الجزيرة العربية.. أصل العروبة، ومتنزّل الرسالة الإلهية، وقلب العالم الإسلامي، وقد امتزج إنسانها بمكوناتها الطبيعية، فتمكن من صنع حضارات عريقة، تتوجت بظهور الإسلام وبعث خاتم الأنبياء والمرسلين، ليصبح المسجد الحرام والمسجد النبوي من بيوت الله التي تشد إليها الرحال من كل فجاج المعمورة. وقد استمر الفعل الحضاري -بشكل عام- في جزيرة العرب حتى ظهور نظام الدولة الحديثة بتفجّر ينابيع النفط فيها، وقد تمكن شعبها من التحول إلى معطيات العصر الحديث؛ بقيادات أسر حكيمة سارت بمواطنيها في دروب الأمان للإسهام في رسم خارطة العالم؛ سياسياً واقتصادياً وثقافياً، رغم ما عانت منه المنطقة من صراعات دامية؛ لا تكاد تسكن حتى تثور، فقامت ثورات وسقطت دول، وعانى الناس فيها مرارات؛ يرثي لها البعيد قبل القريب، بينما تصدت معظم دول الجزيرة للأفكار التي تتهدد كيانها؛ سواءً أكانت مادية أم قومية أم دينية.

وعلى نطاق العلاقة بين سكان الجزيرة؛ حصلت هجرات بين مناطقها، فقد شهدت عمان منذ القدم استقبال قبائل من نجد والإحساء والحجاز، كما رحلت مجاميع من عمان إلى مناطق من الجزيرة، بما جعل ثقافتها واحدة وقدرها متفِقاً.

ومنذ قيام الدولة الحديثة بالسلطنة عام 1970م على يد مؤسسها صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد طيّب الله ثراه وعمان تربطها علاقة مميزة بشقيقتها الكبرى المملكة العربية السعودية، وقد مدت المملكة يد العون للسلطنة في لحظة التأسيس؛ من ذلك.. دعم سياساتها، ومواجهة الفكر الشيوعي، وإمدادها بأساتذة فضلاء أسهموا في تعليم الجيل العماني الأول، ثم فتحت أبواب جامعاتها ليدرس الطلبة العمانيون فنون العلم.

وبحلول ثمانينات القرن العشرين الميلادي اتجه الخليجيون إلى توحيد جهودهم لاستقرار بلدانهم، والعمل على ازدهارها، وتحقيق آمال مواطنيها؛ بإنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية؛ فكانت سياسة المملكة والسلطنة من أهم ركائز المجلس، وعملا مع سائر دوله على تطويره وتجاوز التحديات التي تواجهه، فشكلت سياسة الدولتين تكاملاً في المجلس. لقد أدركت قياداتهما أنه مهما كانت الظروف قاهرة ووجهات النظر حادة بين الدول الأعضاء؛ فإن التنسيق بينهما هو شراع النجاة حتى لا تعصف الرياح بسفينة المجلس، وقد تم بحمد الله بفعل هذه السياسة الحكيمة تجاوز الكثير من أعاصير الأزمات.

لم يقتصر التعاون بين البلدين على نطاق مجلس التعاون؛ بل كانت تربط شعبيهما وشائج أزلية، فهما جاران، وبينهما مشترَكات لا تحصى؛ مما جعل منهما روحاً واحداً ومصيراً مشتركاً، لم يقتصر على المصالح السياسية والمنافع الاقتصادية؛ والتي توِجت أخيراً بشق طريق مباشر بين البلدين. بل هناك علاقات حضارية راسخة الجذور، انبثقت عن ثقافة متبادلة على طول الحقب؛ تشهد عليها الرسومات الصخرية والنقوش الكتابية وأوابد الآثار المتشابهة في البلدين. كما أن دوحة الأدب الوارفة أظلت كثيراً من فعاليات أدبائهما؛ فجذورها ممتدة إلى أسواق العرب القديمة كعكاظ وذي مجنة ودبا وأدم، مما يلزمنا مواصلة البناء الحضاري المشترك عبر المنتديات الثقافية والمجالس الأدبية.

انطلاقاً.. من البُعد الحضاري للمنطقة، والتآخي الإنساني بين سكانها، والرابطة الإسلامية التي زادت لحمة أبناء الجزيرة تآصراً. وفي إطار بنية الدولة الحديثة التي تحترم الشئون الداخلية للبلدين، وأفق التعاون الذي يحتّمه الراهن ويدفع إليه المستقبل، تأتي زيارة مولانا صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق أعزّه الله لأخيه خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله، وإنها للحظة تكتب بمداد المجد.. أن يبدأ جلالة السلطان زياراته الخارجية إلى المملكة العربية السعودية، ففي ذلك دلالات كبرى لا تخفى.

أهم الدلالات.. تعظيم جلالته حفظه الله للمقدسات الإسلامية؛ المسجد الحرام والمسجد النبوي، وهو تعظيم ينم عن روح مؤمن يلازم جلالته في حله وترحاله، ويحركه في منطلقاته وأهدافه. وتقدير جليل منه لما يقوم به خادم الحرمين الشريفين من عمارة هذه المقدسات، وتوفير سُبُل الأمن لهما وللأرض التي تضمهما، وتسخير المؤسسات لخدمة ضيوف الرحمن الذين لا تنقطع وفادتهم للعرصات المقدسة.

