توطئة تاريخية: قاد أحمد بن فضلان بعثة دينية سياسية بتكليف من الخليفة العباسي «المقتدر بالله» وذلك في عام 921 (309هـ) حيث خرجت من بغداد إلى قلب القارة الآسيوية في مكان عُرف وقتها باسم «أرض الصقالبة»؛ تلبية لطلب ملكهم في التعريف بالدين الإسلامي، فقَدَّم وصفًا دقيقًا خاصًا ببلاد الروس.

قضى ابن بطوطة محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي، نصف حياته بالتجوال عبر مساحاتٍ شاسعةٍ، وتنقّل في أكثر من 40 دولة؛ حيث انطلق وغادر المغرب إلى منطقة الشرق الأوسط، وتابع التجوال في العالم الإسلاميّ، وبعد مرور تسعة وعشرين عاماً عاد إلى وطنه، ثم سجّل رحلاته الطويلة في كتاب الرحلة. (بتصرف؛ مجموعة مصادر).

يبحث الطرح هنا في: أن هناك علاقات مفاهيمية معرفية بين مجموعة من الفضاءات التي نعيشها، ويأتي في مقدمتها: الفضاء المادي المحسوس والمشكل للجغرافيا، وللتواصل القائم بين الناس بصورة مباشرة، والفضاء الإلكتروني «اللامتناهي» الذي يحل اليوم بديلا منافسا، في حياتنا كبشر، ومجموع العلاقات القائمة، والمتداخلة بين الفضاءين، وقدرة هذا الإنسان على التعامل مع كليهما بما يحقق له نجاح مشروعاته الحضارية الكمية والنوعية، بصفته الكائن الوحيد في هذا الوجود، المعزز بالعقل الراجح، بخلاف كل الكائنات الأخرى التي يتقاسم معها هذه الحياة على هذا الكوكب الذي يشهد تنافسا غير منكور بين كل مكوناته العاقلة وغير العاقلة، وقدرة العاقلة على توظيف كل ما من شأنه أن يواصل من خلاله هذا المشروع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

يأتي الاستشهاد هنا بهذين الرمزين أعلاه؛ العالمين: أحمد بن فضلان، ومحمد بن عبدالله (ابن بطوطة) على الرغم من المسافة الزمنية الكبيرة التي تفصل بين جهديهما، للوقوف على الدلالات المعرفية التي تبناها هذا الإنسان، ولا يزال بحثا عن المعرفة، هذا البحث الذي جره كثيرا، ليس فقط لتحقيق هدف محدد بموضوع محدد، بقدر ما فتح له آفاق المعرفة الرحبة، وإذا كان أولئك الأوائل تجشموا العناء للبحث عن هذه المعرفة، فهؤلاء اليوم، قربت لهم الأداة المستخدمة للبحث عن هذه المعرفة، ولكنها معرفة ظلت عصية على الفهم إلا بالقدر الذي تبذل من خلاله الجهود الكبيرة، والخلاقة للوصول إليها في صورتها الحالية، صحيح أن علماء اليوم لن يكونوا مضطرين إلى الترحل بعيدا، وليسوا مضطرين كثيرا لأن يجولوا القارات السبع لكي يحصلوا على هذه المعرفة، فيكفي أن يكون أحدهما في مختبره: في بيته، أو جامعته، أو مشفاه، لينجز ذلك الكم النوعي من الإنجاز المعرفي الدقيق والنوعي، الذي قد يصدم به العالم في قاراته السبع، محققا بذلك مكسبا معرفيا مميزا، حتى يأتي آخر فينجز كما معرفيا آخر، في مجال مختلف، أو في المجال ذاته، وهكذا تظل مسيرة المعرفة متجددة، في كل عصر، اختلفت الأداة، وبقي الإنسان هو الفاعل الحقيقي فيها.

نستشف من المدد الزمنية التي قضاها كل من: (ابن فضلان؛ التي احتاج فيها (11) شهرا من مكابدة المخاطر، وكتب وصف رحلته في عام (924) وابن بطوطة الذي غيبته الرحلة (29) عاما حتى عودته إلى بلده المغرب، أن استقصاء الإنسان للمعرفة لن تعترض طريقه لا الجغرافيا بفضاءاتها المكانية «الحسية» ولا العمر بفضاءاته الزمنية، ولا العزيمة بمراوحات الحالة (الصحة/ المرض) ولأجل ذلك يتسيد الإنسان الأرض؛ بما أتاه الله من قوة الفكر والجسد، مطوعا بذلك كل ما من شأنه أن يعزز مشروعه الحضاري المبدع، الذي يناهز به مخلوقات الكون التي يتقاسم معها الحياة اليومية، فامتطى البحر والسماء، وروض الكائنات، وأذاب الصخور الصلدة، وخاص في عمق البحث باحثا عن أدق الحيوانات المتناهية في الصغر، مفتتا خصائصها البيولوجية، ومفندا تركيباتها الجينية عبر مجموعة من الـ «ميكروسكوباته» المتناهية في الصغر، وذاهبا إلى الأبعد من ذلك؛ مستغلا ما يتيحه له الله من جلال المعرفة، وسمو الفكر (وعلم الإنسان ما لم يعلم) نعم؛ شكل الفضاء المكاني أهمية خاصة في عهد هذين العالِمين الجليلين في زمانهما، ولذلك كابدا المشاق والمخاطر، كل في رحلته الخاصة، فهل يكابد رحالة اليوم، وعلماؤه هذه المشاق والمخاطر، وهم متموضعون في مربعهم الخاص الذي لا يتجاوز مساحة (600) متر مربع في زاوية من زوايا المكان الذي يعيشون فيه؟ يبدو أن هناك علاقات يمكن أن تنشأ بين الفضاءات المتناهية الممثلة عبر الكرة الأرضية بقاراتها السبع (المختلف على عددها) ولو أدى الرجوع بعد دوران الأرض العودة إلى النقطة ذاتها؛ وبين الفضاءات اللا متناهية؛ التي يعزو نشأتها في العصر الحديث، مع وجود التقنية الحديثة الممثلة في فضاءات الإنترنت- شبكة المعلومات؛ واسعة الانتشار- وهذه العلاقات يظل محورها هو المعرفة، والذي يقود هذه المعرفة هو هذا الإنسان، الذي يطورها، ويحسنها، ويعلي من شأنها مع كل فترة زمنية تمر عليه في هذه الحياة، مع اختلاف الأجيال، وتجدد الفضاءات المعرفية المتناهية، بفعل التقادم، والمتجددة بفعل فكرة هذا الإنسان الذي لن تحده حدود المعرفة ليقف عند نقطة معينة محددة، إلا ويذهب في بحثه عن نقطة أخرى من شأنها أن تفتح له آفاقا كثيرة، وكبيرة، ومعقدة، من المعرفة، ولا يزال كذلك حتى آخر نفس من عمره.

