كتاب «الحركة الإباضية في المشرق العربي نشأتها وتطورها حتى القرن الثالث الهجري» أنموذجا -

قليلةٌ هي الكتب الأكاديمية التي تناولت تاريخ عُمان الإسلامي بحسٍّ منهجي رصين في فترة السبعينيات من القرن العشرين، والأقل منها تلك التي تناولت تاريخ العقيدة الإباضية نشأةً وتطوراً؛ لهذا يأتي كتابُ الأستاذ مهدي طالب هاشم « الحركة الإباضية في المشرق العربي نشأتها وتطورها حتى القرن الثالث الهجري « ليكون أحدَ الكتب الأكاديمية الرائدة في مجاله التاريخي الإسلامي الذي استحضر تاريخ عُمان وأصل حضورها، ولعله بذلك سدَّ فجوة ظلت شاغرةً طيلة فترة الستينيات من القرن نفسه وما قبلها، وكان بمثابةِ المصدر الأكاديمي الأول الذي يواكب نظرائه كتب الأساتذة المغاربة وخاصة الجزائريين ( الميزابيين والتوانسة والجرابة والليبين) وربما كتب الشيخ علي يحيى معمّر ومؤلفات الأستاذ فرحات الجعبيري اللذين توازيا معه زمنيا وإن فارقاه بسنواتٍ قليلة، ويعدُّ بذلك إنصافاً لتاريخ المذهب الإباضي الذي لم تتطرق إليه الدراسات العربية كثيراً، كما أنه مثّل مصدراً للدراسات اللاحقة التي أنجزتها الأكاديميات العلمية والمؤسسات الثقافية ليس في عُمان وحدها بل في كل أقطار الوطن العربي والغرب التي عُنيت بالعقيدة الإباضية ودراستها من كافة الجوانب.

وأصلُ هذا الكتاب المهم أطروحة علمية لنيل درجة الماجستير من جامعة بغداد أشرف عليها الأستاذ الدكتور فاروق فوزي عُمَر في يناير من عام 1977م، وصدر في طبعته الأولى عام 1981 م بعد قرابة أربع سنوات من مناقشته علميّا وإجازته.

وتتمركز طبيعته حول تقديم قراءة سياسية تاريخية معمّقة تلقي الضوء « على الدعوة الإباضية التي كانت من أنشط الحركات الخارجية في العصر العباسي سواء في المشرق العربي أو المغرب العربي، وهي الدعوة المتبقية وقد تركت أثراً كبيراً في التاريخ السياسي المعاصر لإقليم عُمان الذي لا يمكن دراسته من دونها فقد طبعت تاريخها عليه وصبغته بصبغتها» ص 8. وفي هذا الكتاب كما جاء في تعريف في الموقع الإلكتروني الخاص به « يتناول مهدي طالب هاشم دراسة الإباضية: (أتباع عبد الله بن إباض بن ثعلبة التميمي). ويتطرق إلى تحليل البدايات التاريخية لظهور الخوارج بعامة وحركة الإباضية بصورة خاصة، والتحولات العقدية والسياسية التي ظهرت على رجالها وانقساماتهم إلى فرق وجماعات ترتبط بأسماء أصحابها ودعاتها».

