د. عبدالعاطي محمد -
نجح مؤتمر باريس لمساعدة السودان (منتصف مايو 2021) في وضعه على أبواب مرحلة جديدة من تاريخه المعاصر تبشر بالتعافي الاقتصادي والاستقرار السياسي، وذلك من خلال ما وضح جليا من ترحيب المجتمع الدولي بالسودان الجديد، وبالتعهدات التي قطعها على نفسه بمساعدته على التخلص من ديونه الثقيلة، والاستعداد للاستثمار في عديد القطاعات الهادفة إلى بناء اقتصاد وطني ينهض بمستوى المعيشة للشعب السوداني الشقيق، ويضمن تحقيق ديمقراطية مستدامة على طريق الإصلاح السياسي.
ومع أن ما جرى في مؤتمر باريس وما صدر عنه من نتائج إيجابية يدخل في سياق ما اعتدنا على تسميته تأكيد المؤكد، وهو أن الاقتصاد والسياسة متكاملان وبتعاونهما معًا تنجح الشعوب في تخطي المحن وتتقدم إلى الأمام، إلا أن هذه العلاقة الوثيقة، ولأسباب عديدة لم تعد تحتاج إلى شرح لأنها معلومة للكاف، تغيب أحيانا عن بعض التجارب في منطقتنا العربية، فيدفع المسؤولون عن غيابها أو تغييبها ثمنا باهظا هو التدهور الاقتصادي وعدم الاستقرار السياسي. ولذلك كلما تصدرت الأحداث مؤشرات على تجربة ناجحة أكد القائمون عليها أنهم كانوا على وعي تام بجدوى هذه الحقيقة، أي التكامل بين ما يتطلبه الاقتصاد وما تتطلبه السياسة، وحرصوا على تفعيل هذا التكامل بالأفعال لا فقط بالأقوال، كلما أصبح من المهم للرأي العام العربي إلقاء الضوء على هذه التجربة لما فيها من استفادة للجميع. وفي هذا الإطار ذهب السودان الجديد (بعد سقوط النظام القديم في أبريل 2019) إلى مؤتمر باريس بوضعيه من شقين كل منهما لا يتحقق إلا بتوافر الآخر، فهو أحدث تجارب التغيير التي عرفتها المنطقة منذ 2011 ويعيش كفاحًا شعبيًا لإحداث انتقال ديمقراطي وفقًا للشعارات التي رفعها المحتجون في ديسمبر 2018 وحتى سقوط النظام القديم، ولكنه في الوقت نفسه يمر بضائقة اقتصادية قاسية استمرت لما يقرب من 30 عامًا، والإقدام بقوة على تصحيح الوضع الاقتصادي المتدهور يعنى ببساطة المزيد من الضغوط على الشعب، مما يحمل مجددا مظاهر للغضب والاحتجاج الجماهيري ومن ثم تهديد تجربة التغير السياسي التي أرادها المحتجون في البداية.
والمعروف أن الاحتجاجات اندلعت بسبب غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار وتدهور الأوضاع الاقتصادية. ولكن الهدف الوطني العام هو النجاح في المسارين معًا وفي الوقت نفسه، وتلك معادلة صعبة بكل تأكيد، إلا أنها أمر حتمي أو لا مفر منه، بمعنى أنه لا ضمان لنجاح التحول الديمقراطي إلا بتحقيق انفراجة مؤثرة في الضائقة الاقتصادية حتى لو اقتضت إصلاحات قاسية، ولا ضمان لنجاح الإصلاحات الاقتصادية إلا بتوفير البيئة السياسية الملائمة.
