ربما كثيرون مثلي لم يسمعوا باسم «عنايات الزيات» من قبل، فليس اسمها مما يتردد في المتن الثقافي قصدا أو سهوا، ولكنّ كِتابا يحمل اسمها في عنوانه يثير تساؤلا أوليّا عمن تكون عنايات الزيات التي ذهبت مؤلفتُه في أثرِها. أتحدث هنا عن كتاب «في أثر عنايات الزيات» للكاتبة والشاعرة المصرية إيمان مرسال الصادر عن الكتب خان في عام 2019م.

وأعترف أنه ليس الفضول وحده لمعرفة عنايات الزيات هو ما دفعني لقراءة هذا الكتاب، ولكنها إيمان مرسال نفسها التي قرأتُ لها من قبل كتابها المهمّ «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، فعرفتُ أن هذه المرأة لا تكتب إلا المختلف.

وقد آليتُ قبل أن أقرأ كتاب مرسال عن عنايات الزيات، أن أقرأ ولو يسيرا، عن سيرة المرأة التي افترضتُ مبدئيا أنها صاحبة منجز أدبي واسع حتى استحقّت أن تُفرد مرسال كتابا يتتبع أثرها دون غيرها ممن ملأوا الدنيا وشغلوا الناس. والحق أني اتّهمتُ نفسي بجهلها من تكون عنايات الزيات التي سمعتُ عنها أول مرة في 2019 بعد صدور كتاب إيمان مرسال.

وعنايات الزيات كما تختصرها المعلومات المبثوثة عنها في الأنترنت: «كاتبة مصرية ولدت في القاهرة، تعد من أبرز الكاتبات المنتحرات في مصر، كتبت رواية وحيدة أثارت إعجاب العديد من النقاد والكتاب المصريين، وهي رواية «الحب والصمت» الصادرة عام 1967م بتقديم الكاتب مصطفى محمود، وكان انتحارها الغامض في سن الشباب وصدور روايتها بعد موتها سببا لظهور اسمها في عالم الرواية العربية آنذاك، كما تم إنتاج فيلم سينمائي ومسلسل إذاعي مستوحيين من الرواية، وقد عاود اسم عنايات الزيات الظهور مجددا بعد غياب حين أعادت دار المحروسة طباعة روايتها عام 2019».

بهذه العبارات نجد أنفسنا متلبسين بالفضول بشأن حقيقتين: الانتحار وأسبابه، والأثر الوحيد المتمثل في الرواية التي تركتها قبل أن تختار إنهاء حياتها. وقد كان ممكنا لأي قارئ عابر أن يكتفي بهاتين المعلومتين: كاتبة انتحرت، ورواية وحيدة نُشرت بعد انتحار كاتبتها بأربع سنوات. وأقصى ما باستطاعته أن يقرأ روايتها، وقد يقرأ - إن استبد به الفضول - بعض ما كُتب عنها بعد رحيلها من باب مجاملة الموت ومصالحة الضمير. ولكن إيمان مرسال شكّل لها الاقتراب من عالم عنايات الزيات حاجة مُلحّة للتشافي من رغبتها في الانتحار في مطلع التسعينيات كما يمكن للمرء أن يستشف من قراءة هذا الكتاب. فكانت رحلة العيش طوال هذه السنين مع عالم عنايات الزيات هي مرحلة التشافي والاقتناع بجدوى الوجود في هذه الحياة، إلى أن شفيت تماما بتأليف هذا الكتاب كما أفترض. فاختارت أن تتجشّم مشقة التقصي عمّا تربط به أطراف الحكاية التي أدت إلى انتحار صاحبتها، وتهميشها من المتن الثقافي. وعلى طريقة المحققين بدأت مأمورية البحث عن الحقيقة انطلاقا من الكتاب إلى الكاتبة، عبر معارفها وأصدقائها والأماكن التي يُحتمل أنها مرّت بها أو عاشت فيها. وفي نوفمبر 2019 أصدرت كتابها «في أثر عنايات الزيات» لتسجل ولادة جديدة لعنايات التي لن تعرف أبدا أنها ستولد أكثر من مرة بعد موتها.

