خالد بن علي المعمري
(1)
عندما أطلق غسان كنفاني في كتاباته مصطلح المقاومة على شعراء فلسطين، كان يدرك أهمية الأدب في مقاومة المحتل، وأنّ فعل المقاومة بالقلم والكلمة والكتابة له أثره أمام الرصاص والعنف والاستيطان. لقد ناقش كنفاني مبكرًا أدبيات المقاومة، وأثرها على القضية الفلسطينية وانعكاسها على الأدب العربي. وإلى رحيله ترك لنا دراسات متعلقة بهذا المضمون أهمها: (أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، 1966)، و(في الأدب الصهيوني، 1976)، و(الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال، 1968)، و(المقاومة ومعضلاتها، 1970)، و(ثورة 36-39 في فلسطين 1972). وفي تناوله لنصوص أدب المقاومة فإنه يعرف شعرها على سبيل المثال بأنه «الرفض، والثورة، واطّراح رواسب العفن الماضي، والطموح إلى عالم أفضل». (مجلة مواقف، عدد9، ص141) وهنا تنبني الكتابة الأدبية وفقا للمشروع الذي تقوم عليه المقاومة، ومعها سنجد كنفاني يناقش ويحلل هذا المفهوم، وإثراء الساحة بعدد من النصوص في كتاباته اللاحقة التي سنعرض في مقالنا هذا بعضًا منها.
(2)
نشرت مجلة الآداب في عددها السابع، الصادر في يوليو 1966 مقالًا لغسان كنفاني بعنوان: (أدب المقاومة في فلسطين المحتلة)، شدّد فيه على مصطلح المقاومة الأدبية في مواجهة الاحتلال، إيمانًا بأهمية الكلمة، وقوتها في مواجهة الغاصب المحتل، وارتباط الكلمة بالأرض. لقد عرض كنفاني نماذج مختلفة من الشعر المقاوم للاحتلال، فتناول الشعر الشعبي وحضوره في القرى والأعراس والمآتم والمناسبات، وقوته في إيصال الكلمة والتعبير بها في وجه السلاح ذلك الوقت. كما أطلق هذا المصطلح في تبنيه للشعر الفصيح لا سيما عند محمود درويش ورفاقه، الذي كما يرى أنهم بلغوا شأوا في التخلص من قيود الأغراض التي كانت عليها القصيدة الغزلية في فلسطين والتي ربما أُريدَ لشعرائها أن يكتبوها في تلك الفترة لشَغْلهم عن قضيتهم الأولى.
لقد كان محمود درويش وسميح القاسم وعدد من الشعراء الشعبيين حاضرين في كتابات كنفاني واستطاع تحليل نصوصهم وربطها بالمقاومة والمنفى والسجن ومقارعة المحتل. يقول مثلا عن تجربة محمود درويش: «وسنرى في شعر الدرويش، الذي قاله في أواسط الستينات، ذلك المزج العميق، الهادئ، المتدفق بين المرأة والوطن ليجعل منهما معًا قضية الحب الواحدة التي لا تنفصم. إنّ ظواهر من هذا النوع قد شهدها -في وقت لاحق- أدب المنفى، إلا أنّ أدب المقاومة في الأرض المحتلة صاغها ببساطة أعمق وأكثر قوة على الإقناع، وأكثر قربًا من المرأة والوطن معًا». (مجلة الآداب، عدد7، ص65)
وإضافة إلى كون شعر المقاومة يعمل على تقديم صورة مجابهة للقمع الذي تقوم به السياسات اليهودية، ومقاومة مستمرة مع المحتل، وارتباط الشعر نفسه بالأرض، والهوية، والثقافة، فإن كنفاني في إطار تتبعه لشعر المقاومة في فلسطين يُسجّلُ ملاحظتين اثنتين عنه: «أولا: الشعر في الأرض المحتلة، عكس شعر المنفى، ليس بكاءً ولا نواحًا ولا يأسًا ولكنه إشراق ثوري دائم وأمل يستثير الإعجاب. ثانيا: يتأثر الشعر العربي في الأرض المحتلة بسرعة مذهلة وبتكيف كامل مع الأحداث السياسية العربية ويعتبرها إكمالا لموضوعه وجزءًا من مهماته». (مجلة الآداب، عدد7، ص66) لذا فإنّ ارتباط الشعر بالقضية يأتي عميقا ومحمّلا بدلالات الهوية والمكان والصراع مع الآخر، وعليه فإنه بحسب ما يراه كنفاني أنّ «أدب المقاومة العربي في فلسطين المحتلة علامة بارزة وطليعية ومتقدمة في تراث آداب المقاومة العالمية». (مجلة مواقف، عدد9، ص141)
(3)