وفي معظم التجارب الناجحة غالبا ما تأتي الخطوة الأولى لتحقيق التغيير المنشود من جانب السياسة ثم يترتب عليها تحقيق الانتعاش الاقتصادي. وفي الحالة الخاصة بالسودان الجديد جاءت الخطوة الأولى من جانب السياسة وفقًا للاتفاق الذي تم بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير، ولكنها لم تكن كافية لإنقاذ الوضع الاقتصادي لأن الضائقة فاقت كل الطاقات بالنظر للتركة الثقيلة من الديون الخارجية والعزلة الدولية السياسية التي تسبب فيها النظام القديم وجعلت الكثيرين يحجمون عن الاستثمار في السودان على مدى 30 عاما تقريبا. ولذلك كان من الضروري قبل الذهاب إلى مؤتمر باريس تحقيق 3 مهمات هي التخلص من العزلة الدولية، وإسقاط الديون أو معالجتها، والتقدم بخطة مقنعة للمجتمع الدولي تتعلق بالمشروعات وعوامل الجذب والتشريعات المشجعة للاستثمار.
وانطلقت ضربة البداية من واشنطن، عندما قررت الإدارة الأمريكية أواخر عهد ترامب رفع السودان الجديد من قائمة الدول الراعية للإرهاب وفق تشريع في الكونجرس تحت مسمى الحصانة السيادية من الملاحقة القضائية، وارتبطت هذه الخطوة بتسوية بين الجانبين فيما يتعلق بسداد السودان تسويات مالية لضحايا تفجيرات السفينة كول وسفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام. وقد شجعت الخطوة الأمريكية غيرها من الدول الغربية على الانفتاح على الحكم الجديد في السودان وفتح صفحات للتعاون معه وإن ظلت محدودة.
وفي هذا السياق كان من المفهوم جيدًا لماذا انفتح السودان الجديد على إسرائيل وقرر إقامة علاقات دبلوماسية معها. ولم يجد المسؤولون الجدد حرجا في الإفصاح عن ذلك كواحدة من الخطوات الهادفة إلى كسر العزلة الدولية، وبالأصح للخروج تبعا لذلك من الضائقة الاقتصادية الصعبة.
وأما الضربتان الثانية والثالثة فقد وقع كل منهما في مؤتمر باريس، أو بالأحرى مؤتمر الأعضاء فيما يسمى منذ عام 1956 بنادي باريس، وهو هيئة دولية غير رسمية معنية أساسا بتسوية ديون الدول المدينة لإنقاذها من الإفلاس أو للتوسط لتخفيف هذه الديون وجدولتها أو الإعفاء منها وفق شروط بالطبع. وهناك كان أمام السودان ضرورة معالجة ديونه التي تصل إلى نحو 60 مليار دولار سواء بالإعفاء من بعضها أو جدولة البعض الآخر. وقد نجح المؤتمر في إعفاء السودان من 30 مليار دولار أكثر من نصفها تخص دول نادي باريس والباقي من جهات دولية أخرى.
وتوقع عبدالله حمدوك رئيس الوزراء السوداني في تصريحات بعد عودته إلى الخرطوم أن تتخلص بلاده من ديون خارجية تقدر بنحو 45 مليار دولار في يونيو 2021. وخلال المؤتمر ألغت فرنسا ديونها لدى السودان وتقدر بنحو 5 مليارات دولار والنرويج 4.5 مليار دولار، وأبدت المملكة العربية السعودية استعدادها لمعالجة ديون لها تقدر بنحو 5 مليارات دولار. ولا شك أن إسقاط ديون بهذا الحجم من شأنه تصحيح الخلل المالي والاقتصادي في السودان مما يحدث انتعاشة مؤثرة في الحياة العامة. ولكن المهم أيضًا أنه يشجع المجتمع الدولي على التعامل مع السودان دون قلق مثلما يفعل مع كل الدول الساعية إلى النهوض الاقتصادي، كما أنه يشجع صندوق النقد الدولي على التعامل مع الحكومة الجديدة بما يساعدها على تلقي منح وقروض تساهم أيضا في تصحيح الخلل المالي للبلاد (هناك فوائد ومتأخرات لعدة دول وجهات مالية دولية تقدر بنحو 13 مليار دولار). وفيما يتعلق بالضربة الثالثة الناجحة فإنها تضمنت شقين أحدهما كشف عنه حمدوك بعد عودته في إشارة منه إلى الخطوات الاستباقية التي اتخذتها حكومته قبل الذهاب إلى باريس وكان من نتائجها الموافقة على إلغاء نسبة مهمة من الديون كما تم التوضيح، وقد أجملها في وضع برنامج وطني للإصلاح الاقتصادي بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وتنفيذ البرنامج ومعالجة ديون البنك الدولي وبنك التنمية الإفريقي، واستراتيجية لمكافحة الفقر، ومعالجة ديون صندوق النقد الدولي.
