العوابي - خليفة بن سليمان المياحي -

عايش الوالد أحمد بن عبدالله بن يعقوب الخروصي «82 عاما» الكثير من الأحداث التي مرت بعمان خلال العقود الماضية، ورغم كبر سنه إلا أنه ما زال بصحة جيدة رغم أن بعض آثار الشيخوخة بدأت تصله كما يقول، فهو يعاني من آلام في ظهره ورجليه، كما أن نظره بدأ يضعف.

رغم ذلك ما زال حتى الآن مواظبا على أداء الصلاة في المسجد كونه قريبا من منزله ويرفع فيه الآذان.

يقول: قبل جائحة كورونا كنا نصلي جماعه مع جملة من الأهالي المجاورة منازلهم للمسجد أما الآن فأصلي منفردًا وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يزيل عنا هذا البلاء لتعود الحياة إلى سابق عهدها فيرجع المصلون إلى أداء صلواتهم في المساجد ويستأنف الناس لقاءاتهم وزياراتهم وتعود الحياة إلى طبيعيتها المعهودة.

يقول الخروصي: عاش والداي فترة من الزمن في زنجبار لطلب الرزق ثم عادا للسلطنة وعمل والدي قاضيّا وواليّا في سناو ثم استقرت إقامته في العوابي وولدت أنا في محلة «العالي» وتعلمّت القرآن الكريم على يد المعلمة خولة الهاشمية، وراية الخروصية، ثم على يد المعلم محمد بن سعيد الخزيري «وقد توفاهم الله جميعا منذ زمن» وحفظت الكثير من القرآن الكريم ولله الحمد، وبعد وفاة والدي عام 1369 هجري لم يكن لي مصدر دخل فاشتغلت في الزراعة فكنت أصعد النخيل وأقوم بأعمالها بداية من التنبيت فالتحدير والسجار، والشراطة، ثم الخراف والجداد فحصاد التمور وحفظه، كما كنت أعمل في حراثة الأرض وتنقيتها ثم الزراعة بمختلف أنواعها وكنا نزرع البر والشعير والبقوليات المختلفة، ووالدي كان يمتلك أموالا خضراء في العوابي لكنه لم يستطع أن يستقعد من الفلج لارتفاع الأسعار وعدم وجود الإمكانيات لديه «يستقعد أي يشتري كميّة من الماء من فلج العوابي تقدر بالأثر وأثر الماء يسقي ربع ساعة عاما كاملا» ولعدم وجود مصادر أخرى للري فاضطر رحمه الله إلى بيع كل أمواله.

فاضطررت لأن أعمل بأجر يومي مع مجموعة لا يقل عددهم عن ثمانية إلى عشرة أشخاص فاشتغلنا في صيانة وتنظيف ساقية فلج العوابي بأربعة ريالات في اليوم وكنا ننزل بواسطة حبل طويل وسميك إلى ساقية الفلج بعد أن يزجر بنا أربعة أشخاص من الأعلى يقفون بالقرب من فتحة الفرضة «يزجر أي يدلى بنا بالحبل» والفرضة هي الفتحة التي توصل إلى قاع الفلج وقد وجدت الفلج عميقا جدا والعمل في داخله لا يخلو من الخطورة والمغامرة فمن الممكن في أي لحظة أن ينهدم جدار الفرضة أو ينهار سقف الساقية على رؤوسنا وللأسف حدثت مثل هذه الأحداث مع أناس آخرين وحتى نؤمّن على سلامة أنفسنا نقوم بربط أجسامنا ونضع أقدامنا في العروة «العروة عبارة عن حبل دائري بحجم القدم متصل بالحبل الرئيسي» وندخل فيها أقدامنا ثم ننتصب قائمين فننزل وقوفا حتى نصل إلى الساقية مباشرة أو إلى (المشبر).

ويضيف: إن بعض الفرض تكون مباشرة إلى ساقية الفلج أما البعض منها فتنزل ثم تجد سردابا أما على يمين الفتحة أو على شمالها فنمشي فيه ثم نصل إلى الساقية الرئيسية وهذا السرداب أو «المشبر» أقيمت بغرض حماية الفلج من الاندثار عند جريان مياه الوادي وتهدم الفرض لأيّ سبب قد يحدث والقصد تفادي توقف جريان مياه الفلج ففي الماضي لم يكن الفلج فقط لري الزراعة وإنما كان هو المصدر الأساسي والوحيد للاستخدام الآدمي للشرب وللطبخ، فلم تكن هناك شبكات المياه تصل إلى المنازل كما هو الآن.