ويتكونُ الكتابُ في إطاره المادي من سبعةِ فصولٍ كان نصيبُ تاريخ الإمامة الإباضية في عُمان منها ثلاثة، جاء الأول بعنوان «بداية الدعوة وقيام الإمامة الإباضية الأولى (132-129 هـ) بينما تطرقَ الثاني إلى عصرِ القوة والازدهار في حراك «الإمامة الإباضية الثانية خلال الفترة ( 134-132 هـ)، وأمَّا الثالث فدرسَ مرحلة التدهور والسقوط الذي آلت إليه هذه الإمامة انطلاقا من ظروف المرحلة ومكوناتها، وفي كلِّ هذه الفصول يقفُ الباحث مليّا عند أهم الأحداث المفصلية المصاحبة للحركة الإباضية في المشرق العربي واليمن والمغرب ويكاد يستقصيها ويحللها، ويقرأ مسبباتها وتجلياتها وآثارها، ودور الدعاة المؤسسين لها، ويعرج إلى مرجعياتها التكوينية بدءًا من انطلاقها من البصرة في القرن الأول الهجري معتمداً على مصادر ومراجع أصيلة كان حظ الدراسات العُمانية قليلا لعدم توفرها إبان فترة التأليف، فلم يكن للباحث منها سوى كتب تاريخية وقليل من المخطوطات من مثل : « سيرة الإمام جابر بن زيد» «والحجة على من أبطل السؤال في الحدث الواقع بعمان» وقد مده بهما الإمام غالب بن علي الهنائي إبان إقامته بالدَّمام ـ إضافة إلى ما وجده في دار الكتب المصرية ومكتبة الوقاف ببغداد من مثل الزعيم سليمان الباروني « الأزهار الرياضية في أئمة وملوك الإباضية» وكتاب شرح النيل وشفاء العليل للعلامة محمد أطفيش بالإضافة إلى المطبوعات الأولى التي طبعها العمانيون في الشام ومصر وبيروت من مثل كتب الشيخ نور الدين السَّالمي وابنه الشيبة وأيضاً كتاب الشيخ سالم بن حمود السيابي « إسعاف الأعيان بسيرة أهل عُمان» كذلك كتاب «العقود الفضية في أصول الإباضية» للشيخ سالم بن حمد الحارثي ، وأكثر ما اعتمد عليه الباحث الببليوغرافيا التي أعدها مشرفه الدكتور فاروق عمر حول عمان ، ونشرها في العدد الرابع من مجلة المؤرخ العربي سنة 1974م.

والكتابُ كأيِّ كتابٍ تاريخيٍّ أكاديميٍّ يوثقُ الأحداث ويستقيها من منابعها ويوردها بعد مقارنة وتمحيص ليصل بعد ذلك إلى أهم نتائجه فيها معتمداً في ذلك على شروط منهجية محددة صارمة ما ينفك أن يحيد عنها ، فالخط المنهجي الواضح هو شعار يرفعه الباحث ليقول فيه شروط بحثه بدءًا من مقدمته مرورا بفصوله وانتهاء بخاتمته وملاحقه، وهو في كل ذلك يعالج موضوعه معالجة الناقد الذي لا يقبل الأشياء والأحداث على علاتها، وإنما يمحصها ويحللها ويناقشها ويبدي رأيه فيها ، فهو الذي يسيّر بحثه لا البحث يسيّره، من هنا وجدنا الباحث يعقد بحثاً مستقلا حول «نقد وتحليل المصادر». كما وجدناه يعرف مصطلحاته ويقيم حدود بحثه من سنة 64 هجرية إلى سنة 280 هجرية ذاكراً أسباب هذا التحديد بدءًا من نشأة الإمامة الثانية وانتهاء بسقوطها ككيان سياسي كما تشير بذلك الأدبيات التاريخية.

ويبدأ الكتابُ بمقدمةٍ ضافيةٍ أوضحَ فيها الكاتبُ أهمية دراسته الكامنة في كونها تمكّن القارئ من معرفة سير التيارات السياسية وقوى الدفع الحقيقية التي توجه علاقتها وتربطها بالتيارات السياسية الأخرى، فدراسة الدعوات(العقدية) - كما يقول ص8: «المعتمدة على تنظيمات سرية ضرورة هامة من الناحية السياسية؛ لأنها تلقي الضوء على عبقريات سياسية مغمورة كانت تدير التنظيمات السرية من وراء ستار، وتمهّد سبيل انتشار أفكارها العقائدية» ولعل هذا السبب من الدوافع التي جعلته يختار هذا المبحث المغمور بدفع من أستاذه المشرف الدكتور فاروق فوزي صاحب الدراسات المتخصصة بالخليج العربي وعُمان.