ومن جهة أخرى (الشق الثاني) ذهب السودان بقائمة من المشروعات لجذب الاستثمار الأجنبي فيها تتعلق بالبنية التحتية والموانئ والمواصلات والاتصالات والطرق والطاقة والتعدين والزراعة والثروة الحيوانية. وإلى جانب كل ما سبق أفاد المؤتمر السودان سياسيًا إلى حد كبير من حيث كونه شهادة اعتراف وتقدير من المجتمع الدولي بالوضع الجديد في السودان، ودعم من جانبه لعملية الانتقال الديمقراطي بما يحقق ما وصفه حمدوك نفسه الديمقراطية المستدامة. وقد كان لافتا مشاركة عدد من شباب ثورة ديسمبر وإلقائهم كلمات عززت ثقة المجتمع الدولي في التجربة السودانية في إحداث التغيير السلمي، وقد عكس المشهد من الحضور السوداني وحدة القوى الوطنية السودانية، وهو أمر قلما تحقق في تجارب أخرى في المنطقة. ولا شك أن هذه النتائج تؤكد ما سبق البدء به وهو حتمية التكامل بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي لا أن يعمل كل منهما في اتجاه يتناقض مع الآخر.
ولكن الجانب الآخر من الصورة يتعلق بتحديات مستقبلية يمكن أن تهدد هذا الإنجاز، وهو الجانب المتعلق بمدى استمرارية التلاحم بين القوى السياسية والوفاء بمتطلبات التحول الديمقراطي في موعدها وقدرة الشعب السوداني على تحمل انتظار النتائج والطموحات المعقودة على تنفيذ خطوات الإصلاح الاقتصادي والسياسي. فالمعروف أن السودان تقترب من نهاية المرحلة الانتقالية بما فيها من تبادل السلطة بين العسكريين والمدنيين وتشكيل المجلس التشريعي ووضع الدستور الدائم الجديد، ووضع نهاية لصور الحروب الأهلية. وبحكم تعقد الأوضاع في السودان لا يجب الإفراط في التفاؤل بقدر ما يجب التحذير من الخلافات بين القوى الوطنية. وقد كان حمدوك صريحا أكثر من غيره، عندما أعرب عن بعض القلق مستقبلا إذا ما تفاقمت هذه الخلافات، هذا برغم كل ما ظهر من إيجابيات من مؤتمر باريس. فقد رهن نجاح نتائج المؤتمر بما سيقدمه السودانيون أنفسهم، وقال: «يجب ألا نصدر مشاكلنا الداخلية إلى الخارج، وعلينا إيجاد المناخ الذي يمكننا الاستفادة من الدعم العالمي».
وأوضح في هذا السياق أن استكمال مؤسسات الانتقال وعلى رأسها قيام المجلس التشريعي، كلها مهام تنتظر التنفيذ في أقرب وقت ممكن.
ومن جهة أخرى فإن مسألة إسقاط أو جدولة الديون تحتاج إلى وقت ولن تتم بين ليلة وضحاها، فضلًا عن أن المتبقي من الديون ليس يسيرا حتى يتم التعامل مع الموقف بالاستسهال للمهمة. وهناك دول من خارج نادي باريس لها حساباتها المختلفة فيما يتعلق بتسوية ديونها، بما يعني في النهاية أن الأزمة تم تحريكها إلى الحل ولكن لم يتم حلها بالكامل. والتقدم في الحلول مرهون بقدرة الشعب وأهل الحكم على تحمل التبعات الصعبة على طريق التخلص من التركة الثقيلة والالتزام بمتطلبات التحول الديمقراطي.