ويناقش غسان كنفاني في موضوع آخر بعنوان (الشخصية اليهودية في الرواية الصهيونية)، نشرته مجلة الآداب في عددها الثالث، الصادر في مارس 1963م، حضور شخصية البطل اليهودي في الرواية الصهيونية محملة بصفات تتميز «بالتفوق الفكري والخلقي والبدني» لهذا البطل، والذي يأتي تماشيًا مع هدف رئيس مبرّرُهُ إقامة دولة يهودية في فلسطين، ولكن كنفاني يرى أنّ هذا المبرّرَ «ناقص»، ويطرح سؤاله: «إذا كان التفوق اليهودي هو مبرّر البطل الروائي الصهيوني في إنشاء دولة يستحقها وتستحقه فما هي مبرراته «لاقتلاع» شعب آخر في سبيل السيطرة على مكانه؟».
هنا يناقش كنفاني موضوع المقاومة من زاوية أدبية، حين يعرض روايات استلهمت صورة البطل اليهودي، وكأنه يعرّض إلى أهمية الجانب الأدبي في رسم صورة مهمة في أدب إسرائيل أو في أدب فلسطين المحتلة، ولعل هذا ما رسم صُوَرَهُ بكل وضوح في رواياته التي سنعرض لبعضها في مقالنا. يناقش كنفاني رسم صورة اليهودي الذي يحمل صفاتٍ خارقة، وبطولات وهمية، صنعها الرواة عند نسجهم الأحداث، بل إنه في موضع آخر يرى أن هذه الصورة المخترعة لليهودي البطل ستضعه أمام «دور حضاري» ينبغي أن يقوم به رغم معارضة الشعب المعني، إنه ينقلب من غازٍ إلى مُصلحٍ، ومن شقيٍّ إلى أب فاضل...». (مجلة الآداب، عدد6، ص78) انظر كيف تتبدّل المواقف والشخصيات وفق الصناعة الكتابية في ضوء الأدب المخترع!! إنه عالم أدبي «مزدحم من الأبطال الخرافيين والبطولات التي لا تصدق» على حد تعبيره، والذي في كل مبرراته تلك يهدف إلى إقامة دولة على أرض فلسطين المحتلة، وهو ما يجب مقاومته بالكتابة، ووعي الثقافة المضادة.
(4)
يتحدث غسان كنفاني عن روايته (رجال في الشمس: 1963) قائلا: «في رجال في الشمس دعوتُ بصوتٍ شديدِ العلوِّ إلى المقاومة والعنف». (مجلة مواقف، عدد9، ص142)، إنها رواية تقوم على المقاومة التي تهدف إلى الصراع الطويل مع الآخر المحتل، ومن خلالها يحاول كنفاني في كتابته الروائية أن يصنع من المقاومة بُعدًا مختلفًا عن المقاومة المباشرة مع المحتل، إنه يصنع من القضية الرئيسة قضية أخرى قائمة على التهجير والنزوح بحثا عن الرزق، لذا تطرح الرواية قضية أربع شخصيات مختلفة في طبائعها وسماتها الداخلية، تجري خلف هدف واحد وهو الوصول إلى بلاد أخرى للحصول على فرصة للحياة، ومعها يقوم الراوي بعرض نفسيات كل شخصية، ومأزقها الحي، وصراعها الداخلي، وقضيتها الأولى التي تسبب بها الكيان الغاصب لأرضها. وينتقل الصراع، وتمضي الأحداث من أرض فلسطين عبر الأردن والعراق إلى الكويت شاهدة على الصحراء القاحلة، والشمس الحارقة التي يلفظ تحتها شباب واعدون أنفاسهم. إنّ الجحيم الذي يتخيّله كنفاني في هذه الصحراء، ليس أقل من الجحيم الذي يعيشه الإنسان في أرضه حين يعيش مقاوما لمحتل اغتصب أرضه، ومن هنا تنطلق رؤيته في الرواية. وعليه فإن تهريب ثلاثة أشخاص داخل خزان ماء لشاحنة في صحراء قاحلة وتحت شمس ملتهبة، هو مجازفة تجعل القارئ يعود إلى الرواية في بدايتها، لماذا يرحل هؤلاء وهم يعلمون أنّ الطريق محفوفة بالمخاطر؟
ما أراده كنفاني هنا أن لقظ المقاومة ليس محصورًا في مواجهة الآخر والصراع معه وجها لوجه، فعمل على نقل الصورة إبداعيًا، وهو نوع من المقاومة، والصراع مع الآخر أيضًا، لذا فإنه بعد وفاة الثلاثة اختناقاً داخل الخزان، وقرار دفنهم من قبل الشخص الرابع، يُلحّ في نهاية الرواية على إبراز نقطة مهمة:
«لماذا لم تدقّوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟ لماذا وفجأة بدأت الصحراء كلها تردد الصدى: لماذا لم تدقّوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟».
