افتتاحا.. يأتي هذا المقال صدى لتوجيهات مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله (بتطوير التعليم بمستوياته وأنواعه المختلفة، ورؤيته السديدة بأهمية رفع مستوى جودة التعليم) -وكالة الأنباء العمانية-.
في العلوم.. أول ما يواجهنا هو فلسفتها، فهي مَن تحدد ماهية العلم، ومنطلقاته وجذوره، وهل يراد منه أن يستمد من تلك الجذور أو ينبتّ عنها؟ ومَن أسهم في تشكيله ووضع عليه أثره وطبعه ببصمته؟ ثم تأتي أهداف العلم، والمآلات المتوقعة منه، والمكاسب المرجو تحققها، والخسائر التي قد تنتج عنه، والصعاب التي تعترضه، والتغييرات التي يحدثها في الاجتماع البشري. وأخيراً.. وضع منهج لتقييم العلم، ومدى الجدوى من بقائه، أو كيفية العمل على تطويره والاستفادة منه بأكبر قدر ممكن؛ في حال صلاحه للمجتمع.
التعليم.. يأتي في ذروة العلوم التي يجب الاهتمام بها، فهو يُعنى بخَلق الوعي لدى الإنسان وتبصيره بمآل تفكيره وأعماله. وإعادة النظر في فلسفة التعليم جزءٌ من عمل الفلسفة الكلي، والفلسفة؛ بذلك.. تمارس نقد نفسها أيضاً، وتعمل على تحررها من ربقة الجمود، وأعلى مراتب النقد نقد فلسفة التعليم.
لقد كانت الرؤى الفلسفية تعمّر طويلاً، وما يصيبها من تطورت فهو بطئ، لأن الهياكل الاجتماعية كانت بطيئة التحول، بيد أنه في هذا العصر، نشهد تحولاً هائلاً في سير الحياة بأسرها، ولذلك.. فالرؤى الفلسفية هي الأخرى ينبغي لها أن تلاحق هذا التسارع، وأهمها الرؤية التعليمية.
جرى الربط بين التربية والتعليم، ولا اعتراض على هذا الربط، لاسيما.. في الفترة التي مررنا بها؛ حيث التحول من الهياكل الاجتماعية القديمة إلى مرحلة التحديث، وهي مرحلة من المفترض أن تنقلنا إلى عصر الحداثة الذي يشهده العالم، لكن سفننا استأنست الرسو في موانئ التحديث، وطاب لها المكث فيها، وعندما أخذ العالم يطير في الفضاء الرقمي؛ بدأت رياح الزمن تدفع بسفن المنطقة للإقلاع نحو المستقبل، وهو ما شرعت بعض دولنا بالسعي إليه حثيثاً. فإذاً.. فلسفة التعليم قائمة على مفهوم للتربية مساير لزمانه، والآن.. يقتضي التحول منه إلى مفهوم أفضل وعياً بالراهن، وأكثر قدرة لمواكبة الآتي.
فلسفة التعليم.. كانت تقوم على مفهوم التربية، وليست على مفهوم الوعي، ولا جدال لديّ بأنها تربية تُعلي من شأن العديد من القيم، ولكنها قيم تخدم مرحلتها، حيث كانت تتجه نحو الداخل الاجتماعي، ولا تنفسح على الخارج الإنساني، بل كانت تتوجس من هذا الخارج. ففلسفة التعليم تركّز؛ على العادة الاجتماعية التي تمانع الدخول في عالم الحداثة، وعلى الحس الوطني القلق من انفلات ثوابته، مع أن الثوابت رواسي لا تُقتَلع، وعلى التقليد الفقهي المتخوّف من انسلاخ المسلم من دينه وهو يتحرك في فضاء الإنسانية، وكأن الدين والإنسانية ضدان وليس جاء لصلاحها، وبُني على مكارم أخلاقها. هذه قضية يجب النظر فيها؛ لإعادة صياغة فلسفة أكثر قدرة على التعايش الإنساني، وليكون الناس أمة واحدة؛ تقوم على رفض صنوف الظلم والفساد والغلو والإقصاء والانحراف، بشتى أنواعها.