نجح مؤتمر باريس لمساعدة السودان (منتصف مايو 2021) في وضعه على أبواب مرحلة جديدة من تاريخه المعاصر تبشر بالتعافي الاقتصادي والاستقرار السياسي، وذلك من خلال ما وضح جليا من ترحيب المجتمع الدولي بالسودان الجديد، وبالتعهدات التي قطعها على نفسه بمساعدته على التخلص من ديونه الثقيلة، والاستعداد للاستثمار في عديد القطاعات الهادفة إلى بناء اقتصاد وطني ينهض بمستوى المعيشة للشعب السوداني الشقيق، ويضمن تحقيق ديمقراطية مستدامة على طريق الإصلاح السياسي.
ومع أن ما جرى في مؤتمر باريس وما صدر عنه من نتائج إيجابية يدخل في سياق ما اعتدنا على تسميته تأكيد المؤكد، وهو أن الاقتصاد والسياسة متكاملان وبتعاونهما معًا تنجح الشعوب في تخطي المحن وتتقدم إلى الأمام، إلا أن هذه العلاقة الوثيقة، ولأسباب عديدة لم تعد تحتاج إلى شرح لأنها معلومة للكاف، تغيب أحيانا عن بعض التجارب في منطقتنا العربية، فيدفع المسؤولون عن غيابها أو تغييبها ثمنا باهظا هو التدهور الاقتصادي وعدم الاستقرار السياسي. ولذلك كلما تصدرت الأحداث مؤشرات على تجربة ناجحة أكد القائمون عليها أنهم كانوا على وعي تام بجدوى هذه الحقيقة، أي التكامل بين ما يتطلبه الاقتصاد وما تتطلبه السياسة، وحرصوا على تفعيل هذا التكامل بالأفعال لا فقط بالأقوال، كلما أصبح من المهم للرأي العام العربي إلقاء الضوء على هذه التجربة لما فيها من استفادة للجميع. وفي هذا الإطار ذهب السودان الجديد (بعد سقوط النظام القديم في أبريل 2019) إلى مؤتمر باريس بوضعيه من شقين كل منهما لا يتحقق إلا بتوافر الآخر، فهو أحدث تجارب التغيير التي عرفتها المنطقة منذ 2011 ويعيش كفاحًا شعبيًا لإحداث انتقال ديمقراطي وفقًا للشعارات التي رفعها المحتجون في ديسمبر 2018 وحتى سقوط النظام القديم، ولكنه في الوقت نفسه يمر بضائقة اقتصادية قاسية استمرت لما يقرب من 30 عامًا، والإقدام بقوة على تصحيح الوضع الاقتصادي المتدهور يعنى ببساطة المزيد من الضغوط على الشعب، مما يحمل مجددا مظاهر للغضب والاحتجاج الجماهيري ومن ثم تهديد تجربة التغير السياسي التي أرادها المحتجون في البداية.
والمعروف أن الاحتجاجات اندلعت بسبب غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار وتدهور الأوضاع الاقتصادية. ولكن الهدف الوطني العام هو النجاح في المسارين معًا وفي الوقت نفسه، وتلك معادلة صعبة بكل تأكيد، إلا أنها أمر حتمي أو لا مفر منه، بمعنى أنه لا ضمان لنجاح التحول الديمقراطي إلا بتحقيق انفراجة مؤثرة في الضائقة الاقتصادية حتى لو اقتضت إصلاحات قاسية، ولا ضمان لنجاح الإصلاحات الاقتصادية إلا بتوفير البيئة السياسية الملائمة.
