يفتح أبوابه مجددا للحفاظ على تاريخه العريق من الاندثار -

بخاء - أحمد بن خليفة الشحي -

على غرار أسواق العرب المشهورة منذ القدم يقف سوق دبا شاهدا على عراقة التاريخ العماني وأصالة تراثه وهذا ما حدا بأهالي ولاية دبا وبدعم من معالي السيد محافظ مسندم على إحياء هذا السوق الشعبي، وإقامته في مكانه التاريخي القديم بالقرب من حصن دبا التاريخي - وانطلاقاً من الحرص على إحياءً الموروث الشعبي للولاية والاعتزاز بالماضي العريق لسوق دبا نظم الأهالي سوقاً شعبياً بجوار حصن دبا التاريخي المسمى «السيبة» بالتنسيق والدعم من قبل جهات الاختصاص بالولاية.

وكانت أول انطلاقة له يوم الجمعة 26 فبراير 2021م ليعبر بذلك عن موروث اجتماعي وثقافي يستشعر من خلاله مختلف أطياف المجتمع عبق الماضي التليد وأثره الطيب المرتبط بالقيم والمبادئ والتراث الأصيل الذي توارثته الأجيال المتعاقبة جيلاً بعد جيل إيماناً بما للسوق من أهمية في تنشيط الحركة الاقتصادية وبشرى خير لأمل منشود منذ سنين بإعادة بناء سوق دبا واستعادة مجده القديم ليكون معلماً تاريخيا بارزاً، ومركزاً تجارياً وعامل جذب سياحي من الطراز الأول.

وحول المكانة التاريخية لهذا السوق الذي اكتسبها من مكانة الولاية التي يوجد بها، وهي ولاية دبا التي زارها الرحالة والجغرافيون ليكتبوا عنها وعن سوقها التقينا الدكتور راشد بن محمد حروب الشحي أحد أبناء ولاية دبا المهتمين بالتاريخ العماني عموما وتاريخ محافظة مسندم وولاية دبا خصوصاً ليحدثنا عن السوق.

شهرة سوق دبا

يقول الدكتور راشد الشحي: إن شهرة السوق تنطلق من شهرة اسم دبا ذاتها الذي لا يعد اسما حديث العهد بل هو اسم أصله قديم موغل في العراقة والقدم منذ عصور وربما قدم المدينة نفسها حيث أورد الأستاذ أحمد محمد علي عبيد في كتابه دبا في الجاهلية وصدر الإسلام قوله: «ينقل المؤرخ المعروف «سترابو» عن أتميد ورس السكندري «101 ق.م» أن هناك شعباً من شعوب الجزيرة العربية اسمه «الدبائيون» وذكر أن دبا كانت عاصمة عمان في ذاك الزمن، كما ذكر الدكتور سعيد بن محمد الغيلاني في حديثه عن المكانة التاريخية لدبا في ندوة دبا عبر التاريخ «بأن دبا كانت عاصمة لعمان في حقبة من حقب التاريخ قبل الإسلام وفق ما أورده بعض المؤرخين».

وورد ذكر دبا على لسان الكثير من الكتاب والمؤرخين قال عنها الجغرافي الكبير ياقوت الحموي في معجم البلدان: «دبا مدينة قديمة مشهورة لها ذكر في أيام العرب وأخبارها وأشعارها وكانت قديما قصبة عمان» وسرد قصتها المرزوقي في كتابه «الأزمنة و الأمكنة» وكذلك ابن الأعرابي العالم اللغوي المشهور - فموقع ولاية دبا المتميز في أقصى جنوب جزيرة مسندم أي في أقصى الجزء الشمالي من سلطنة عمان وإطلالتها على (بحر عمان) وهي إحدى ولايات محافظة مسندم الأربع (خصب - بخاء - دبا - مدحاء) ذات الموقع الاستراتيجي والطبيعة المحكمة لأهميتها الاقتصادية والسياسية لسيطرتها على (مضيق هرمز) إحدى أهم الممرات المائية العالمية جعل لها مكانة مرموقة عبر حقب التاريخ ويذكر الأستاذ عبدالغفار حسين فيما نشر بجريدة الخليج بدولة الإمارات العربية الشقيقة في عددها «7654»: «لم تشتهر مدينة عمانية في التاريخ العربي القديم كما اشتهرت دبا المدينة العمانية التي تقع على خليج عمان بالقرب من مدخل الخليج العربي وبمحاذاة سلسلة جبال مسندم المطلة على بوابة الخليج العربي.