إنّ هذا السؤال ذاته ينطوي على ممارسة ذهنية تعيد القارئ إلى التأمل: هل رغب الرجال الثلاثة في الموت؟ ولم يسعوا إلى أي محاولة للنجاة؟ أم أنها صورة اخترعها الروائي في سبيل إيقاظ الذات بضرورة مواجهة الآخر، ومقاومته بفعل ما حدث ويحدث للنازحين عن أوطانهم؟
(5)
في (عائد إلى حيفا: 1969)، يُقدّم غسان كنفاني المقاومة فكرًا وإبداعًا، إذ تقوم الرواية بالنبش في الماضي والصراع مع الآخر، وغربته المكانية إلا أن الزمن يتقدم بصورة سريعة إلى المستقبل، والصراع مع الآخر ترتفع حدته، ويصبح الآخر تاريخًا وقرابةً وصراعًا ويتحول إلى أيديولوجيا وقضية. أراد غسان كنفاني من العودة إلى حيفا البحث عن فتيل الأحداث وإشعال جذوته، ثم إن استعماله لفظ (عائد) بصيغة التنكير دليل على عدم التركيز على شخصه بقدر التركيز على الحدث الرئيس، والفعل، والمكان. إن الشخصية التي يقوم الفعل عليها والصراع معها، زمنيا كانت تأخذ اهتمام الراوي، فارتباطها بسعيد وصفية ارتباطًا أسريًا قبل زمن طويل، وحتى قبل وقت قريب من اللقاء، لكن الشخصية تأخذ منحى آخر مع هذا الارتباط، ويأخذ اللقاء طابعا أيديولوجيا، وصراعًا مستمرًا بين مستويين مختلفين من الوعي والثقافة ونمط العيش والحياة، هنا يبرز فعل المقاومة الأدبي من خلال الحوار الذي دار بين (سعيد) و(خلدون أو دوف) والذي معه يسترجع سعيد حوارًا آخر بينه وبين ابنه خالد الذي يفكر في الالتحاق بالمقاومة لمواجهة المحتل، وهو ما رفضه سعيد وهدد ابنه بالتبرؤ منه إن فعل ذلك، لكنْ جملتا سعيد آخر الرواية: «تستطيعان البقاء مؤقتا في بيتنا، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب»، و«أرجو أن يكون خالد قد ذهب.. في غيابنا»، هما جملتان مندستان في الأحداث، جاءتا على لسان سعيد لتعيد احتمالات الصراع مع المحتل، والمقاومة ضد الآخر، كما جسّدتْها الكتابة الأدبية متمثلة أحداثا ونابعة من فكر الشخصيات، وهوية المكان الذي تقطنه. لقد توقفت الرواية عند الجملتين، لكنّ تأثيرهما سيتشكل في الوعي الإنساني الباعث على فعل المقاومة، والدافع إلى فعل الكتابة، وهو الذي ظل ينشده غسان كنفاني طيلة سنوات نضاله القصيرة، وترك خلفها أكثر من ثلاثة وعشرين عملًا أدبيًا مختلفًا.
