أمل السعيدي -

منذ أن كنتُ طالبة في الجامعة، أتذكر ذلك الاستقطاب الذي تحدثه فكرتنا عن الشعر، كان كافيا وهذا بديهي وصحي من وجهة نظري أن نعرف لأي معسكر ينحاز الشخص فينا، لنعرف كيف يفكر، وأقول إن هذا صحي لأن شكل القصيدة ليس تفصيلًا صغيرًا لا يعني شيئًا بطبيعة الحال، بل هو رؤية شاملة للحياة، وما يحدث فيها. كنتُ وأصدقائي مع حداثة الشعر حسب بيان أدونيس حول حداثة الشعر العربي والذي نشر كاملاً في كتابه «فاتحة لنهاية القرن»، وبالتأكيد لم يكن بالإمكان مناقشتنا حول قصيدة النثر، وما زادنا قوة في نظر من يقابلوننا في المعسكر الآخر، والمتعصبين جداً للوزن والقافية، أن معظمنا كان يكتب القصيدة العمودية، حتى وقت هذا الاستقطاب. لذلك لم يكن سهلاً اتهامنا، بأننا نستسهل كتابة الشعر لأننا لا نعرف البحور ولسنا قادرين على كتابة القصيدة العمودية.

بعدها عرفتُ أن هذا الجدل ليس في كتابة الشعر وحده، بل يمتد للسرد، إذ يبدو التجنيس الأدبي معضلة دوما، خصوصا في عُمان، قد نغفل الحديث عما يمنحه العمل الأدبي من «ميكانيزمات» لتلقي العالم ومواجهته، ومن تسجيله لتجربة شخصية وقدرة هذا التسجيل على أن يحتل موقعه من التاريخ، وأن يصنع مسارات جديدة في الحياة اليومية، إلى النوع الأدبي الذي تشغله تلك الكتابة، قد أبدو شخصية ذات اتجاهات أناركية تدعو للفوضى وهدم المعايير، صدقا يخيفني هذا في عالم بأقصى درجات سيولته حسب تعبير «زيجمونت باومان» عالم من فرط تحلل قواعده، أصبح مائعا بلا عودة، لكن مع مخاوفي هذه، لا أجد أن على الأدب أن يكون شيئا غير هذا العالم كيفما يكون، لأنه وعلى الرغم من «تسيل» كل شيء، ينبغي أن يحافظ على قدر من الانضباط داخله، أن يعزز اليقظة والحذر، والبطء فلا يخفق.

إيمان مرسال تقول أنا شخص «بلا قصة» في مقابلتها مع الكاتب والإعلامي المصري بلال فضل، ينقبض قلبي فورًا، إذ أجد أنني بلا قصة أيضًا، لا يعني ذلك أنني لم أختبر حكاية ما في حياتي، بل أنني مفتتة تقريبًا، ولا يمكن أن أشكل حبكة متماسكة عن شيء بالغ التطير، ينقبضُ قلبي مجدداً كيف سأتمكن من الكتابة وتحقيق التواصل مع قراء يتوقعون أن يعرفوا ما هم مقبلون على قراءته. شعر، قصة أم رواية. وهذا هو السؤال الأول الذي يتبادر إلى أذهانهم عند التفكير في أي كتابة. ينقبض قلبي مرة أخرى، اذ أنني ومن غير الممكن أن أتخلى عن الكتابة، فهي طريقتي الوحيدة في الحياة والتجسد والتمثل، هي ملاذي من الانفراط المستمر والانجراف في سيولة هذا العالم، وهي الوسيلة التي أتعافى بها.