ولمَّا كانت الدعوةُ الإباضية من الدعوات المهمة المغمورة في تاريخنا العربي والإسلامي من حيث المنشأ والنشاط السياسي، فالدراسة أكدت على الدور الفعال للحركة أو المنظمة الإباضية كما يسمّيها وخاصة في طور الكتمان والتخفي ودور الإمام جابر بن زيد الأزدي وخليفته أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة في قيادتها عبر حاضرة البصرة التي كانت مركز إشعاع الدعوة الإباضية في بداية تشكلها وانبثاقها ، وكان لها الدور في تصديرها لنشر أفكارها في عُمان وأقطار الشمال المغربي . لهذا حضرت عُمان في هذه الدراسة بعمق وكثافة وكان لها النصيب الأوفر في عدد مباحثها لأنها كما يقول الباحث ، ص 9 «غدتْ مسرحاً لنشاط الدُّعاة الإباضيين بعد حضرموت واليمن، وكان لها من العُمق والتأثير في تاريخ عُمان السياسي».

ويمكن القول إن هذه الدراسة أنصفت تاريخ عمان الإسلامي وقدّمته مبكراً عبر خطابٍ أكاديمي مدللاً بالوثائق والبراهين التي صاغها الباحث مستخدما منهجا استقصائيا جمع فيه حصيلة قراءاته للمدونة البحثية العربية والاستشراقية حول هذا الموضوع الحيوي، وقدم نتائجه في نهايته نتائج نحسبها مهمة منها:-

1- أن الدعوة الإباضية في نشأتها اتسمت بالنضج السياسي عبر جهاز تنظيمي قاده الدُّعاة التابعون المؤسسون أمثال الإمام جابر بن زيد، وقد ساعدت البصرة باعتبارها مركزاً حضاريًّا عامراً في بلورة ميلاد هذه الدعوة وترعرعها في القرن الأول الهجري ، وبذلك تكون أقدم المذاهب الإسلامية قاطبة.

2- أن الحركة الإباضية وما اتسمت به من حراك تتسم بالاعتدال، وهي بذلك تخالف عقيدة ومنهجا وسلوكا الفرق المتطرفة من الخوارج «كالأزارقة«» و«النجدات»، وغيرها ، كما لم يصدر منها خطاب التكفير المؤدي إلى الفتن وبذلك تكون كما يقول الكاتب « أن هذه الميزة هي أحد مبررات بقاء الإباضية كمذهب إسلامي يمثل استمرار العقائد المحكمة الأولى حتى تاريخنا المعاصر».

3- أن الدعوة الإباضية اتخذت منعطفاً جديداً في عهد أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة؛ إذ تحوَّلت من مرحلة التخفي والكتمان إلى مرحلة الظهور ، وقد اتسمت بالدقة والعمق السياسي والتنظيمي والعلمي بعد أن ران عليها التخفي ستين عاماً استطاعت فيها الخروج من سطوة السلطتين الأموية والعباسية في البصرة بجهود قام بها أبو عبيدة من حيث إعداده لحملة العلم، وعلى ذلك نشأة الإمامة الإباضية في اليمن وعمان والدولة «الرستمية» في مدينة «تاهرت» .