(1)
عندما أطلق غسان كنفاني في كتاباته مصطلح المقاومة على شعراء فلسطين، كان يدرك أهمية الأدب في مقاومة المحتل، وأنّ فعل المقاومة بالقلم والكلمة والكتابة له أثره أمام الرصاص والعنف والاستيطان. لقد ناقش كنفاني مبكرًا أدبيات المقاومة، وأثرها على القضية الفلسطينية وانعكاسها على الأدب العربي. وإلى رحيله ترك لنا دراسات متعلقة بهذا المضمون أهمها: (أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، 1966)، و(في الأدب الصهيوني، 1976)، و(الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال، 1968)، و(المقاومة ومعضلاتها، 1970)، و(ثورة 36-39 في فلسطين 1972). وفي تناوله لنصوص أدب المقاومة فإنه يعرف شعرها على سبيل المثال بأنه «الرفض، والثورة، واطّراح رواسب العفن الماضي، والطموح إلى عالم أفضل». (مجلة مواقف، عدد9، ص141) وهنا تنبني الكتابة الأدبية وفقا للمشروع الذي تقوم عليه المقاومة، ومعها سنجد كنفاني يناقش ويحلل هذا المفهوم، وإثراء الساحة بعدد من النصوص في كتاباته اللاحقة التي سنعرض في مقالنا هذا بعضًا منها.
(2)
نشرت مجلة الآداب في عددها السابع، الصادر في يوليو 1966 مقالًا لغسان كنفاني بعنوان: (أدب المقاومة في فلسطين المحتلة)، شدّد فيه على مصطلح المقاومة الأدبية في مواجهة الاحتلال، إيمانًا بأهمية الكلمة، وقوتها في مواجهة الغاصب المحتل، وارتباط الكلمة بالأرض. لقد عرض كنفاني نماذج مختلفة من الشعر المقاوم للاحتلال، فتناول الشعر الشعبي وحضوره في القرى والأعراس والمآتم والمناسبات، وقوته في إيصال الكلمة والتعبير بها في وجه السلاح ذلك الوقت. كما أطلق هذا المصطلح في تبنيه للشعر الفصيح لا سيما عند محمود درويش ورفاقه، الذي كما يرى أنهم بلغوا شأوا في التخلص من قيود الأغراض التي كانت عليها القصيدة الغزلية في فلسطين والتي ربما أُريدَ لشعرائها أن يكتبوها في تلك الفترة لشَغْلهم عن قضيتهم الأولى.
لقد كان محمود درويش وسميح القاسم وعدد من الشعراء الشعبيين حاضرين في كتابات كنفاني واستطاع تحليل نصوصهم وربطها بالمقاومة والمنفى والسجن ومقارعة المحتل. يقول مثلا عن تجربة محمود درويش: «وسنرى في شعر الدرويش، الذي قاله في أواسط الستينات، ذلك المزج العميق، الهادئ، المتدفق بين المرأة والوطن ليجعل منهما معًا قضية الحب الواحدة التي لا تنفصم. إنّ ظواهر من هذا النوع قد شهدها -في وقت لاحق- أدب المنفى، إلا أنّ أدب المقاومة في الأرض المحتلة صاغها ببساطة أعمق وأكثر قوة على الإقناع، وأكثر قربًا من المرأة والوطن معًا». (مجلة الآداب، عدد7، ص65)
وإضافة إلى كون شعر المقاومة يعمل على تقديم صورة مجابهة للقمع الذي تقوم به السياسات اليهودية، ومقاومة مستمرة مع المحتل، وارتباط الشعر نفسه بالأرض، والهوية، والثقافة، فإن كنفاني في إطار تتبعه لشعر المقاومة في فلسطين يُسجّلُ ملاحظتين اثنتين عنه: «أولا: الشعر في الأرض المحتلة، عكس شعر المنفى، ليس بكاءً ولا نواحًا ولا يأسًا ولكنه إشراق ثوري دائم وأمل يستثير الإعجاب. ثانيا: يتأثر الشعر العربي في الأرض المحتلة بسرعة مذهلة وبتكيف كامل مع الأحداث السياسية العربية ويعتبرها إكمالا لموضوعه وجزءًا من مهماته». (مجلة الآداب، عدد7، ص66) لذا فإنّ ارتباط الشعر بالقضية يأتي عميقا ومحمّلا بدلالات الهوية والمكان والصراع مع الآخر، وعليه فإنه بحسب ما يراه كنفاني أنّ «أدب المقاومة العربي في فلسطين المحتلة علامة بارزة وطليعية ومتقدمة في تراث آداب المقاومة العالمية». (مجلة مواقف، عدد9، ص141)
(3)