يمكن الإشارة هنا أيضا؛ إلى أن فضاءات الأمكنة المحسوسة، وهي المشحونة بالأخطار والمفاجآت والمعالجات، والأخذ والرد، والحروب التقليدية، لم تعد- في عرف تحصيل المعرفة اليوم- ذلك البعد المثقل بالهموم، أو تمثل حجر عثرة، ويعد تجاوزها مكابدة غير مأمونة النتائج، لا أبدا، تظل فقط، ضمن الأسباب المحتملة التي يمكن تجاوز مخاطرها في أية لحظة يتخذ فيها قرار البدء، ولعلنا عايشنا ولا نزال تداعيات جائحة العصر (كورونا - كوفيد19) وكيف أثرت إلى حد كبير في مشروعات الإنسان اليومية، ولكن لم توقفه مطلقا عن مواصلة مختلف هذه المشروعات، حيث حل الفضاء الإلكتروني كحل بديل في أسرع وقت، وأقل ضرر، فالمؤتمرات؛ بعناوينها المتنوعة قائمة، ومجموع الطلبة على امتداد الكرة الأرضية يواصلون دراساتهم بمختلف مستوياتها المدرسية والجامعية، متجاوزين الفروقات الزمنية بين دولة في الشرق وأخرى في الغرب، والموظفون يواصلون أعمالهم من شتى بقاع العالم؛ وينجزون مسؤولياتهم لمكاتبهم في المؤسسة «الأم» بكل أريحية واقتدار، ولم نعلم أن الحياة توقفت عند نقطة معينة، لأن طائرة ما تعطلت، أو سفينة ما واجهت فياضانات ورياحا شديدة عصفت بها إلى إحدى الشواطئ العالمية، كل هذا لم يعد حاضرا حتى اللحظة، وهذا الأمر لا ينفي إطلاقا، أن الفضاءات الإلكترونية «اللامتناهية» مأمونة المخاطر، فهي تتعرض لمخاطر كبيرة، وسريعة، وقد تكون خطورتها مضاعفة عن سابقتها، ولكنها تبقى سريعة؛ متجاوزة الزمن المطلوب؛ ومريحة؛ حيث إن الجميع في مكانه، بلا تكلف؛ وغير مرهقة ماديا؛ وتظل رخيصة التكاليف.

تتوالى ولادة الفضاءات اللامتناهية؛ سواء على مستوى المعرفة، أو على مستوى الفضاءات الكونية؛ التي تماهت هي الأخرى لتكون فضاء واحدا غير محدود، بفعل التقدم المعرفي المتحقق على المستوى البشري، وإذا كان الفضاء الجغرافي الذي ولد عليه الإنسان؛ وجده الإنسان هكذا واقعا محدودا بمحدده الجغرافي (بحار؛ جبال؛ صحارى) لا يمكن تغييره، واحتار في استقصائه لسنوات النشأة الأولى، لضعف وسيلة التنقل البدائية الأولى، فإنه مع تقدم هذه الوسيلة استطاع أن يجوب مشارق الأرض ومغاربها على امتداد سنوات المعرفة المتقدمة في العصور الزمنية المتأخرة، ومع ذلك، فهذا الإنسان اليوم يعيش ذات التحدي في استقصاء الفضاءات اللا متناهية سواء في جانبها المعرفي، أو في جانبها الكوني الممتد، متحررا من كل المشاق، والمخاطر المادية؛ على وجه الخصوص؛ ومتجاوزا قدراته المادية، ومفسحا المجال لقدراته المعنوية من الإبداع، والخيال اللامتناهي، إلى حد بعيد، ولا تزال المعرفة حبلى بالكثير، ومن يمن الله عليه بالعمر سيشهد ما يجعله مندهشا ومتفاجئا، ولكنه سيظل متفائلا وسعيدا، وصولا لحياة سهلة ومريحة.