وهكذا، وجدتُ أنه من الأصوب أن أبدأ بقراءة رواية «الحب والصمت» أولا، قبل قراءة كتاب إيمان مرسال الذي فاز مؤخرا بجائزة الشيخ زايد عن فرع الأدب؛ جريا وراء ما يفرضه منطق تسلسل الأشياء في ربط الأسباب بنتائجها. وأحسب أن هذا ما أرادته إيمان مرسال أيضا، أن تلفت النظر بكتابها هذا إلى رواية «الحب والصمت» التي سقطت من تأريخ الرواية العربية، والنسوية منها بنحو خاص.

عثرتْ مرسال على نسخة من الرواية مصادفة عند أحد بائعي الكتب في سور الأزبكية في عام 1993م بينما كانت تبحث عن نسخة رخيصة الثمن من كتاب «كرامات الأولياء» للنبهاني، فاشترتها على الفور بجنيه واحد. وتقرّ أنها ليست من الروايات غير المسبوقة في تاريخ الأدب، ولكنها أُغرمت بها وراحت تدوّن منها فقرات في كراستها وكأنها نصوص قصيرة مستقلة، كأنها تنوير لما كانت تشعر به وقتها (ص24). تقول: «أحيانا يهز كيانك عمل أدبي ما ولا يعني ذلك أنه عمل غير مسبوق في تاريخ الأدب، أو أنه أفضل ما قرأت في حياتك. إنها الصدف العمياء التي تبعث لك رسالة تساعدك على فهم ما تمر به، في اللحظة التي تحتاجها تماما، دون حتى أن تعرف أنك تحتاجها. الامتنان ليس للأعمال العظيمة فقط، ولكن للأعمال التي كان دورها عظيما في فهمنا لأنفسنا في لحظة محددة، حتى إننا عندما نلتفت لحياتنا يمكننا تعريفها بهذه الأعمال» (ص25)

عبارة كهذه تلقي أضواء كاشفة ليس عن الدوافع التي أدت بإيمان مرسال للبحث في أثر كاتبة «الحب والصمت» وحسب، ولكنها تقدم رأيا نقديا في نص رافقه التحفظ والتردد طويلا من قِبَل النقاد الذين قاربوه ولم يستطيعوا فصله عن انتحار صاحبته، بدءا من مصطفى محمود، مرورا بأنيس منصور، وليس انتهاء بلطيفة الزيات أو محمود أمين العالم، ومؤخرا كاتب مقدمة طبعة المحروسة شعبان يوسف. غير أن إعجاب مرسال بالرواية لم يمنعها من أن تبدي انتقادها لبعض تفصيلاتها، لاسيما نهايتها التي وصفتها بأنها سيئة، بل وصفت الجملة التي انتهت بها الرواية بأنها أسوأ جملة (ص23). وما كانت إيمان نفسها تتوقع أن ملاحظة كهذه ستكون مدخلا لكشف حقيقة لاحقة تتصل بهذه النهاية التي انفصلت عن روح اللغة التي كُتبت بها الرواية برمتها (ص188).

استعانت إيمان مرسال بالرواية من حيث هي فن تخييلي، كخارطة طريق أولية لفهم شخصية كاتبتها من دون أن تنسى الفرق بين الخيال الماثل في الكتاب المنشور، والحقيقة الغائبة أو المغيّبة في الواقع، أليس كل عمل روائي انعكاسا نسبيا لحياة كاتبه وشخصيته لاسيما إذا كان عمله الأول؟ فما بالنا إذا تصادف أنه الوحيد كذلك؟ لا تقرأ إيمان مرسال رواية «الحب والصمت» بمعزل عن عنايات، إذ تعقد مقارنات بينها وبين بطلة الرواية «نجلاء» التي بدا واضحا أنها تشبهها في أكثر من وجه، وقد استخدمت عنايات اسم صديقتها الفنانة نادية لطفي اسما لصديقة بطلتها نجلاء كذلك (ص39، 40).