ويواصل الوالد أحمد سرد ذكرياته التي لا تخلو من الأسى والتعب فيقول: سافرت إلى المملكة العربية السعودية وإلى البحرين واشتغلت هناك في أعمال شاقة جدا مثل الحفريات والبناء بالإسمنت وغيرها بعشر روبيات في اليوم، وكان تواجد العمانيين هناك بأعداد كبيرة جدا حتى كان يجتمع في البيت الواحد من ثلاثين إلى أربعين شخصا، وكان يرشح واحد منا ليكون مسؤولا عن العزبة «العزبة ما يخص ترتيب الطعام وإحضار المواد ووضع برنامج الطبخ» فكنا نعد الطعام بأنفسنا فمن يصل من عمله مبكرا يبدأ في إعداده فلم نكن نذهب للمطاعم لأن المصاريف ستزيد علينا وما نحصل عليه من الأجر اليومي سنصرفه في الوجبات الغذائية وكانت بيننا ألفة ومحبة وقد كان للقاء العمانيين بعضهم البعض خلال السفر أثر طيب، فقد ولّدت علاقات حميمة، فبعد عودتنا إلى أرض الوطن كنا نتواصل ونتزاور من مختلف ولايات السلطنة.

ويضيف الوالد أحمد الخروصي: وخلال تواجدنا هناك علمنا عن تولي السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- ومعظم العمانيين عادوا مباشرة لاستبشارهم بالخير وتوقعهم بالتغير الإيجابي وفعلا فقد كان السلطان قابوس سببًا لراحة العمانيين، فتبدل الحال من الصعب إلى السهل ومن التعب إلى الراحة ومن الضيق إلى الفرج ومن المرض إلى الصحة.

وعندما عدت إلى السلطنة في أوائل السبعينات شاركت ضمن العمال في بناء عيادة العوابي، فكانت قيد الإنشاء وهي أول مؤسسة صحية آنذاك، وبعد اكتمال العمل فيها التحقت بالعمل بوزارة الداخلية بمكتب الوالي فتعينت بوظيفة عسكري، وبعد فترة تم تعييني عقيدًا للعسكر، فزادت مهمة عملي، فالعقيد عليه مهام كبيرة كالإشراف التام على أفراد العسكر وهو همزة الوصل بين الوالي والمواطنين، وكان أصحاب السعادة الولاة المتعاقبون على الولاية يعتمدون عليّ في الإصلاح بين الناس والنظر في الدعاوى ومعاينة المواقع، فكانت ثقتهم بي كبيرة ولله الحمد.

وخلال فترة عملي وفقني المولى جلّت قدرته في الإصلاح بين الكثير من الناس دون الوصول إلى القضاء، فكنت أقنع المتخاصمين فيتراضون تقديرا منهم لي، كما كنت أرافق الوالي والقاضي في جميع أعمالهما الميدانية، وعاصرت في العمل أربعة من الولاة على مدى سبعة عشر عاما وهم المشايخ صالح بن سعود المعولي، وخميس بن حمد اليحيائي، وسعود بن سلطان البوسعيدي، وحمد بن حمود الفارسي (عليهم رحمة الله جميعا).

ويعطرّ الوالد أحمد الخروصي حديثه في الختام عن رمضان يقول: في الماضي كان القليل من الناس من يجد الطعام، فكان يوجد وقف للصائمين وهو عبارة عن تمر يصرف عند الإفطار، فكان الجميع يجتمع في المسجد لتناوله واليوم الطعام موجود من كل صنف في وقتنا هذا، ولا نحس بأي صعوبة في صوم هذا الشهر المبارك، نصل إلى وقت الإفطار ولا نشعر بأي تعب أو جوع أو عطش ولله الحمد والمنة، عكس الماضي فقد كنا نترقب آذان المغرب لنفطر بعد أن يكون قد أخذ العطش منا مأخذه، خاصة إذا صادف ذلك حر الحرير «أي شدة الحر»، أو صادف ذلك جداد نخلة المبسلي، وهذا الموسم بالذات تشتد فيه درجه الحرارة ويكون العمل فيه شاقا جدا، والجو حار جدا، ولم تكن سبل الراحة المتوفرة اليوم معروفة في ذلك الوقت.