وفي معظم التجارب الناجحة غالبا ما تأتي الخطوة الأولى لتحقيق التغيير المنشود من جانب السياسة ثم يترتب عليها تحقيق الانتعاش الاقتصادي. وفي الحالة الخاصة بالسودان الجديد جاءت الخطوة الأولى من جانب السياسة وفقًا للاتفاق الذي تم بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير، ولكنها لم تكن كافية لإنقاذ الوضع الاقتصادي لأن الضائقة فاقت كل الطاقات بالنظر للتركة الثقيلة من الديون الخارجية والعزلة الدولية السياسية التي تسبب فيها النظام القديم وجعلت الكثيرين يحجمون عن الاستثمار في السودان على مدى 30 عاما تقريبا. ولذلك كان من الضروري قبل الذهاب إلى مؤتمر باريس تحقيق 3 مهمات هي التخلص من العزلة الدولية، وإسقاط الديون أو معالجتها، والتقدم بخطة مقنعة للمجتمع الدولي تتعلق بالمشروعات وعوامل الجذب والتشريعات المشجعة للاستثمار.
وانطلقت ضربة البداية من واشنطن، عندما قررت الإدارة الأمريكية أواخر عهد ترامب رفع السودان الجديد من قائمة الدول الراعية للإرهاب وفق تشريع في الكونجرس تحت مسمى الحصانة السيادية من الملاحقة القضائية، وارتبطت هذه الخطوة بتسوية بين الجانبين فيما يتعلق بسداد السودان تسويات مالية لضحايا تفجيرات السفينة كول وسفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام. وقد شجعت الخطوة الأمريكية غيرها من الدول الغربية على الانفتاح على الحكم الجديد في السودان وفتح صفحات للتعاون معه وإن ظلت محدودة.
وفي هذا السياق كان من المفهوم جيدًا لماذا انفتح السودان الجديد على إسرائيل وقرر إقامة علاقات دبلوماسية معها. ولم يجد المسؤولون الجدد حرجا في الإفصاح عن ذلك كواحدة من الخطوات الهادفة إلى كسر العزلة الدولية، وبالأصح للخروج تبعا لذلك من الضائقة الاقتصادية الصعبة.
وأما الضربتان الثانية والثالثة فقد وقع كل منهما في مؤتمر باريس، أو بالأحرى مؤتمر الأعضاء فيما يسمى منذ عام 1956 بنادي باريس، وهو هيئة دولية غير رسمية معنية أساسا بتسوية ديون الدول المدينة لإنقاذها من الإفلاس أو للتوسط لتخفيف هذه الديون وجدولتها أو الإعفاء منها وفق شروط بالطبع. وهناك كان أمام السودان ضرورة معالجة ديونه التي تصل إلى نحو 60 مليار دولار سواء بالإعفاء من بعضها أو جدولة البعض الآخر. وقد نجح المؤتمر في إعفاء السودان من 30 مليار دولار أكثر من نصفها تخص دول نادي باريس والباقي من جهات دولية أخرى.
وتوقع عبدالله حمدوك رئيس الوزراء السوداني في تصريحات بعد عودته إلى الخرطوم أن تتخلص بلاده من ديون خارجية تقدر بنحو 45 مليار دولار في يونيو 2021. وخلال المؤتمر ألغت فرنسا ديونها لدى السودان وتقدر بنحو 5 مليارات دولار والنرويج 4.5 مليار دولار، وأبدت المملكة العربية السعودية استعدادها لمعالجة ديون لها تقدر بنحو 5 مليارات دولار. ولا شك أن إسقاط ديون بهذا الحجم من شأنه تصحيح الخلل المالي والاقتصادي في السودان مما يحدث انتعاشة مؤثرة في الحياة العامة. ولكن المهم أيضًا أنه يشجع المجتمع الدولي على التعامل مع السودان دون قلق مثلما يفعل مع كل الدول الساعية إلى النهوض الاقتصادي، كما أنه يشجع صندوق النقد الدولي على التعامل مع الحكومة الجديدة بما يساعدها على تلقي منح وقروض تساهم أيضا في تصحيح الخلل المالي للبلاد (هناك فوائد ومتأخرات لعدة دول وجهات مالية دولية تقدر بنحو 13 مليار دولار). وفيما يتعلق بالضربة الثالثة الناجحة فإنها تضمنت شقين أحدهما كشف عنه حمدوك بعد عودته في إشارة منه إلى الخطوات الاستباقية التي اتخذتها حكومته قبل الذهاب إلى باريس وكان من نتائجها الموافقة على إلغاء نسبة مهمة من الديون كما تم التوضيح، وقد أجملها في وضع برنامج وطني للإصلاح الاقتصادي بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وتنفيذ البرنامج ومعالجة ديون البنك الدولي وبنك التنمية الإفريقي، واستراتيجية لمكافحة الفقر، ومعالجة ديون صندوق النقد الدولي.
