هدى حمد -

لطالما كنتُ أكتبُ لقارئ واحد وحسب، قارئ شديد القسوة والانتباه والحساسية، وأثناء كتابتي أشعر أنّي أهابه، أهابُ أن أشهر كتابتي في وجهه، لأنّ كل ما أكتبه لا يروق له عادة، ولذا لا أنأى بنفسي عن التمزيق المُستمر، ولا ينأى هو عن تمرير تفوقه وتعاليه.

ولستُ على يقين إن كان كلّ الكتاب يكابدون قارئا مُتخيلا من هذا النوع!

قرأتُ في كتاب «القارئ الأخير» لريكاردو بيجليا، الذي ترجمه الكاتب أحمد عبد اللطيف، هذه الجملة المعبرة: «ثمة شيء مُؤرق وغير مألوف في الصورة التي نكونها عن القارئ، صورة شديدة الكثافة والغموض.. كائنٌ منعزلٌ وبعيدٌ عمّا هو واقعي».

ويشيرُ الكتابُ أيضا إلى قصّة «كافكا»، وهو أحد أكثر الكُتاب حساسية تجاه من يقرأون نصوصه، فقد كتب ذات مرّة عن جلوسه إلى منضدة العائلة مُحاطا بأقاربه، فانتزع أحد أعمامه النص منه وقرأه عنوة. وصف «كافكا» ذلك بالقراءة العدوّة، وبالنظرة الكريهة حيث «يتقوضُ ما يكتبه لأنّ عينيّ الآخر الكريه تقرؤه»!

في فترة إصابتي بكورونا وبقائي في البيت، شاهدتُ فيلما من إخراج روب راينر بعنوان Misery، أنتج في 1990، هو مأخوذ من رواية الكاتب ستيفن كينج، الذي يُقدم لنا نوعا آخر من القراء الأعداء، أولئك الذين يرغبون في تغيير نهايات القصص التي يكتبها الكُتاب، فقط لمجرد أنّها لا تروق لهم، ولأنّهم يرتبطون بالشخصيات المكتوبة بأكثر مما نظن.

«بول شيلدون» بطل الفيلم، كاتب مشهور وصاحب سلسلة من الروايات الرومانسية التي تدور حول شخصية تُدعى «ميزيري»، يستيقظ «بول» ليجد نفسه في بيتِ أشد النساء إعجابا بكتاباته «آني ويلكس»، التي تخرجه من عاصفة ثلجية إثر تدهور سيارته، فتأخذه لمنزلها المنعزل والنائي عن القرية، لتقوم برعايته بحكم أنّها ممرضة سابقة.

يستمع «بول» أشد الجمل إعجابا من امرأة تحفظ أعماله عن ظهر قلب، لكن ذلك الحب والشغف لم يكن عاديا أبدا!

سنعرف أنّ هذه الممرضة التي تعرضت للهجر، كانت تجد كلّ السلوى في قراءة رواياته الرومانسية، وأنّها كانت تشعر بالأمل والحياة لأنّ بطلة سلسلة رواياته «ميزيري» تمنحها المؤازرة الكافية.

تجد «آني» بحوزة «بول» بروفة الرواية التي لم تنشر بعد، والتي كان في طريقه لإيصالها للمطبعة، فيتملكها فضول القراءة، والرغبة في أن تصبح القارئة الأولى لهذا العمل، وكان على «بول» أن يقبل على مضض وهو ممدد على فراش بيتها، دون أن يعي أنّ الأيام الأكثر رعبا في حياته ستكون عقب تلك القراءة!

حيث ستكتشف «آني» أنّها غير راضية عن نهاية الرواية التي لا تتوافق مع توقعاتها، ولذا سيصبح لزاما على «بول» أن يكتب وفق ما تريد هذه القارئة المهووسة!

يهطل الثلج بكثافة في الخارج، ويمضي «بول» أيامه لا يفعل شيئا غير الكتابة. هناك حيث يتداخل عالمان عالم الرواية وتفاصيلها المتخيلة، وعالم الكاتب المنكب على إنجاز عمله تحت وقع نظرات امرأة متقلبة المزاج ومحطمة.

يقول بروست: «لم تتمتع طفولتنا بأيام مُعاشة بالكامل، مثل تلك الأيام التي قضيناها مع كتابنا المفضل»، ولذا تتبدى لنا «آني» غير معنية بالعالم الخارجي، لأنّها تعيش داخل روايات «بول» وحسب، ولا تريد أن تخرج لتصافح العالم الخارجي.

نتبين أيضا تلك العلاقة الغريبة بين اسم بطلة رواية «بول» Misery، وهي كلمة تعني «البؤس»، وبين الظلال الكثيفة لتاريخ الممرضة الممتلئ بالخطايا الفادحة، دون فهم كافٍ لدوافع تلك النوايا!

تتجلى المشقة القاتمة، عندما يتحتم على «بول» أن يُعيد «ميزيري» إلى الحياة، لأنّها ببساطة كانت تعني حياة «آني» أيضا، فهذا ما يحدث عندما تكون تحت رحمة قارئ مُحبّ أو كارهٍ لا يستنكفُ أن يدق عظام قدميك بمطرقة، لتبقى بجواره إلى الأبد، تكتبُ من أجله وحسب!

ورغم أنّ «بول» كتب الرواية لقاء حريته من «آني»، إلا أنّ عقلها الشرير كان يفكر، بأنّه ما أن ينجز الكتابة سيخرج من حياتها، وهي التي تذوقت برفقته ما لم تتذوقه من قبل. شريكا حقيقيا هذه المرّة، يتحدث إليها، ويأكل معها، ولذا لم يعد من السهل أن تعود لتكتفي بصحبة أبطال الحكايات!

لعبت الممثلة «كاثي بيتس»، دور الممرضة، وبقدر ما حرّضت كراهيتنا لها بقدر ما حرضت تعاطفنا إزاء حياتها الخالية، ولذا ليس غريبا أن تحصل على جائزة الأوسكار كأفضل ممثلة في دور رئيسي لعام 1990.

كان موت «ميزيري» في العالم المتخيل يُلغي «آني» في العالم الحقيقي، ويحولها إلى شبح لا يُرى، ولذا كان ينبغي أن تحارب لأجل بقائها.

من يدري ربما يكون ذلك التخفي وراء شخصية تحبها هو تخفٍ عن العالم، فالكتابة كما يقول بيجليا:«هي شفرة الحياة التي تكثفُ التجربة وتجعلها ممكنة».