مبارك بن خميس الحمداني -

ثمة محاذير منهجية في عتبات الحديث عن مستقبل المجتمعات، هذه المحاذير قد تكون متصلة بحجم ومستوى التراكم المعرفي والبحثي عن المجتمع في ماضيه وحاضره بما يؤسس لاستقراء مستقبله، وقد تكون متصلة بالمنهج ذاته ومدى قدرته على التأسيس لأدوات متكاملة في سياق فهم المجتمع والتنبؤ بمسارات تحوله وتغيراته، ويوضح ريتشارد سلوتر عالم المستقبليات أن هناك عدة مبادئ أساسية للاستشراف الاستراتيجي للمجتمعات هي: (النظر البعيد - النظر الفسيح - النظر العميق - النظر بشكل مختلف - التملك - مناهج تشاركية صارمة). وفي النظر إلى إسقاط هذه المبادئ بشكل رئيس على المجتمع في عُمان فإننا سنجد أنفسنا أمام معضلتين أساسيتين: تتجسد الأولى في أن ما يتوفر من أدبيات حول المجتمع وشؤونه وظواهره وتركيبته وتغيراته وأحوال بنيته لا يسمح في بعده الكمي والمنهجي بتقديم قراءات مستقبلية ناجزة حول سؤال (إلى أن يسير المجتمع في عُمان؟) والأمر الآخر أن طابع الرواية المعرفية حول المجتمع في عُمان إنما ينحو إزاء الرواية الرسمية من خلال البيانات أو حتى التحليلات التي تبتغي تقصي أوضاع المجتمع ماضيًا وحاضرًا.

وإزاء ذلك فإن ثمة مدخلان أساسيان يمكن الولوج من خلالهما لتقديم قراءة أولية حول مستقبل المجتمع في عُمان، الأول يتجسد من خلال قراءة منظار السياسات العامة عبر طرح سؤال ما الذي تبتغيه السياسات العامة سواء كانت في الاقتصاد أو المالية أو التنمية المجتمعية أو التعليم وسواها؟ وما شكل المجتمع الذي يمكن أن تنتجه؟ والمدخل الآخر هو من خلال قراءة سيناريوهات التحول الديموغرافي وربط صورة المجتمع الجديد بمعطيات التحول الديموغرافي المتوقعة. والمخرج من كلا المدخلين يبقى رهين القصور الموضوعي. فنحن على سبيل المثال لا يمكن أن نجزم بتصور معين لشكل المجتمع بناء على النمو السكاني أو التوسع في إحدى مكونات الهرم السكاني ونهمل في المقابل طبيعة ما يعرف بـ «الاستجابة الديموغرافية» المتصلة أساسًا بطبيعة سلوك الأفراد في الزواج والإنجاب وممارسات الصحة الإنجابية والاهتمام بالصحة العامة ودورها الثقافي في تكوين الواقع الديموغرافي الجديد للمجتمع، فعلى سبيل المثال وبالنظر إلى معدلات الخصوبة فقد وصل معدل الخصوبة الكلي للعمانيات في عام 2016 إلى 4 أطفال لكل امرأة، وذلك بعد ثبات المعدل لسنوات طويلة تمتد إلى بداية عقد الألفية الجديدة عند 3.7 أطفال لكل امرأة مما يعني اتجاها تصاعديا للزيادة الطبيعية. كما أن حجم الأسرة المعيشية في عُمان والمقدر بـ 7.4 أفراد ما زال يحتفظ بنسبة تغير محدودة مقارنة بطبيعة التغيرات الاقتصادية والثقافية الطارئة على مكونات الأسرة العُمانية.