ويناقش غسان كنفاني في موضوع آخر بعنوان (الشخصية اليهودية في الرواية الصهيونية)، نشرته مجلة الآداب في عددها الثالث، الصادر في مارس 1963م، حضور شخصية البطل اليهودي في الرواية الصهيونية محملة بصفات تتميز «بالتفوق الفكري والخلقي والبدني» لهذا البطل، والذي يأتي تماشيًا مع هدف رئيس مبرّرُهُ إقامة دولة يهودية في فلسطين، ولكن كنفاني يرى أنّ هذا المبرّرَ «ناقص»، ويطرح سؤاله: «إذا كان التفوق اليهودي هو مبرّر البطل الروائي الصهيوني في إنشاء دولة يستحقها وتستحقه فما هي مبرراته «لاقتلاع» شعب آخر في سبيل السيطرة على مكانه؟».
هنا يناقش كنفاني موضوع المقاومة من زاوية أدبية، حين يعرض روايات استلهمت صورة البطل اليهودي، وكأنه يعرّض إلى أهمية الجانب الأدبي في رسم صورة مهمة في أدب إسرائيل أو في أدب فلسطين المحتلة، ولعل هذا ما رسم صُوَرَهُ بكل وضوح في رواياته التي سنعرض لبعضها في مقالنا. يناقش كنفاني رسم صورة اليهودي الذي يحمل صفاتٍ خارقة، وبطولات وهمية، صنعها الرواة عند نسجهم الأحداث، بل إنه في موضع آخر يرى أن هذه الصورة المخترعة لليهودي البطل ستضعه أمام «دور حضاري» ينبغي أن يقوم به رغم معارضة الشعب المعني، إنه ينقلب من غازٍ إلى مُصلحٍ، ومن شقيٍّ إلى أب فاضل...». (مجلة الآداب، عدد6، ص78) انظر كيف تتبدّل المواقف والشخصيات وفق الصناعة الكتابية في ضوء الأدب المخترع!! إنه عالم أدبي «مزدحم من الأبطال الخرافيين والبطولات التي لا تصدق» على حد تعبيره، والذي في كل مبرراته تلك يهدف إلى إقامة دولة على أرض فلسطين المحتلة، وهو ما يجب مقاومته بالكتابة، ووعي الثقافة المضادة.
(4)
يتحدث غسان كنفاني عن روايته (رجال في الشمس: 1963) قائلا: «في رجال في الشمس دعوتُ بصوتٍ شديدِ العلوِّ إلى المقاومة والعنف». (مجلة مواقف، عدد9، ص142)، إنها رواية تقوم على المقاومة التي تهدف إلى الصراع الطويل مع الآخر المحتل، ومن خلالها يحاول كنفاني في كتابته الروائية أن يصنع من المقاومة بُعدًا مختلفًا عن المقاومة المباشرة مع المحتل، إنه يصنع من القضية الرئيسة قضية أخرى قائمة على التهجير والنزوح بحثا عن الرزق، لذا تطرح الرواية قضية أربع شخصيات مختلفة في طبائعها وسماتها الداخلية، تجري خلف هدف واحد وهو الوصول إلى بلاد أخرى للحصول على فرصة للحياة، ومعها يقوم الراوي بعرض نفسيات كل شخصية، ومأزقها الحي، وصراعها الداخلي، وقضيتها الأولى التي تسبب بها الكيان الغاصب لأرضها. وينتقل الصراع، وتمضي الأحداث من أرض فلسطين عبر الأردن والعراق إلى الكويت شاهدة على الصحراء القاحلة، والشمس الحارقة التي يلفظ تحتها شباب واعدون أنفاسهم. إنّ الجحيم الذي يتخيّله كنفاني في هذه الصحراء، ليس أقل من الجحيم الذي يعيشه الإنسان في أرضه حين يعيش مقاوما لمحتل اغتصب أرضه، ومن هنا تنطلق رؤيته في الرواية. وعليه فإن تهريب ثلاثة أشخاص داخل خزان ماء لشاحنة في صحراء قاحلة وتحت شمس ملتهبة، هو مجازفة تجعل القارئ يعود إلى الرواية في بدايتها، لماذا يرحل هؤلاء وهم يعلمون أنّ الطريق محفوفة بالمخاطر؟
ما أراده كنفاني هنا أن لقظ المقاومة ليس محصورًا في مواجهة الآخر والصراع معه وجها لوجه، فعمل على نقل الصورة إبداعيًا، وهو نوع من المقاومة، والصراع مع الآخر أيضًا، لذا فإنه بعد وفاة الثلاثة اختناقاً داخل الخزان، وقرار دفنهم من قبل الشخص الرابع، يُلحّ في نهاية الرواية على إبراز نقطة مهمة:
«لماذا لم تدقّوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟ لماذا وفجأة بدأت الصحراء كلها تردد الصدى: لماذا لم تدقّوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟».
