يبدو الحديث عن أوضاع البحث العلمي في عُمان حديثٌ بالغ الجدل وبالتحديد في ناحية الاتفاق على المقاربات المعيارية التي يتم على ضوئها تقييم واقعه، وتشخيص مشهده، ذلك أن المعرفة في عمومها منتج اجتماعي في المقام الأول، خاضعة لتأثيرات الظروف والوقائع والتحولات والتفاهمات والاعترافات الضمنية والتقاليد المجتمعية التي تنعكس بطريقة أو بأخرى على الممارسة العلمية من ناحية، وعلى مسائل إنتاج المعرفة العلمية وتعميمها ونشرها من ناحية أخرى.

تراجعت السلطنة مؤخرًا في مؤشر الابتكار العالمي 2020 لتحل في الرتبة (84) على ترتيب المؤشر، رغم حلولها الأول عالميًا في مؤشر نسبة خريجي العلوم والهندسة من إجمالي عدد الخريجين، وتحسن تصنيفها على مستوى مؤشرات تأسيس الشركات الناشئة، وتطور التكتلات الصناعية العنقودية، وتراجعت في مؤشرات مهمة من قبيل الإنفاق على التعليم، ومؤشر التعليم العالي الذي تراجعت فيه 8 رتب. والواقع أن هناك مشكلات محورية فيما يتصل بقطاع البحث العلمي والابتكار أهمها أن الإنفاق على هذا القطاع لا زال يراوح عند 0.22% كنسبة نفقات للبحث والتطوير من إجمالي الدخل القومي، ولا زال عدد العاملون في مجال البحث (بمكافئ الدوام الكامل) لكل مليون نسمة لا يتجاوز 239 مشتغلًا حسب الاستعراض التي قدمته السلطنة أمام الأمم المتحدة فيما يخص أهداف التنمية المستدامة 2030.

تبقى التقديرات النسبية والقياسية خاضعة في المقام الأول لوجود الاستراتيجيات الوطنية المعنية بتطوير القطاع، والإرادة السياسية للاتكاء على الابتكار كقاطرة للتنمية المستديمة في الخطط والمشروعات الوطنية، ويبقى مرتبطًا بعملية المحاصصة التي تجري في إطار تصميم الموازنات العمومية للدول، إلا أنه في تقديرنا ثمة عامل محوري لا يزال مفقودًا في إطار معادلة المجتمع العلمي في عُمان وهو «غياب هوية الجماعة العلمية»، وهي كما يعرفها عالم الاجتماع ساري حنفي: « شبكات يتوفر فيها حدٌّ أدنى من المَأسَسَة والاستقلاليّة والسلطة. تؤسس لدعم المنافسة والتعاون بين أعضائها. وتشكيل فرق بحثيّة وجمعيّات علميّة حيويّة، ومُناقَشة الموضوعات الجدليّة العلميّة، ومُراجعة الأقران للمخطوطات المُحضَّرة للنشر». ويمكن أن نفهمها في كونها مجموعة من الناشطين في مجال البحث العلمي ينتظمون في إطار هاجسهم المعرفي إزاء قضايا بعينها، وينخرطون في عمليات البحث والنشر، وحفز المجتمع البحثي، وتعميم المعرفة العلمية، والانخراط في المجال العام، لأجل الحديث والتأصيل للقضايا التي يعتنون بها معرفيًا، ولصناعة شبكات ضغط داعمة ومؤثرة على صنع السياسات العمومية في هذا المجال.

وحيث إن غالبية أنشطة البحث العلمي والابتكار في السلطنة تمارس ضمن هياكل المؤسسات الأكاديمية، أو المراكز البحثية التابعة لها، إلا أن هذه الأنشطة لا تزال تعاني واقعًا متشظيًا من ناحية تماسك الجماعة العلمية، وهويتها. إذ الاشتغال لا زال محصورًا في شكل مشروعات بحثية مدعومة أو ممولة أو استراتيجية تجمع فرقًا بحثية، وتنتهي - إلا فيما ندر - بمجرد الانتهاء من المشروع البحثي، ولا نكاد نجد هوية لجماعة علمية استطاعت أن تؤسس هويتها وضغطها وتأثيرها على الشبكات العلمية من ناحية وعلى تعزيز المجال العام العلمي المرتبط بالثقافة الاجتماعية والمؤثر فيها من ناحية أخرى لفترة معتبرة من الزمن.

