من يقرأ كتاب «الفوائد في معرفة علم البحر والقواعد» لعالم البحار شهاب الدين أحمد بن ماجد. وهو أشهر كتب شيخ البحار. يقف أمام كتاب (أو حاوية) قدم فيها العلم بطريقة ومنهج أدبي تدلل على علو كعب ابن ماجد ليس فقط في علم البحار، حيث كان سيد البحر الهندي فيه، إنما سيندهش القارئ كذلك من إلمامه الكبير بالأدب العربي القديم وفي مختلف صنوفه. وهو كتاب توجد نسخة محفوظة منه في مكتبة الكونجرس بالولايات المتحدة الأمريكية ونسخة أخرى في فرنسا. ولا نعرف إن كان حقق عربيا أم لا. حيث ما توصلت به هو نسخة بخط اليد. كتبت على الغلاف «تأليف إمام الموحدين وواحد الزمان من لم يسبق إلى مثله ما صنفه إنسان. شهاب الدنيا والدين أحمد بن ماجد سقى الله مضجعه بوابل الرحمة» يتضمن اثنتي عشرة فائدة. كان من أهمها هو معرفة القبلة، إذ يقول: «إن أتقنت هذا العلم لمعرفة القبلة، كان خير لك».

يبدأ بمقدمة نثرية وافيه عن علم البحار أول من بنى سفينة وهو النبي نوح، متبوع بأراجيز شعرية تتوالى على طول مساحة المخطوط.

وهو في كل ذلك يتبع منهجًا تتابعيًا، يبدأ بالحديث عن فضل العلم، على سبيل المثال من العبارات التي كتبها ،عبارة سبق أن قرأتها منسوبة للإمام الشافعي وهي «العلم فحل، لم يعطك بعضه حتى تعطيه كلك» تدلل على سعة ذاكرة المؤلف وهو يعرفنا بتفاصيل ما توصل فيه من اكتشافات بحرية أطلق عليها الفوائد.

العنوان كعتبة يفسر لنا كذلك البعد النفعي لهذا الكتاب. اعتمد في شرحه (العلمي) على طريقتين: التجربة والأدب. فبحسبه «ما من علم قبيح إلا والجهل به أقبح» كما جاء في معرض سرده. ويقول في عبارة أخرى تنم عن المعرفة المقرونة بالتجربة «علم نفيس لا يتم إلا بتمام العمر».

وتقديم العلم الدقيق بطريقة أدبية صرفة، يعتبر بادرة انتهجها ابن ماجد، فهو في كل حديث علمي لا يني أن يرفده بحادثة تاريخية أو بيت شعري قديم وإذا تعذر ذلك فإنه يقوم بتأليف بيت أو أبيات من عنده، كما نرى مثلا حين يتحدث عن المغناطيس، حيث نراه فجأة يورد لنا هذا البيت الغزلي، مسبوقا بعبارة «ومما قاله شهاب الدين أحمد بن ماجد في المغناطيس»: «ديارك مغناطيس رجلاي إن مشيت- وشخصك مغناطيس قلبي وخاطري». وفي حديثه عن نجم الثريا، فبعد أن يوسع (علميًا) الشرح فيه، نراه يذكر قصة من التراث العربي القديم، عن الشاعر الأموي الغزلي المعروف عمر بن أبي ربيعة، إذ يقول: «عندما تزوج سهيل بثريا القرشية نظم ابن أبي ربيعة شعرًا قال فيه: أيها المنكح الثريا سهيلا، عمرك الله كيف يلتقيان. هي شامية إذا ما استقلت، وسهيل إذا ما استقل يماني. وقد كان ابن أبي ربيعة يهواها ويراسلها من مكة».

وغير هذه الأمثلة يقف القارئ أمام الموسوعية الأدبية لشيخ البحار، حيث ترد أبيات للعديد من الشعراء كأبي نواس، ومقولات أدبية للأصمعي وغيرها كثير. ثم ينتقل إلى الأراجيز التي نرى فيها حديثًا جغرافيًا موسعًا. وهو حين قدم مادته العلمية على طريقة أبيات أدبية، كان يقصد أن يثبت لنا رسالة مهمة، نستفيد منها عبر العصور، وهو أن العلم من المهم أن يقدم بطريقة أدبية (نرى ذلك في عصرنا الحديث بعض الروايات العالمية) وذلك كي يخفف من جفاف المادة العلمية. كما أن العلم لا ينفصم عن الأدب عنده، فرغم أن مادته في علم البحار، لو قدمت بدون هذه الطريقة المليحة لاكتست كساءً جافًا منفرًا. ويؤكد ذلك لاحقًا، حتى حين اختار الأراجيز الشعرية قالبًا لتقديم مادته العلمية، التي جاءت في إهاب شعري مقفى وموزون ،اشتملت بدورها على أخبار ومقولات. ومما استوقفني في أراجيزه حديثه عن شاطئ يقع بين سقطرى وظفار يطلق عليه بخليج البربر، وقد سمى هذه الأرجوزة «أرجوزة خليج البربر الذي قمت بتعريبه» مما يدلل على أنه ساهم كذلك في تعريب مسميات كانت تحمل اسمًا آخر. وخليج البربر هو الخليج الذي أطلق عليه لاحقًا بخليج عدن. كما نلحظ في الكتاب إتقان ابن ماجد لمجموعة من اللغات، حيث إنه أحيانا يورد أبياتا سمعها باللغة الفارسية، ثم قام بتعريبها. أو مفردات كانت تنطق بلهجات مختلفة قام بتفصيحها.

ولا شك أن أحمد بن ماجد الذي عاش متنقلا بحكم مهنته، يمكن أن يعبر كائنًا أمميًا، فرغم أنه عماني ولد في جلفار من قبيلة السعدي، إلا أننا سنجد في سنده الاسمي اسم ابن أبي الركائب النجدي، فهو «أحمد بن ماجد بن محمد بن عمر بن فضل بن دويك بن يوسف السعدي بن أبي الركائب النجدي» وهذا ليس مهما، الأهم هو من يستطيع أكثر أن يهتم بعلمه ويحقق كتبه ويعتني بها ويثبنها منهجًا أدبيًا وعلميًا بين الأجيال. واليونسكو حتى الآن لم تثبته بين الأعلام العمانية، وهذا قصور كبير منا. فبالنسبة للعلم لا يهم كثيرًا من أين جاء صاحبه، بقدر ما يهم مدى فهمنا له. فابن خلدون لا يهم مثلا أين حل، بقدر ما يهم ذلك التمثال الذي وضعته له تونس في أكبر شارع لها، يذكر العابرين به. فابن خلدون كذلك عالم تخومي، فهو ولد في الأندلس ودرس في جامعة القرويين بفاس بالمغرب وعاش وتزوج في تونس واعتكف هناك على التأليف ثم ارتحل إلى مصر. ولكنه ظل ضمن الخريطة العربية الإسلامية، بل أن علمه تجاوزها -وتجاوز ضيقها الجغرافي- بكثير.