لقد شكّلت فلسفة التعليم هيمنة اجتماعية في كل شيء تقريباً، والتلقين.. بدون نقد هو أحد أقسى أدوات الهيمنة، إنه يخلق ذاكرة ممغنطة غير قابلة للمحو، لتجعل من الإنسان روبوتاً يعمل بما يريده المبرمِج، ولا تترك له قدرة الاتجاه إلى ذاته التي تعيش عصرها وواقعها، إنها فلسفة دمغت الفرد في الجماعة. وهذا نسق آخذ بالاضمحلال في عصر العولمة الرقمية، وما لم يعدّل التعليم فلسفته فإنه سيكون مصدر خلل مزمن في الاجتماع البشري. لقد أصبح مهماً الانتقالُ نحو التفكير الذي يُعظِّم شأن الأخلاق الإبداعية التي لا تكرر المنتَج نفسه. وأقصد بالأخلاق الإبداعية.. الأخلاق النابعة من النفس الموصولة بالله الذي جعل للإنسان القدرة على التجدد لأجل إعمار الكون، لا أن يكون نسخاً مكررة، فهذا شأن الحيوان والنبات، الذي يُستنسَخ عبر جيناته.
اليوم.. لا نحتاج للتلقين والحفظ؛ إلا لمماً، فالذكاء الصناعي.. قد تكفّل بتوفير برامج لهما؛ لا تعد ولا تحصى، لكننا بأمسِّ الحاجة لنفهم الأمور من حولنا، فنحن في غنى -مثلاً- عن حفظ جدول مندليف للعناصر الكيميائية، إلا أننا محتاجون إلى فهم كيفية تشكّل هذه العناصر واصطفافها في جدول واحد، والقيمة الذرية لكل عنصر، ومكان وجوده في الطبيعة، وأهميته في حياتنا. ولا يهمنا أن نحفظ أسماء الملوك الغابرين، والحروب التي خاضوها، والنياشين التي علّقوها على صدورهم. وإنما بحاجة إلى فهم كيف قامت تلك الدول، والسياق التأريخي الذي دفع بها للخروج إلى الحياة، والجذور المؤسِسة لها، والأثر الذي تركته في الحياة والدين. نفعل كل ذلك بوعي موضوعي، وبدوافع أخلاقية تصنع من الحياة اجتماعاً سوياً؛ يتجاوز أخطاء الماضي الذي لا يزال يهيمن علينا. وقُلْ مثل ذلك في كل أدوار التاريخ؛ ومنها تأريخنا العماني، فنحن بحاجة إلى استخلاص العِبَر منه، وتمثّل قيمه التي تثير فينا الأخلاق الإبداعية، كالعدل والمساواة والشورى، والطموح والابتكار، والعلاقات الإنسانية، وتجاوز المثالب التي وقع فيها مَن سبقنا، لا أن نحشي أدمغتنا بتواريخه المختلفة التي تصطرع في ذاكرتنا.
إن انعكاس منظوماتنا الاجتماعية على مناهجنا التعليمية؛ أدى إلى ما نراه الآن من أزمات في منطقتنا، ظللنا دهراً طويلاً لا نحلل واقعنا القَبلي، وها نحن نرى دولاً تتمزق بمدافع القبليين؛ لتخلّف وراءها إنساناً مقهوراً ومستقبلاً مهدوراً. وطفقنا كذلك ندرس تراثنا الفقهي بقوالب سُكّت منذ ألف عام، ونحفّظه لأجيال متعاقبة، دون الجرأة على قراءته بوعي وموضوعية، ودون أن نمكّن العقول من نقده، أو تحكيمه إلى معيار أخلاقي، وما ذلك إلا لأنه ميراث أسلافنا، فهم مسالك ديننا وهداة حياتنا. والنتيجة.. اقتتال دامٍ فيما بيننا، وحرب ضروس يعركنا الاستكبار العالمي بسفالها.
والواقع.. قد لا يكشف عن الحقيقة عندما نتصور أننا نجحنا في بناء منظومة تسامح متماسكة في دولنا، ولم ننتبه أننا فرضنا التسامح بالهيمنة وليس بالأخلاق، وبالقانون وليس بالدين، وبالمصالح لا بالضمير، ثم ما أن تتضعضع مجتمعاتنا حتى تكشِّر وحوش تصعبنا عن أنيابها القاطعة ومخالبها الجارحة.