إن مشهد البحث العلمي في عُمان يفتقد في تقديرنا إلى ما يسميه رولاند فاست «اتفاق العلماء» فالأصل ليس فقط في تحقيق المعيار الكمي/ الحسابي لعدد الباحثين في القطاع أو ما يتوفر لهم من تسهيلات لوجستية ومعرفية، أو ما يؤطر لهم من مساحات للحرية البحثية والأكاديمية، وإنما الأصل في العودة إلى وظائف المعرفة التي من بينها: الانخراط في وسائل الإعلام والمناقشات العامة لتبني قضايا معينة، وتحقيق الميزة التنافسية والإبداعات لمجالات الاختصاص، بالإضافة إلى تأطير سوق للخبرة ودعم السياسات العامة محدد الهوية ومتكامل الأركان، عوضًا عن بث الوعي المجتمع وتأصيل النقاش حول القضايا الجدلية وفقًا لمنظورات علمية مؤصلة. وهذه وظائف لا يمكن فقط أن تكون مؤسسية أو تحمل على عاتق اشتغالات ضيقة فردية/ مجموعات صغيرة من الباحثين، وإنما تفترض تشكلًا لكيان جماعات علمية معتبرة ومستديمة.

وإن كانت بدايات الثورة العلمية في أوروبا مع مطلع القرن الـ 18 قد أفضت لاحقًا إلى تشكل جماعات علمية كان موجهها الجدل، ووسيلتها الحوار، وإطار تخليق مجال علمي عام، فإن العالم العربي عرف عبر تاريخه أيضًا هذه التشكلات في حقول معرفية مختلفة، واليوم ثمة جماعات علمية أصبحت تخلق هوياتها رغم تشظيات الدولة العربية وواقع الإنتاج المعرفي العربي عمومًا، يمكن أن نشير هنا إلى تجربة الجمعية الكيميائية السعودية، والمجلس العربي للعلوم الاجتماعية، وتجربة معهد الدوحة للدراسات العليا. ونحسب أننا في عُمان قد كان من الممكن لمجلس البحث العلمي أن يكون بؤرة انطلاق لتشكل جماعات علمية فاعلة ومؤثرة، إلا أن الوقت لم يفت في تقديرنا والممكنات لا زالت متاحة، فيمكن التفكير مثلًا في استحداث شكل جديد لمؤسسات المجتمع المدني إضافة للأشكال الأربعة الموجودة حاليًا في الإطار التشريعي من خلال السماح بإنشاء جمعيات علمية، يكون مجال اشتغالها الرئيس العلم وتحقيق شبكات المعرفة، وخلق تأصيل لمجال علمي عام. كما نفترض أن المشتغلين في البحث العلمي وخاصة داخل المؤسسات الأكاديمية يتوجب أن يخلقوا مجالات اهتمام مشتركة ويدفعوا بالباحثين المعاونين لهم وطلبتهم للانخراط في نقاشات حول تلك القضايا، وتفعيل الجلسات والمؤتمرات والندوات بشكل أكثر تحديدًا ودقة وتوجيه المشروعات البحثية والنشر والتأليف في حقول ذات أولوية مجتمعية ووطنية. ويلفتنا هنا الإشارة لتجربة المجموعة البحثية للتربية على المواطنة والدراسات الاجتماعية التي قدمت نموذجًا أوليًا جيدًا في تقديرنا لمفهوم الجماعة العلمية، ونطمح أن نرى مستقبًلا مجموعات مشتغلة بقضايا كالتغير المناخي، وإدارة الأزمات، وقضايا السياسة الاجتماعية، وغيرها من قضايا الجدل العلمي والتطبيقي، وألا تربط هذه الاشتغالات ذاتها بمجرد توافر البنى المؤسسية كمراكز ومعاهد الأبحاث وقضايا التمويل وحسب. وإنما تشتغل على تحقيق (التوافق والاعتراف والثقة Compatibility، recognition and trust) فيما بينها أولًا وتخليق هويات معتبرة لتأثيرها العلمي للضغط لاحقًا لإيجاد الاعتبارات المؤسسية والتمويلية الداعمة لها.