يدخل العالم قالبا افتراضيا لا تلمس تفاصيله بالأصابع، يكفي أن تعتقد أن ثمة مقالا لك منشورا في صحيفة تصدر، ولكن ليس كالمعتاد، والزمن زمن كسر الاعتيادات، على أوراق تمسكها صباحا بين يديك، فلا الورق بقي مخلصا لأصابعك، ولا أصابعك ستعرف فن تقليب الصفحات، حيث في ركنها الأخير تقبع زاويتك متخيلا قراء كثرا سيمرون عليها، ولو من باب معرفة أي كاتب هذا الواهم أن لديه قراء سفحا، لأجل التواصل معهم، ما سفح من حبر، وحتى هذه الجملة تبدو افتراضية، فلا حبر نسفحه الآن، بل ثمة طرقات على لوحة مفاتيح، ولا أوراق تحت أيدينا نكتب عليها، مثلما انتهى الأمر بالمقال، بدون صفحات تتعلق بها.

أشياء لا تحصى تحوم حولنا، لا توجد في الحقيقة، بل هي متاحة للنظر عبر الشاشات المضيئة، وقد تكاثرت أسماؤها، كالهاتف والحاسوب، المكتبي واللوحي، عدا مسميات أخرى ننطقها بالإنجليزية استسهالا: تاب، كندل، وكيفما يممت وجهك لن ترى إنسانا خاليا من حمل أحدها، إلا في استثناءات نادرة، خاصة لدى جيل الشباب، هذا إن لم يكن يحمل مثنى وثلاث منها.

صارت أصابعنا، وكما تقتضي ضرورات العالم الافتراضي، مدربة بمهارة على قرع الحروف في لوحة مفاتيح، أو اكتساب عادة اللمس للشاشات تقبض عليها كما لم تفعل في تاريخها مع أي منتج بشري آخر، ووصل إنسان الكهوف إلى حالة معرفية مذهلة تبدو لجدّه الأول محض خيال علمي، بينما قد نبدو لأحفادنا على درجة من التخلف لم يتخيلوا حياتنا كيف كانت تسير وسط هذا الفقر التقني المدقع، وكأنّي بهم لا يجدون فرقا بيننا وجدّنا الذي كان يسنّ حصاته لصيد ما يأكله في تلك البراري الموحشة.

ولأننا في حالة يمكن تسميتها باللهجة العمانية "بالخبصة"، فيأتي علينا عيد الفطر من جديد ونحن نرزح تحت العباءة الثقيلة للمدعو (كوفيد 19)، وقد فقدنا بين عيدين أحبة ورفاقا، وعشنا آلاما باهظة الثمن، أصابت أجسادنا ومصادر رزقنا، فتوزعنا، بيننا من ذهب إلى المقابر، والآخر إلى المستشفيات، وفريق أخذته نحو السجون، وقد ناء بأحمال ثقيلة من الديون، ومن لم يسر في هذه الدروب الثلاثة فحتما به من المواجع ما يكفي وهو يشاهد هذه التراجيديا المتناسلة والمتحوّرة، حتى في علاقتنا ببكائياتها، لكن هكذا هي طريق البشرية، مخضبة دوما بالآلام، وما العيد إلا مساحة تالية لإيجاد فرح افتراضي، فكيف تزهر الضحكة حينما يكون القلب غارقا في الخوف؟!

العيد هو أن تضع قبلتك على جبين أمك، لكنك أصبحت تخاف، وتحتضن أباك، لكنك تخاف، وتتبادل القبلات مع إخوتك وأصدقائك، فتصعد الضحكة من القلب.. لكن وراء كمامة تغطي ملامح وجهك تبقى متمترسا يغلبك الخوف من وجود فيروس خفي يحيل الضحكة إلى رعب حقيقي، وقد يجعل من أيام العيد مفتتحا لقوائم من المصابين يعلم الله وحده أي طريق سيذهب بهم.

على قدر ما من التفاؤل أحلم أن يكون العيد القادم / الأضحى أقل صعوبة، وأن "فطر" السنة المقبلة به من التعويض ما يجعلنا نحلّق بفرح حقيقي، وليس بهذا الافتراضي الذي يجعلنا نقنع أنفسنا بأنه علينا أن نفرح، ولو من خلف "كمامة".