اليوم.. لكي نكتشف انتهاء فلسفة التعليم القائمة لا يحتاج أن نتصارع فيما بيننا، ولا أن تَجُرَّ الدول جيوشها لانتهاك حرمات أرضنا، وإنما يكفي أن نغوص في مستنقع الأزمات، تنهشنا هوامها ليل نهار، فنذوي شيئاً فشيئاً. الذي ربّاني على قبول الهيمنة الاجتماعية بأنها هي التعليم السليم؛ هو المسؤول عن عدم قدرتي بأن أشق طريقي نحو المستقبل، وهو من أقنعني بأن العقل الموصول بالله لا يمكن أن يقودني إلى الإبداع بضمير أخلاقي من ذاتي الإنسانية، ونفخ في روعي بأن العقل لكي يكون «مَرْضِياً عنه» يجب ترويضه بسوط هذه الهيمنة.
إن تفكيك الهيمنة الاجتماعية بكافة صورها من منظومة التعليم ومناهجه؛ مطلبٌ على الأمم الحية أن تسعى إليه في صوغ رؤيتها التعليمية، لأجل إعادة بنائها وفق فلسفة تهيئ شروط النهضة الدائمة، وتجعل من الإنسان الحر الموصول بالله وغير المستلب اجتماعياً محورها. فلسفة.. لا تنكص على أعقابها، وإنما تنشد بناءً حضارياً ينافس على المواقع المتقدمة في الوجود الإنساني، وهذا لا يعني طي سجل التاريخ؛ بل فتحه للاستفادة منه والاعتبار بوقائعه، فالإنسان.. تراكمٌ اجتماعي وابنٌ للمنطق التاريخي، وفهم التأريخ الاجتماعي هو ما يدفعنا إلى الوعي به، لا الرضوخ تحت سطوته وإبهاره.
ختاماً.. إن الأمم الناجحة هي التي تتمكن من صنع فلسفة للتعليم أساسها الأخلاق والإبداع، وتفك عن رقبتها طوق التقليد والتلقين. فعلينا أن نكون من هذه الأمم، قبل أن ينطبق علينا قول شاعر الخضراء:
ومَن لم يعانقه شوقُ الحياة تبخّر في جوها واندثر
في العلوم.. أول ما يواجهنا هو فلسفتها، فهي مَن تحدد ماهية العلم، ومنطلقاته وجذوره، وهل يراد منه أن يستمد من تلك الجذور أو ينبتّ عنها؟ ومَن أسهم في تشكيله ووضع عليه أثره وطبعه ببصمته؟ ثم تأتي أهداف العلم، والمآلات المتوقعة منه، والمكاسب المرجو تحققها، والخسائر التي قد تنتج عنه، والصعاب التي تعترضه، والتغييرات التي يحدثها في الاجتماع البشري. وأخيراً.. وضع منهج لتقييم العلم، ومدى الجدوى من بقائه، أو كيفية العمل على تطويره والاستفادة منه بأكبر قدر ممكن؛ في حال صلاحه للمجتمع.
التعليم.. يأتي في ذروة العلوم التي يجب الاهتمام بها، فهو يُعنى بخَلق الوعي لدى الإنسان وتبصيره بمآل تفكيره وأعماله. وإعادة النظر في فلسفة التعليم جزءٌ من عمل الفلسفة الكلي، والفلسفة؛ بذلك.. تمارس نقد نفسها أيضاً، وتعمل على تحررها من ربقة الجمود، وأعلى مراتب النقد نقد فلسفة التعليم.
لقد كانت الرؤى الفلسفية تعمّر طويلاً، وما يصيبها من تطورت فهو بطئ، لأن الهياكل الاجتماعية كانت بطيئة التحول، بيد أنه في هذا العصر، نشهد تحولاً هائلاً في سير الحياة بأسرها، ولذلك.. فالرؤى الفلسفية هي الأخرى ينبغي لها أن تلاحق هذا التسارع، وأهمها الرؤية التعليمية.