إنّ هذا السؤال ذاته ينطوي على ممارسة ذهنية تعيد القارئ إلى التأمل: هل رغب الرجال الثلاثة في الموت؟ ولم يسعوا إلى أي محاولة للنجاة؟ أم أنها صورة اخترعها الروائي في سبيل إيقاظ الذات بضرورة مواجهة الآخر، ومقاومته بفعل ما حدث ويحدث للنازحين عن أوطانهم؟
(5)
في (عائد إلى حيفا: 1969)، يُقدّم غسان كنفاني المقاومة فكرًا وإبداعًا، إذ تقوم الرواية بالنبش في الماضي والصراع مع الآخر، وغربته المكانية إلا أن الزمن يتقدم بصورة سريعة إلى المستقبل، والصراع مع الآخر ترتفع حدته، ويصبح الآخر تاريخًا وقرابةً وصراعًا ويتحول إلى أيديولوجيا وقضية. أراد غسان كنفاني من العودة إلى حيفا البحث عن فتيل الأحداث وإشعال جذوته، ثم إن استعماله لفظ (عائد) بصيغة التنكير دليل على عدم التركيز على شخصه بقدر التركيز على الحدث الرئيس، والفعل، والمكان. إن الشخصية التي يقوم الفعل عليها والصراع معها، زمنيا كانت تأخذ اهتمام الراوي، فارتباطها بسعيد وصفية ارتباطًا أسريًا قبل زمن طويل، وحتى قبل وقت قريب من اللقاء، لكن الشخصية تأخذ منحى آخر مع هذا الارتباط، ويأخذ اللقاء طابعا أيديولوجيا، وصراعًا مستمرًا بين مستويين مختلفين من الوعي والثقافة ونمط العيش والحياة، هنا يبرز فعل المقاومة الأدبي من خلال الحوار الذي دار بين (سعيد) و(خلدون أو دوف) والذي معه يسترجع سعيد حوارًا آخر بينه وبين ابنه خالد الذي يفكر في الالتحاق بالمقاومة لمواجهة المحتل، وهو ما رفضه سعيد وهدد ابنه بالتبرؤ منه إن فعل ذلك، لكنْ جملتا سعيد آخر الرواية: «تستطيعان البقاء مؤقتا في بيتنا، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب»، و«أرجو أن يكون خالد قد ذهب.. في غيابنا»، هما جملتان مندستان في الأحداث، جاءتا على لسان سعيد لتعيد احتمالات الصراع مع المحتل، والمقاومة ضد الآخر، كما جسّدتْها الكتابة الأدبية متمثلة أحداثا ونابعة من فكر الشخصيات، وهوية المكان الذي تقطنه. لقد توقفت الرواية عند الجملتين، لكنّ تأثيرهما سيتشكل في الوعي الإنساني الباعث على فعل المقاومة، والدافع إلى فعل الكتابة، وهو الذي ظل ينشده غسان كنفاني طيلة سنوات نضاله القصيرة، وترك خلفها أكثر من ثلاثة وعشرين عملًا أدبيًا مختلفًا.