المكانة التاريخية

وأكد الدكتور راشد الشحي في حديثه قائلا: لقد كان لسوق دبا مكانته التاريخية منذ العصور الزمنية الغابرة فهي سوقـاً وميناءً تجارياً أي منفذاً عالمياً لواردات البضائع الأجنبية ومصدراً للبضائع العربية، وقال البغدادي في كتابه «المحبر»: «دبا هي إحدى فرضتي العرب ويأتيها تجار السند والهند والصين وأهل المشرق والمغرب» أي أنها ميناء يطل على سواحل آسيا وليست عبارة «أهل المشرق والمغرب» عبارة عارضه ذات تفخيم لا تستحقه بل هي عبارة أطلقت على هذه السوق ربما لكونها من أشهر أسواق العرب قاطبة ويذكر الدكتور شوقي ضيف في كتابه «العصر الجاهلي» وبجانب هاتين السوقين – ذو المجاز وعكاظ – كان للعرب أسواق أخرى كثيرة يميرون فيها ويشترون ويبيعون ومن أهمها دومة الجندل في شمال نجد وسوق الحيرة وسوق الحجر وسوق صحـار وسـوق دبا بـعـمان، وقال أبو حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع و المؤانسة»: «دبا سوق من أسواق العرب بـعـمـان»، وهو ما ذكره الأصمعي وجواد علي وغيرهم في سياق الحديث عن أسواق العرب قبل الإسلام، ويذكر الكولونيل مايــلز مؤلف كتاب الخليج بلدانه وقبائله في القرن التاسع عشر الميلادي عن دبا: «هنا نأتي إلى بلدة وخور دبا الشهيرين»، ويضيف في كتابه: «إن هذا الخور المحمي تماما عرضه ستة أميال وكان فيما مضى سوقاً تجاريةً هامة ومشهورة».

السوق موقعه وبناؤه

وأوضح الدكتور راشد الشحي أن السوق يقع في مركز ولاية دبا بالقرب من شاطئ البحر ويتكون من 45 محلاً وبقي مزدهراً حتى سنة 1985م وفي بدايات القرن العشرين وبالتحديد في الفترة من 1920 إلى 1932م قام الشيخ صالح بن محمد الكمزاري الشحي الحاكم المحلي للولاية آنذاك بإضافة أربعة عشر محلاً تجارياً أجرها للتجار كما ذكر توماس والروايات المحلية وهو ما أورده الأستاذ علي بن محمد الشحي في بحثه المعالم الأثرية في ولاية دبا، أما مباني السوق على تعددها واختلاف مساحاتها وتنوع استخداماتها كانت مبنية من الطين «الطوب اللبن والتبن» ومسقوفة بجذوع أشجار النخيل وجريدها المربوط ببعضه بحبال مصنوعة من الليف والذي يسمى محلياً «الدعن» وكانت المباني متنوعة بين ما يسمى دكان وبخار وعمارة، ومساحة المحل الواحد بحدود «3X5» أمتار مربعة، ما عدا العمارة فمساحتها تزيد عن ذلك لتصل إلى «7X10» أمتار مربعة وهي عبارة عن محل أكبر مساحة عن غيره من المحلات، يكون جزء منه مفصولاً بجدار داخلي يستخدم لتخزين البضائع أما «البخار» هو عبارة عن مخزن للغلال ومختلف المواد وكانت محلات السوق تستخدم من قبل عامة التجار بأجور رمزية من قبل الحاكم وصلت في بعض الفترات القيمة الإيجارية إلى عشر (روبيات هندية) للشهر الواحد ويكون أحياناً دون مقابل وهذا ما ذكره إبراهيم بن عبدالخالق الرئيسي في بحثه الحياة الاقتصادية في ولاية دبا، كما يذكر كبار السن من الرجال بأن السوق كانت لها بوابتان للقوافل من جهتي الشرق والغرب، واندثر السوق وتغيرت معالم المكان ولم تبق منه سوى أطلاله والبيوت المجاورة له والتي تسمى «حارة التجار» والجامع الواقع في حدوده «جامع السوق» لتبقى تلك المعالم وغيرها شاهدة على عراقة المكان وأهله.