جرى الربط بين التربية والتعليم، ولا اعتراض على هذا الربط، لاسيما.. في الفترة التي مررنا بها؛ حيث التحول من الهياكل الاجتماعية القديمة إلى مرحلة التحديث، وهي مرحلة من المفترض أن تنقلنا إلى عصر الحداثة الذي يشهده العالم، لكن سفننا استأنست الرسو في موانئ التحديث، وطاب لها المكث فيها، وعندما أخذ العالم يطير في الفضاء الرقمي؛ بدأت رياح الزمن تدفع بسفن المنطقة للإقلاع نحو المستقبل، وهو ما شرعت بعض دولنا بالسعي إليه حثيثاً. فإذاً.. فلسفة التعليم قائمة على مفهوم للتربية مساير لزمانه، والآن.. يقتضي التحول منه إلى مفهوم أفضل وعياً بالراهن، وأكثر قدرة لمواكبة الآتي.
فلسفة التعليم.. كانت تقوم على مفهوم التربية، وليست على مفهوم الوعي، ولا جدال لديّ بأنها تربية تُعلي من شأن العديد من القيم، ولكنها قيم تخدم مرحلتها، حيث كانت تتجه نحو الداخل الاجتماعي، ولا تنفسح على الخارج الإنساني، بل كانت تتوجس من هذا الخارج. ففلسفة التعليم تركّز؛ على العادة الاجتماعية التي تمانع الدخول في عالم الحداثة، وعلى الحس الوطني القلق من انفلات ثوابته، مع أن الثوابت رواسي لا تُقتَلع، وعلى التقليد الفقهي المتخوّف من انسلاخ المسلم من دينه وهو يتحرك في فضاء الإنسانية، وكأن الدين والإنسانية ضدان وليس جاء لصلاحها، وبُني على مكارم أخلاقها. هذه قضية يجب النظر فيها؛ لإعادة صياغة فلسفة أكثر قدرة على التعايش الإنساني، وليكون الناس أمة واحدة؛ تقوم على رفض صنوف الظلم والفساد والغلو والإقصاء والانحراف، بشتى أنواعها.
لقد شكّلت فلسفة التعليم هيمنة اجتماعية في كل شيء تقريباً، والتلقين.. بدون نقد هو أحد أقسى أدوات الهيمنة، إنه يخلق ذاكرة ممغنطة غير قابلة للمحو، لتجعل من الإنسان روبوتاً يعمل بما يريده المبرمِج، ولا تترك له قدرة الاتجاه إلى ذاته التي تعيش عصرها وواقعها، إنها فلسفة دمغت الفرد في الجماعة. وهذا نسق آخذ بالاضمحلال في عصر العولمة الرقمية، وما لم يعدّل التعليم فلسفته فإنه سيكون مصدر خلل مزمن في الاجتماع البشري. لقد أصبح مهماً الانتقالُ نحو التفكير الذي يُعظِّم شأن الأخلاق الإبداعية التي لا تكرر المنتَج نفسه. وأقصد بالأخلاق الإبداعية.. الأخلاق النابعة من النفس الموصولة بالله الذي جعل للإنسان القدرة على التجدد لأجل إعمار الكون، لا أن يكون نسخاً مكررة، فهذا شأن الحيوان والنبات، الذي يُستنسَخ عبر جيناته.
اليوم.. لا نحتاج للتلقين والحفظ؛ إلا لمماً، فالذكاء الصناعي.. قد تكفّل بتوفير برامج لهما؛ لا تعد ولا تحصى، لكننا بأمسِّ الحاجة لنفهم الأمور من حولنا، فنحن في غنى -مثلاً- عن حفظ جدول مندليف للعناصر الكيميائية، إلا أننا محتاجون إلى فهم كيفية تشكّل هذه العناصر واصطفافها في جدول واحد، والقيمة الذرية لكل عنصر، ومكان وجوده في الطبيعة، وأهميته في حياتنا. ولا يهمنا أن نحفظ أسماء الملوك الغابرين، والحروب التي خاضوها، والنياشين التي علّقوها على صدورهم. وإنما بحاجة إلى فهم كيف قامت تلك الدول، والسياق التأريخي الذي دفع بها للخروج إلى الحياة، والجذور المؤسِسة لها، والأثر الذي تركته في الحياة والدين. نفعل كل ذلك بوعي موضوعي، وبدوافع أخلاقية تصنع من الحياة اجتماعاً سوياً؛ يتجاوز أخطاء الماضي الذي لا يزال يهيمن علينا. وقُلْ مثل ذلك في كل أدوار التاريخ؛ ومنها تأريخنا العماني، فنحن بحاجة إلى استخلاص العِبَر منه، وتمثّل قيمه التي تثير فينا الأخلاق الإبداعية، كالعدل والمساواة والشورى، والطموح والابتكار، والعلاقات الإنسانية، وتجاوز المثالب التي وقع فيها مَن سبقنا، لا أن نحشي أدمغتنا بتواريخه المختلفة التي تصطرع في ذاكرتنا.