4- أن الدعوة الإباضية وجدت في عُمان مناخاً خصباً لانبثاقها وتكونها، وكانت أولى الأقاليم الإسلامية استعدادا للانفصال عن الخلافة العباسية، ولعل لجهود علمائها أمثال الإمام جابر بن زيد والربيع بن حبيب بن عمرو الفراهيدي وغيرهما دوراً في تكوين هذا المناخ لإقامة إمامة إباضية حاكمة فيها ، وقد نجم عنها في القرن الثاني الهجري قيام « ثاني محاولة سياسية للدعوة الإباضية بقيادة الجلندى بن مسعود غير أن العباسيين استطاعوا القضاء عليها في أول الأمر بسبب ضعف إمكانياتها الاقتصادية والبشرية، ثم ما لبثوا أن قويت شوكتهم فقاموا بطرد العباسيين من عُمان وأعلنوا الإمامة الإباضية سنة 177 / 793 م، وكان لجهود حملة العلم دور الذين درسوا في البصرة وخاصة طلبة أبي عبيدة من مثل موسى بن أبي جابر الأزكوي الذي تعدّه الدراسة ص 317 «من أبرز الشخصيات التي أسهمت في إعلان الإمامة الإباضية الثانية» .

5- أن الدعوة الإباضية قامت في مرحلة الإعلان على أكتاف مؤسسة علمية شارك فيها العلماء الأوائل وحملة العلم فهم سندها وعضدها وركنها السياسي والعلمي الأول ، وتستحضر الدراسة أسماء محورية كان لها باع طويل في حراك الإمامة الإباضية الثانية وتذكر جهود الإمام عبدالله بن محمد بن أبي عفان « الذي حكم عُمان أكثر من عامين استطاع فيها أن يخمد الفتن وقوى المعارضة الداخلية التي حدَّت من ازدهار الإمامة في هذه الفترة، كما تذكر جهود الأئمة اللاحقين له شأن الوارث بن كعب الخروصي الذي يعتبر عصره ص317 «من أزهى عصور الإمامة الإباضية الثانية من حيث الاستقرار الداخلي والقضاء على العباسيين»، كما تذكر أدوار الإمام غسان بن عبدالله الذي استطاع أن يقضي على المعارضة القديمة المتمثلة في بني هناءة وآل الجلندى وبناء أسطول بحري طهر المياه العُمانية من القراصنة الذين كانوا ينهبون ويأخذون كل سفينة غصبا.

6- كما تستحضر الدراسة في نتائجها دور الإمام المهنا بن جيفر اليحمدي « الذي تعتبر الدراسة ص 318 «إمامته امتداداً لفترة الأئمة السابقين له منهجاً وطريقة ونعمت فيه عُمان بالاستقرار السياسي نتيجة الازدهار الاقتصادي والحكومة المركزية» التي اعتمد عليها .

7- وتتبعُ الدراسة ذكر الأئمة الذين توالوا في حكم عمان في مرحلة ظهور الدعوة الإباضية ، فتذكر أسماء الصلت بن مالك سنة 237/ 851 م الذي شهدت نهاية حكمه ضعفا دب في جسد الإمامة الإباضية الثانية في عمان ؛ نتيجة توسعها الجغرافي واشتمالها على مناطق بعيدة شأن جزيرة سقطرى، وعلى إثرها استشرت القبائل وأخذت في بعث القلاقل والانقسامات على محوريين هما القبائل «المضرية» و«اليمانية» وآذنت لظهور محنة جديدة اشتعل أوارها وازداد وهجها في عهد الإمام راشد بن النظر اليحمدي، وانتقل الثقل السياسي كما يقول الكاتب ص 318 « من أئمة الدعوة إلى رؤساء القبائل ولم يعد للإمامة القدسية والأثر السياسي بقدر ما كان لشيوخ القبائل ورشدائها إلى أن أدَّت تلك الظروف إلى سقوط الإمامة الإباضية ورجوع حضيرتها ثانية إلى الدولة العباسية سنة 280/ 893 م».

إن هذا الكتاب جمُّ الفائدة في حقله وفي زمنه، وله قيمة تاريخية مبكرة، وقد استقرأ فيه كاتبه الدكتور مهدي طالب التاريخ العُماني الإسلامي حتى نهاية القرن الثالث الهجري في خطوة تميزت بالسبق التأليفي، وبذلك يعتبر مصدراً أصيلا ما انفكت سائر الدراسات الاعتماد عليه ونقشه بماء الذهب في قوائم مصادرها.