مستقبلًا ستشكل الزيادة المتوقعة في عدد السكان (2011 - 2040) بحسب سيناريوهات الإسقاطات السكانية ما يقارب 2.4 مليون نسمة بافتراض معدل متوسط للخصوبة. وسيقترب المجتمع من النافذة الديموغرافية في عام 2040 من خلال تناقص نسبة السكان العُمانيين الأقل من 15 سنة إلى حدود 27.4% وستتزايد نسبة السكان في سن العمل (15 - 64) سنة ليشكلوا ثلثي تكوين المجتمع في عُمان وسيرتفع أمد العمر المتوقع عند الولادة في عام 2040 ليصل إلى 82.2 للإناث و 77.67 للذكور وأمام كل هذه المعطيات تحتم القراءة الاجتماعية التنبه إلى ارتفاع مستويات الطموح والتوقعات الاجتماعية عوضًا عن ضرورة تأطير سياسات اجتماعية تستوعب التحولات الديموغرافية مع الحاجة إلى إعادة تصميم منظومات الحماية الاجتماعية وشبكات الأمان الاجتماعي وفق مصفوفة خيارات متعددة تتوافق وتطلعات المجتمع الجديد. كما أن ثمة حاجة ماسة إلى إعادة هيكلة أنساق التعليم لتخدم التغيير الثقافي المتطلب خصوصًا في ظل تحول الدولة إلى شاكلة دول المشاركة والتخصيص بدلًا من دولة الرعاية. كما أن الحاجة ستصبح ماسة لإيجاد مصادر تمويل للموازنات الموجهة لتنفيذ السياسة الاجتماعية كبديل عن التمويل الحكومي والضغط على الموازنة العامة للدولة وثمة حاجة ملحة إلى تأطير سياسة سكانية أكثر قدرة على استيعاب معدل الزيادة الطبيعية العالي نسبيًا للعمانيين ومعدل المواليد الخام المرتفع بشكل يضمن توظيف هذه المعدلات في سياق خدمة النمو الاقتصادي وتأطير الثروة البشرية بشكل داعم لأغراض التنمية. فكما يقول الفيلسوف الاقتصادي جون بودان: «ما من ثروة أو قوة إلا بالإنسان».

ما يمكن قوله أيضًا إن مستقبل المجتمع في عُمان (على الأقل في خمس إلى عشر سنوات قادمة) سيشكله عامل (التمحور حول الفرص والموارد الاجتماعية) ونقصد بها هنا فرص التعليم في مستوياته العليا وفرص العمل وتكوين الثروة وبناء المكانة الاجتماعية وفرص بناء رأس المال الاجتماعي وفرص الوصول إلى الموارد العامة وفرص تحقيق متطلبات التكيف الاجتماعي وتحديدًا لفئة السكان في سن العمل (15 - 64) عامًا. وإزاء هذا التمحور سيجد المجتمع نفسه متطلبًا لإدخال وبناء قيم مستجدة وقد تكون قيما طارئة تمكنه من التكيف مع هذه الأوضاع الجديدة، ومع هذه القيم قد تتبدل مفاهيم ثقافية أساسية مثل مفاهيم (الجدارة والكفاءة والاستحقاق) ويجد المجتمع نفسه أمام ضرورات ملحة لتطوير نسق ثقافي جديد قد تكون السياسات العامة أحد عوامل تشكيله وبنائه ومحورته. وإن كان المجتمع الراهن قد تشكل بفعل عدة عوامل منها كثافة ما يعرف بـ «المتصل الريفي الحضري» في عُمان وامتداد التنمية خارج الحواضر وشموليتها. فإن مستقبل المجتمع يقتضي تعزيزًا أكبر لإمكانيات المدن غير المركزية إداريًا واقتصاديًا لتحقيق ثلاث مستهدفات رئيسية: توليد الفرص وزيادة تنافسيتها على كافة المستويات – تحقيق الاندماج الاجتماعي الكلي للقاطنين فيها – تحقيق الكفاءة والاكتفاء الذاتي على المستويات التشغيلية والاستراتيجية. كل ذلك في سبيل ضمان مدن مستدامة مولدة وخلاقة للفرص.

ويمكن التنبه إلى تجارب بعض الأقطار الآسيوية وتحديدًا كوريا الجنوبية والصين في الاستفادة من العائد الديموغرافي وما يُعرف بـ «طفرة الشباب» حيث إن ملامح الاستفادة من ذلك تلخصت بحسب دراسة «سهيل عناية الله» في الآتي:

ازدهار الشركات الصغرى.

تزايد الحراك الاجتماعي الأفقي والعمودي.

تحول الاستثمار الأجنبي من مولد للوظائف إلى ناقل للتكنولوجيا وبناء

الشركات الوطنية المتعددة الجنسيات.

وجود الرؤية الوطنية الواضحة في التحول من اقتصاد عماده الزراعة إلى الصناعة ومن ثم اقتصاد الخدمات وبعده اقتصاد الابتكار.