إن انعكاس منظوماتنا الاجتماعية على مناهجنا التعليمية؛ أدى إلى ما نراه الآن من أزمات في منطقتنا، ظللنا دهراً طويلاً لا نحلل واقعنا القَبلي، وها نحن نرى دولاً تتمزق بمدافع القبليين؛ لتخلّف وراءها إنساناً مقهوراً ومستقبلاً مهدوراً. وطفقنا كذلك ندرس تراثنا الفقهي بقوالب سُكّت منذ ألف عام، ونحفّظه لأجيال متعاقبة، دون الجرأة على قراءته بوعي وموضوعية، ودون أن نمكّن العقول من نقده، أو تحكيمه إلى معيار أخلاقي، وما ذلك إلا لأنه ميراث أسلافنا، فهم مسالك ديننا وهداة حياتنا. والنتيجة.. اقتتال دامٍ فيما بيننا، وحرب ضروس يعركنا الاستكبار العالمي بسفالها.
والواقع.. قد لا يكشف عن الحقيقة عندما نتصور أننا نجحنا في بناء منظومة تسامح متماسكة في دولنا، ولم ننتبه أننا فرضنا التسامح بالهيمنة وليس بالأخلاق، وبالقانون وليس بالدين، وبالمصالح لا بالضمير، ثم ما أن تتضعضع مجتمعاتنا حتى تكشِّر وحوش تصعبنا عن أنيابها القاطعة ومخالبها الجارحة.
اليوم.. لكي نكتشف انتهاء فلسفة التعليم القائمة لا يحتاج أن نتصارع فيما بيننا، ولا أن تَجُرَّ الدول جيوشها لانتهاك حرمات أرضنا، وإنما يكفي أن نغوص في مستنقع الأزمات، تنهشنا هوامها ليل نهار، فنذوي شيئاً فشيئاً. الذي ربّاني على قبول الهيمنة الاجتماعية بأنها هي التعليم السليم؛ هو المسؤول عن عدم قدرتي بأن أشق طريقي نحو المستقبل، وهو من أقنعني بأن العقل الموصول بالله لا يمكن أن يقودني إلى الإبداع بضمير أخلاقي من ذاتي الإنسانية، ونفخ في روعي بأن العقل لكي يكون «مَرْضِياً عنه» يجب ترويضه بسوط هذه الهيمنة.
إن تفكيك الهيمنة الاجتماعية بكافة صورها من منظومة التعليم ومناهجه؛ مطلبٌ على الأمم الحية أن تسعى إليه في صوغ رؤيتها التعليمية، لأجل إعادة بنائها وفق فلسفة تهيئ شروط النهضة الدائمة، وتجعل من الإنسان الحر الموصول بالله وغير المستلب اجتماعياً محورها. فلسفة.. لا تنكص على أعقابها، وإنما تنشد بناءً حضارياً ينافس على المواقع المتقدمة في الوجود الإنساني، وهذا لا يعني طي سجل التاريخ؛ بل فتحه للاستفادة منه والاعتبار بوقائعه، فالإنسان.. تراكمٌ اجتماعي وابنٌ للمنطق التاريخي، وفهم التأريخ الاجتماعي هو ما يدفعنا إلى الوعي به، لا الرضوخ تحت سطوته وإبهاره.
ختاماً.. إن الأمم الناجحة هي التي تتمكن من صنع فلسفة للتعليم أساسها الأخلاق والإبداع، وتفك عن رقبتها طوق التقليد والتلقين. فعلينا أن نكون من هذه الأمم، قبل أن ينطبق علينا قول شاعر الخضراء:
ومَن لم يعانقه شوقُ الحياة تبخّر في جوها واندثر