وفي الوقت الذي تقدّم فيه إيمان مرسال (تجاوزا) سيرة غيرية لعنايات الزيات، تقدم في الأثناء سِيَرا للأشخاص الذين ارتبطوا بها وارتبطت بهم، وأبرز هؤلاء الفنانة نادية لطفي. تقول مرسال: «فكرتُ أن قصتيّ نادية وعنايات متشابكتان، وأن من الصعب فصل حكاية [الواحدة] منهما عن الأخرى» (ص48). بل إنها تمنّت لو كانت عندها حياة أخرى لتتتبع قصة نادية لطفي أيضا، تقول: «غير أني خمنتُ أن قصتها بالنسبة لي جزء من قصة عنايات» (ص51)

تعرف إيمان مرسال جنس الأدب الذي تكتبه عندما عمدت إلى إبعاد القارئ عن الاعتقاد بأن كتابها سيرةٌ غيرية، إذ تورد الفرق بين السيرة وتتبع الأثر. تقول: «تتبع أثر شخص يختلف عن كتابة قصة حياة هذا الشخص. تتبع الأثر لا يعني ملء كل الفجوات، ولا يعني البحث عن كل الحقيقة من أجل توثيقها. إنه رحلة تجاه شخص لا يستطيع الكلام عن نفسه، حوار معه، ولا يمكن إلا أن يكون من طرف واحد» (ص205 – 206). تدرك مرسال حدود الالتباس بين متتبع الأثر وكاتب السيرة الذي «يعرف عن ماذا سيكتب، وأين يجد مادته، وما أهميته للقارئ، إنه في الحقيقة يعرف القارئ» (ص206). ولكن إيمان لم تكن تعرف عمَ كانت تبحث، ولا عن أهمية بحثها في المقابر، وفي لحظات إحباطها تفقد الإيمان بأهمية ما تفعله. بيد أن الأهم من كل ذلك، أنها تعطينا تعريفا جديدا للكتابة عن الآخر في عدم انفصالها عن الكتابة عن الذات؛ فكتابها الذي يتتبع أثر عنايات الزيات، ما كان ليفعل ذلك لولا أنه يجعلنا نتتبع إيمان مرسال نفسها وهي تتبع خطى الزيات، وتقابل من قابلتهم، وتلتقي بمن عرفتهم. ستدرك إيمان طريقا آخر سلكته عنايات من قبل عندما تكتشف بمحض الصدفة أن عنايات كانت هي الأخرى تتتبع أثر شخصية عالم المصريات لودفيج كايْمَر الذي انتقل للعيش في مصر في عام 1927م، ومات فيها في عام 1957م بعدما آلت مكتبته الهائلة للمعهد الألماني للآثار في القاهرة حيث كانت تعمل عنايات في آخر سنوات حياتها، وبدأت الكتابة عنه في روايتها الثانية التي لم تكتمل. تقول مرسال: «كان من الصعب عليها أن تحدّق في حياة شخص آخر دون أن تحدق في حياتها» (ص232).

ومثلها حدّقت إيمان مرسال في حياتها بينما كانت تحدّق في حياة عنايات الزيات، فاتخذ تتبعها لها خطين متوازيين: سلكت الأول منهما بوعيها وإرادتها، واكتشفت الثاني بمحض الصدفة عندما عرفت أن عنايات كانت تتتبع أثر شخص آخر، وقد شغلتها طويلا عبارةٌ كتبتها الزيات في أوراقها المتناثرة، ولم تفهمها مرسال في حينها، تقول: «يجب أن تبدأ الرحلة من المقابر». ومثلها بدأت إيمان رحلة تتبعها لعنايات من المقابر قبل أن تلتقيا في سكة واحدة: «حلمت عنايات أن تكتب كتابا عن حياة كايْمَر، عن حياتها أيضا، بدأت تذهب للأماكن التي تحرَّك فيها ولمقابلة بعض أصدقائه من الألمان» (ص231).

وإذا كان بالإمكان أن نُجمل ما فعلته إيمان مرسال «في أثر عنايات الزيات» فهو أنها زحزحت الهامش إلى دائرة المتن/ المركز بعد ما يقترب من ستين عاما من التهميش، بتعرية ذلك المتن/ المركز الذي أقصى الزيات وأبعدها عن دوائره ومنابره، ثم حاول تلميع فعلته بمصالحة مكشوفة تخفف من وطأة تأنيب الضمير ليس إلا. وقد اتخذ هذا المتن – وما يزال - عدة أوجه، نجملها في الآتي:

• المتن الذي مثلته سلطة العائلة البورجوازية التي افترضت إيمان أنها تخلّصت من أرشيف عنايات الشخصي وأبقت منه ما يحافظ على صورة العائلة ناصعة دون خدش، وهو ذلك الذي سمحت بنشره من يومياتها، ففقدنا بذلك جانبا مهما من حياة عنايات ومكابداتها الخاصة.