عندما قرأت الشاعر التركي أورهان ولي، وهو أحد رواد الشعر التركي الحديث، توفي إثر سقوطه في حفرة بينما يتمشى في إسطنبول في عمر الثامنة والثلاثين، وكان قد أسس حركة للشعر في تركيا عُرفت بحركة «غريب» فحص ولي مفهوم التناغم، الذي تمنحه القصيدة الموزونة، والتي تجعلها أكثر تقبلاً مع كل إنسان حتى وإن كان «بدائيا» وتجاهل التناغم الداخلي للنص، حتى أنني وأصدقائي كنا نصرخ قائلين عند ترديد قول ولي هذا بأن الموسيقى والشكل المنضبط فعلا موجودة حتى في أكثر قصيدة نثر عادية لشاعر عادي، كنا نقول من يستطيع أن ينكر شكلا منضبطا وخاصا بسركون بولص، أو بسام حجار، حتى أنه يمكنك التعرف على أنها قصيدة لواحد منهما دون أن يقدم لك اسم الكاتب بمجرد القراءة أو سماع تلك القصيدة. إن التناغم المنشود، هو «الإحساس بوجود التناغم»، الإحساس المادي في ظل وجود هيكل القصيدة الموسيقي، لأن البحث عن تناغم داخلي عبء، قد يتطلب قدراً من الجهد والصبر، وهذا رأي تاركوفسكي أيضا حول الفيلم الفني كما ناقشه بتوسع في كتابه «النحت في الزمن».

بالنسبة لجمهور الشعر فإن على الأدب أن يقدم «غرابة نسبية» حتى أن الأعمال التي باتت تقدم عن رغبة في «النزوع الطبيعي» حسب تعبيره، صارت تقابل بغرابة، لذلك تجدنا نهلل مثلاً بأن هذه الرواية تتحدث عن «العادي» عن الحياة المعاشة، وكأننا نحمل جوهرة ثمينة بين أيدينا، متجاهلين وبسذاجة أكثر الوقت، توازي الأدب مع واقع مؤدلج على سبيل المثال، أو واقع مسؤول عن حجب التاريخ، لتصبح قيمة «العادية» تلك عنوانا بالبنط العريض بغض النظر عن كل السياقات التي ينبغي أن نهتم لها.

أشعر أحياناً برغبة في أن أصرخ أن هنالك أدبا عابرا للأجناس، وأن تجنيس العمل لا يتعدى اليوم أنه اتجاه تجاري ليس إلا، ينبغي على الأدب أن يقصيه لذلك وحده فقط، فكيف اذا ما كانت حدود هذا التجنيس تضيق علينا المهمتين جداً في الكتابة الأدبية مساحات التعبير والتجريب، من قال مثلا إن عملاً صحفياً يعتمد على المنهج الاثنوجرافي، في تقصي قصة ما، أنه ليس أدباً؟ أو أن استطراد كناوسغارد في «كفاحي» حول حقائق موضوعية عن ظاهرة ما في وسط انهمار ذاتي وحميم ليس جزءا من شكل الأدب الذي يكتبه؟ تفتقد الكاتبة اليابانية هانغ كانغ أختها التي أُجهضت قبل ولادة هانغ كانغ! ومع ذلك يخيم ذلك الشعور بالخسارة حياة الطفلة التي ستأتي لاحقا، وتتبع اثر ذلك في بياض كل شيء عبر كتابها «الأبيض»، العظام والأسنان والقماط، والغيمة، باحثة عن امتداد تلك الخسارة في ألوان أشياء متناثرة في العالم لكنها بيضاء. يتأهل العمل للفوز بجائزة البوكر البريطانية، هل من المهم أن تكتب هانغ كانغ على الغلاف أنها رواية أو قصة؟ لا طبعا.

كثيرا ما أقرأ أعمالا مترجمة للعربية عن لغات أخرى تحَرج فيها الناشر عن كتابة جنس العمل، خوفا من ردة فعل القارئ العربي، فهي في لغتها الأصلية «رواية» لكن القارئ العربي عند قراءة العمل قد يستهجن هذا التصنيف، ويرى أنها دجل يمارس عليه من قبل الناشر!

ينقبض قلبي مجددا، ولا يمكن ولا أستطيع أن أقول ذلك في حبكة واضحة ومحددة ومنضبطة، إنني ابنة عالمي السائل، ابنة واقعي المحطم وغير المنطقي، كيف ينبغي أن يكون انقباض قلبي هذا منظما وفق منطق واضح ومحدد سلفا. دعونا نكتشف منطقنا الخاص، تقاليدنا الجديدة، التي يمكن أن تمثل انقباض قلوبنا اليوم.