واردات وصادرات

ويشير الدكتور راشد الشحي أن سوق دبا لم يقتصر على التداول اليومي بالبيع والشراء للمواد والسلع هذا بل كان مركز إشعاع للاقتصاد وميداناً للأدب والشعر وحلقة وصل مع حضارات العالم آنذاك مما يؤكد على مدى الحضور والحراك الثقافي بجانب التجارة والاقتصاد في هذه البقعة الجغرافية منذ القدم فقد كانت للسوق علاقة تجارية وتبادل اقتصادي على مستوى عالمي مع مختلف الدول والأقطار حينها نحو إفريقيا كالحبشة والصومال وغيرها وآسيا كسرنديب وجاوة وفارس والهند والسند والصين وسهوب آسيا وغيرها من البلدان فكان تجار دبا يستوردون من الأجانب أصنافاً متنوعة من البضائع كالحرير والكندر والمر والصبر والدخن والحبوب والأرز واللبان والأخشاب والمعادن كالذهب والحديد والجواهر والعود والورق والعبيد والفخار وغيرها الكثير - أما الصادرات فكانت الجلود والأدم والعسل والسمن والإقط والثياب والسيوف والدروع، وغير ذلك الكثير من البضائع التي تشتهر بها المنطقة والتي تفد إليها من شتى الأصقاع والبقاع من شبه جزيرة العرب، هذا بجانب ما يعقد فيه من سوق سنوي والذي يعتبر وفق النظم الاقتصادية والتجارية الحديثة بما يسمى «مهرجان التسوق» حيث كان يعقد فيه سوقاً عظيماً في آخر شهر رجب حتى منتصف شهر شعبان من كل سنة، كما ذكر المرزوقي في كتابه «الأمكنة و الأزمنة».

وبعد الموسم تستمر حركة البيع والشراء المعتادة إلى حين الموسم الآخر، أما قبل هذا الموسم فيتم تجميع الغلال والبضائع على مر السنة في مخازن مخصصة لذلك فإذا اقترب موعد السوق أتى التجار من كل حدب وصوب حتى إذا أتى آخر يوم من شهر رجب أقيم ذلك اليوم المشهود فيستمر حتى منتصف شهر شعبان من العام ذاته، فيبيع التجار فيه بضائعهم كأنها بيع سنة أي يربحوا بذلك البيع ربح بيعهم في سنه كاملة وأن أول من يبيع فيه هو الجلندى بن المستكبر ملك عمان حتى ينهي ما لديه من بضاعة وكان يأخذ عشر الربح من التجار، وهو يمكن أن يطلق عليه بلغة العصر الضريبة التي تعود منافعها للمصلحة العامة للدولة، وما أن ينتهي الموسم يعود كل تاجر وزائر ومتسوق إلى بلده ويبدأ الاستعداد للموسم المقبل غير أن ذلك لا يعني انتهاء السوق بل أن البيع والشراء العادي مستمر ومتداول بين الناس مع ترقب الجميع واستعدادهم للموسم القادم لما له من أثر طيب في النفوس وإنعاش للحركة الاقتصادية.

مكتشفات أثرية

وقد دلت المكتشفات الأثــريـة بموقع سيح الدير الأثري بولاية دبا في سبتمبر2012م، على العراقة الكبيرة للولاية والسوق، وتم العثور في الموقع على ما يقارب (2000) قطعة أثرية من البرنز والحجر الصابوني كالخناجر والأساور ورؤوس السهام والدلايات والأكواب ومختلف الآنية، بجانب عشرات القطع الأثرية المكدسة بعضها فوق بعض علاوة على أكثر من ألف وخمسمائة (1500) من القطع الأثرية بما فيها الأواني البرونزية والجرار وأدوات الحجر الصابوني، وقرابة خمسة آلاف (500) خرزة من أنواع ومواد مختلفة من بينها «عين الحورس» التي تعود إلى حضارة مصر الفرعونية، وغيرها الكثير التي تعود إلى حقب تاريخية مختلفة كالحقبة البارثية والعصر البرونزي وبداية العصر الحديدي ومنها للقرن الأول قبل الميلاد ومنها تعود لنهاية الألفية الثانية قبـل الميلاد، كما عثر سابقاً على عدد من الدراهم الإسلامية التي وجدت ببطن شعاب في منطقة سبطان الجبلية عام 1992م وعلى ضوء الدراسة لها تبين أنها تعود إلى زمن بني بويه في القرن الرابع الهجري وحتى منتصف القرن الخامس ويذكر أن هذه المسكوكات ضربت في عمان عـدا درهمين ضربا بشيراز عليها صمصام الدولة فمن واقع هذه القطع النقدية يتأكد لنا أن الحياة بدبا بدأت مع الإنسان الأول الذي استوطن هذه البقعة من الأرض وربطته علاقات تجارية واقتصادية مع مختلف حضارات العالم آنذاك على اختلاف الحقب التاريخية.