• المتن الذي مثلته أسماء أدبية وثقافية تسيّدت المشهد الثقافي في مصر خلال سنوات الخمسينيات والستينيات ممن أطلقت عليهم مرسال صفة «كهنة الأدب»، الذين بجرة قلم منهم يقررون من يصعد إلى المشهد ومن يتأخر، وهم الذين لجأت إليهم عنايات لقراءة روايتها لتحصل منهم على اعتراف بموهبتها أو كتابة مقدمة لروايتها أو دفعها للنشر. إنهم ممن «يتمتعون بالسلطة، ويعتبرون أنفسهم قضاة الثقافة، يريدون تشجيع المواهب الجديدة، ولكنهم للأسف مشغولون للغاية» (ص202).

• المتن التأريخي للرواية العربية الذي أسقط اسم «عنايات الزيات» من قائمته حتى بعد نشر روايتها؛ انسياقا وراء التكرار الآمن لما أوردته الدراسات السابقة واللاحقة، كي لا يطرق لنفسه طرقة غير مأمونة ولم يسبقه إليها السابقون ولم يُقروه. تضرب مرسال مثالا لذلك كتاب بثينة شعبان «100 عام من الرواية النسائية العربية» (ص198- 199)

• المتن الذي يمثله الأرشيف المؤسسي الذي لا يحتفظ لعنايات الزيات بملف في أي من محطاتها. ليس لها ملف خاص بعدما قرر «الخبير» أنه ملف لا يحظى بأهمية طالما لم تزد فيه ورقة ولم يسأل عنه باحث في آخر خمس سنوات، فقرر إحالته إلى «الهالك». الملفات الوحيدة التي تذكر عنايات هي ملفات الآخرين الذين ارتبطت بهم، كملف نادية لطفي التي يحتفظ الأرشيف المؤسسي بملفها بصفتها «الفنانة».

• متن شجرة العائلة التي اختارت لأفرادها مقابر الغرف الرئيسة في مدفن العائلة، واختارت لعنايات وجدتها الحبشية مقبرة في غرفة هامشية، وأُسقط اسمها من شجرة العائلة سهوا أو عمدا، قبل أن تُسقَط شاهدة قبرها التي تحمل اسمها.

• متن القانون الذكوري الذي يعطي الزوج حق رفض طلب الزوجة الطلاق منه لانعدام الضرر من وجهة نظره، ويلزمها بطلبه إياها في بيت الطاعة، قبل أن يتم تعديله في عهد السادات، ولكن عنايات كانت قد رحلت.

بكتابها زحزحت إيمان مرسال «عنايات الزيات» من الهامش إلى ضوء المتن الذي أدرك اسمها مؤقتا في 1967 بعد صدور روايتها ثم أهملها. هامشية عنايات كانت الدافع الحقيقي لتتبع أثرها، ولكن ما لم تتوقعه إيمان أن فوز كتابها «في أثر عنايات الزيات» بجائزة الشيخ زايد مؤخرا، قد أخرج عنايات الزيات إلى النور، وإلى الأبد، بنحو يصعب على عنايات نفسها توقّعه، وهي التي انتحرت لرفض الدار القومية نشر روايتها. أستحضر عبارة إيمان مرسال: «لو كنت أنا من انتحرتُ في يناير 1993، لشعرتْ عنايات بالندم أكثر من الحزن، ذلك أنها لم تحاول أن تعرفني. ولكن منذ انتحرتْ عنايات في يناير 1963، وأنا أشعر بالحزن والذنب معا، ذلك أني صدّقت موهبتها وترقّبتها أن تعيش لتكتب، ذلك أني فهمتُ آلامها ولكني لم أعرف كيف أقول لها ذلك» (ص191). فكم «إيمان مرسال» نحتاج للكتابة عن عنايات كثيرات وكُثر، ممن أخطأتهم الظروف أو ولدوا في الزمن الخطأ، وعبروا الحياة بخفة وصمت، ولم تسعفهم مخطوطات تركوها خلفهم، ولا مقابر تحتفظ بشواهد قبورهم؟