ومن جهة أخرى (الشق الثاني) ذهب السودان بقائمة من المشروعات لجذب الاستثمار الأجنبي فيها تتعلق بالبنية التحتية والموانئ والمواصلات والاتصالات والطرق والطاقة والتعدين والزراعة والثروة الحيوانية. وإلى جانب كل ما سبق أفاد المؤتمر السودان سياسيًا إلى حد كبير من حيث كونه شهادة اعتراف وتقدير من المجتمع الدولي بالوضع الجديد في السودان، ودعم من جانبه لعملية الانتقال الديمقراطي بما يحقق ما وصفه حمدوك نفسه الديمقراطية المستدامة. وقد كان لافتا مشاركة عدد من شباب ثورة ديسمبر وإلقائهم كلمات عززت ثقة المجتمع الدولي في التجربة السودانية في إحداث التغيير السلمي، وقد عكس المشهد من الحضور السوداني وحدة القوى الوطنية السودانية، وهو أمر قلما تحقق في تجارب أخرى في المنطقة. ولا شك أن هذه النتائج تؤكد ما سبق البدء به وهو حتمية التكامل بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي لا أن يعمل كل منهما في اتجاه يتناقض مع الآخر.
ولكن الجانب الآخر من الصورة يتعلق بتحديات مستقبلية يمكن أن تهدد هذا الإنجاز، وهو الجانب المتعلق بمدى استمرارية التلاحم بين القوى السياسية والوفاء بمتطلبات التحول الديمقراطي في موعدها وقدرة الشعب السوداني على تحمل انتظار النتائج والطموحات المعقودة على تنفيذ خطوات الإصلاح الاقتصادي والسياسي. فالمعروف أن السودان تقترب من نهاية المرحلة الانتقالية بما فيها من تبادل السلطة بين العسكريين والمدنيين وتشكيل المجلس التشريعي ووضع الدستور الدائم الجديد، ووضع نهاية لصور الحروب الأهلية. وبحكم تعقد الأوضاع في السودان لا يجب الإفراط في التفاؤل بقدر ما يجب التحذير من الخلافات بين القوى الوطنية. وقد كان حمدوك صريحا أكثر من غيره، عندما أعرب عن بعض القلق مستقبلا إذا ما تفاقمت هذه الخلافات، هذا برغم كل ما ظهر من إيجابيات من مؤتمر باريس. فقد رهن نجاح نتائج المؤتمر بما سيقدمه السودانيون أنفسهم، وقال: «يجب ألا نصدر مشاكلنا الداخلية إلى الخارج، وعلينا إيجاد المناخ الذي يمكننا الاستفادة من الدعم العالمي».
وأوضح في هذا السياق أن استكمال مؤسسات الانتقال وعلى رأسها قيام المجلس التشريعي، كلها مهام تنتظر التنفيذ في أقرب وقت ممكن.
ومن جهة أخرى فإن مسألة إسقاط أو جدولة الديون تحتاج إلى وقت ولن تتم بين ليلة وضحاها، فضلًا عن أن المتبقي من الديون ليس يسيرا حتى يتم التعامل مع الموقف بالاستسهال للمهمة. وهناك دول من خارج نادي باريس لها حساباتها المختلفة فيما يتعلق بتسوية ديونها، بما يعني في النهاية أن الأزمة تم تحريكها إلى الحل ولكن لم يتم حلها بالكامل. والتقدم في الحلول مرهون بقدرة الشعب وأهل الحكم على تحمل التبعات الصعبة على طريق التخلص من التركة الثقيلة والالتزام بمتطلبات التحول الديمقراطي.