وإن الزيارة تؤكد على روح المودة والألفة بين الشعبين، وما يكنّه كل من العاهلين العظيمين لأخيه. وأن صلة الدم والدين واللغة والجوار هي عرى وثيقة، لا يمكن أن تفصمها حادثات الدهر ولا تقلبات السياسة، بل هي جسر يربط البلدين لا تهتز قواعده، وماء محبة يسقي شجرة الأخوة التي يستظل بها أبناء السلطنة والمملكة.

وفيها دلالة أيضاً.. على تقدير السلطنة لمركزية السعودية في خارطة المنطقة من حيث موقعها الجغرافي، الذي يؤهلها للعب دور استراتيجي في ظل المتغيرات التي يشهدها العالم. فالسعودية.. مُقْدِمة على استغلال موقعها؛ ليس بما يعود لها بالقوة والتمكين فحسب، وإنما كذلك لتشغل موقعاً محورياً في العالم العربي والأمة الإسلامية، كما أن قراراتها تؤثر على المعادلة الدولية، ويفرض ثقلها نفسه على كل الأصعدة العالمية.

إن الموقع الاستراتيجي للمملكة؛ يقابله كذلك.. موقع مماثل للسلطنة؛ حيث هي ميناء المحيط الهندي، وبوابة الشرق، وممر العالم، فسواحلها المطلة على الخليج العربي وبحر العرب، وانفساحها على المحيط الهندي؛ يشكّل منها تكاملاً مصيرياً مع المملكة. بالإضافة.. إلى الفرص الكبيرة التي يمكن أن تقدمها عمان للسعودية في مجال الاقتصاد وتبنّي المشاريع الكبرى؛ ومنها موانئ قد تصبح ورشاً بحرية للعالم في ظل تقنية الذكاء الصناعي. والساحل العماني.. الذي كسر أوهام التدخلات الأجنبية منذ الفرس حتى الاستعمار الغربي ثم الشيوعية العالمية؛ لا يزال له أهميته في حفظ المنطقة؛ عسكرياً وفكرياً.

السلطنة.. تدرك أن خارطة العالم الآن في تحول دراماتيكي؛ سواء بتقدّم الصين وروسيا؛ وربما الهند، لتشكّل أقطاباً عالمية مع أمريكا، أو بصعود إيران وتركيا، فزيارة جلالته لأخيه خادم الحرمين الشريفين يشيء بوقوف السلطنة مع المملكة لتكونا محوراً في المنطقة؛ ينبغي له أن يستقطب المشهد العربي والإسلامي.

وفي ظل الأهمية التأريخية لهذه الزيارة؛ والمشهد السياسي والاقتصادي الذي يهيمن على الواقع، وربما يستحوذ على الاهتمام الأكبر من القيادتين؛ فإن اهتمامهما الكريم يسري حياةً في الجانب الحضاري والثقافي. فالمنطقة.. في ظل التغيرات القادمة؛ المحمّلة على دعامة الانفتاح الواقعي والافتراضي، لابد لها من الحفاظ على ثقافتها، فهناك مكاسب حضارية ممتدة في أصول التاريخ، ورؤية إسلامية تسكن الضمير المسلم، فمن الضروري التوجه إليها من قِبَل العاهلين الكبيرين حفظهما الله، بتوجيه عنايتهما نحو الدراسات الإسلامية والثقافة والآداب.

فمن المهم.. أن نرى تعاوناً بين الدولتين في هذه الجوانب، وليتوج بإنشاء مركز للفكر الإسلامي؛ يعمل على تخطي مرحلة الاستقطابات الضيقة التي هيمنت على العالم الإسلامي ردحاً من الزمن، ويفتح أبوابه لتقديم دراسات رصينة تُسمِع العالمَ خطابَ الله الذي جاء رحمة للعالمين، وتظهر هداية الإسلام إلى الحق، وعدالته بين الناس جميعاً، وتسامحه مع مختلف الأديان والأعراق. والعلماء والمفكرون في البلدين مؤهلون لإدارة هذا المشروع الحضاري، وقادرون على التواصل مع إخوانهم من مختلف أطياف التفكير الإسلامي في العالم.

إن إقامة هذا المركز بالتعاون بين المملكة والسلطنة له أهميته، ليس لحفظ التوازنات بين التوجهات الفكرية في المنطقة فحسب، وإنما ليكون أيضاً مشروعاً مؤسِساً لرؤية تواكب التحولات العالمية، وتبصّر الأجيال القادمة بالتعامل الأمثل مع مفرزات عصر العولمة، لاسيما.. أن التشظي المعرفي الذي يحدثه العالم الرقمي قد يؤدي إلى موجة عاتية من المادية المجحفة، لا قدر الله؛ إن لم يُعمل على تداركها.

حفظ الله جلالة السلطان هيثم بن طارق وأخاه خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك سلمان بن عبدالعزيز، وأعانهما على التعاون بينهما فيما يحقق آمال شعبيهما، وينقل البلدين إلى مستقبل أكثر رخاءً، وأقوى تمكيناً.