجد القدس وقبة الصخرة المشرّفة، وأضاف لها العديد من الرموز التي تؤكّد الحق العربي في فلسطين المحتلة، وتُظهر وحشية المُمارسات الاستيطانية ومحاولات تهويد المدينة المقدّسة.
وكثيرًا ما ردّد طه في تصريحاته: "القضية الفلسطينية والموضوع الفلسطيني وموضوع اللاجئين تشغلني كثيرًا وأفكّر بها كثيرًا؛ لأنني عشت نصف حياتي في مخيم للّاجئين وأعرف أيّ معاناة يعيشها اللاجئ".
وفي معرض طه الشهير الذي حمل عنوان "المقامة العاشرةـ ورق وطين وذاكرة- 3" (2010)، حضرت مفردات القِباب والمآذن والتجسيد التعبيري للجسد الإنساني وتكثفت عبر المساحات اللونية وأسطح اللوحات، وفي عمله "الضمائر المنفصلة" تحديدًا، أراد الفنان التعبير عن بؤس الخطاب السياسي تجاه الصراع الذي يدور على أرض فلسطين. أما في عمله "الضمائر المنفصلة"، فقد حاول ربط هذه الضمائر وما تشير إليه من دلالات بالهم الوطني والقضية عبر التكوينات الدلالية والتوزيع اللوني والملمس أيضًا.
ظل الهمّ الوطني ملازمًا لمحمود طه في جلّ معارضه، كما في "تواقيع على هوامش العهدة العمرية" الذي ضم أعمالاً أنجزها بعد زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى الكنيست الإسرائيلي، وكذلك "مسافات للوطن والذاكرة" و"مقامات الوطن والذاكرة" و"المقامة العاشرة: ورق وطين وذاكرة 1+2"، إذ ظل هذا الفنان الذي توفي يوم 6 فبراير 2017، وفيًا لقضيته، ومعبّرًا عنها بصيغ جمالية لا تخلو من التجديد والتطوير والتجريب.