إعداد الدكتور محسن الكندي -ترددتُ كثيراً في الكتابة عن الأستاذ رياض الريّس ( 1937- 2020) يوم وفاته، فقد تزاحمت الأقلام على التأبين والرثاء والبكاء بحرقة على اسم فقدته الثقافة العربية التي ظل فيها اسماً كبيراً متحققاً وصحفيًّا بارعاً يرفدها بالمؤلفات والكتب المتوالية والتحقيقات المستمرة التي تُبهر القارئ تشدّه لفهم الوقائع والأحداث الساخنة .. كانت مناسبة وفاته بالكورونا الفتّاكة في 27 سبتمبر 2020م حدثاً فارقاً في تاريخ الثقافة العربية المنبعث من قُطْرٍ حيوي يعلمُ المثقفين قيمته التاريخية والحضارية بل ويكاد يجمعون على أهمية ما كتب فيه على مدى الخمسين سنة الماضية، أو قل من غير مبالغة على مدى العصر الحديث الذي يوصف بأنه عصر التحولات والمتغيرات والطوارئ والأحداث بل والنكبات الفارقة
نُشِرت في تأبين الريّس مئات المقالات والأعمدة والأخبار رأيت وقتها أن قلمي المتواضع قد لا يرقى إلى مزاحمتها يوم رحيله، فأرجأت الكتابة ،وتركتُ ما كتبت لهذا اليوم الذي استطيع فيه ملامسة جهوده الصحفية الخاصة بوطني عُمان منذ أن وطأت قدمه أرضها في اليوم الثالث من نهضتها، هذا الوطن الذي أحبّه الريّس ، فاحتفى به وبمن يَقْدِمُ إليه منه إنتاجاً معرفياً أو تصديراً لثقافة، ففتح دار نشره المعروفة في بيروت لجلّ الكتابات العُمانية الروائية والشعرية والتاريخية ونشرها باحتفائيات مثيرة تميزت على الدوام – بحرفية الإصدار ،وبسرعة الانتشار وبالحضور الكارزمي في معارض الكتب ومنصات الثقافة ناهيك عن جودة الإخراج والتصميم وبما يتناسب مع طبيعة دار نشره التاريخية التي كانت محطَّ كبار الكتاب العرب ومهوى أفئدتهم خاصة في سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين.

ُيعَدُّ هذا الصَّحفيُّ السُّوري أصلا البيروتي مُقاماً، العربي انتماءً وهوية - من أوائل الصحفيين العرب الذين اضطلعوا بالكتابة عن عُمان تاريخاً وشعباً ومكونات حضارية وأحداث مفصلية، كيف لا؟! وهو من أوائل الصحفيين الذين حلُّوا بأرضها في أغسطس من عام 1970م،وتشرَّفوا بعقد ثاني حوار صحفي مع باني نهضتها المغفور له الجلالة السلطان قابوس بن سعيد لصالح صحيفة " النهار" اللبنانية ( كما أطلعنا عليه الصديق عاصم الشيدي) .

كما أنه من أوائل المستشارين الإعلاميين الذين أسهموا بخبراتهم في مسار المؤسسة الإعلامية العُمانية الجديدة وهي في بداية خطواتها، وقد تجلَّت جهوده في مجال الكتابة عن عُمان في كتب مستقلة ومقالات عديدة امتلأت بها الثقافة العربية وبالذات اللبنانية والسورية واللندنية إبان عمله في صحيفة "الديلي نيوز البريطانية، وكان لها صدىً كبير في ثقافة المرحلة المتوهجة في فترة السبعينيات من القرن العشرين؛ غير أن أهم ما كتبه واضطلع به بالإضافة إلى تلك المقالات ثلاثة كتب تضاف إلى بقية كتبه الخمسين المتمثلة في رياحه المعروفة: برياح السموم، والشمال، والجنوب، والشرق" و" آخر الخوارج " وصراع الواحات " و"صحافة النسيان "و"صحافي المسافات الطويلة " و" الخليج وهموم النفط " وكلُّها كتبٌ لا تخلو من إشارات خفية أو جهرية لعُمان البلد الحضاري الاستراتيجي المُساهم في صناعة التاريخ والسياسة وصياغة الفكر والمعرفة.

لم يكن هذا الصَّحفي الشهير الأستاذ رياض نجيب الريّس إلا صوتاً صحفيًّا عربيًّا محترفاً متفرداً في قلمه، متميزاً في أطروحاته ،متقدماً في أفكاره، يحاول بكلّ جدارة أن يرصد الأحداث ويحلل الوقائع ويقاربها بتوازٍ منهجي دقيق أحياناً، وبلغة سلسة طيّعة تذوبُ في وجدان القارئ وقلبه وتدورُ في لسانه ليخطَّ قلمه كتابات وأبحاثاً عُمانية حيّة مقروءة شملت التاريخ السياسي الممتد من عُمان الوطن الأم إلى زنجبار المهجر التاريخي المفقود"، فكان قلمه فيها مليئاً بالتقاطات ومشاهد مثيرة حسّاسة قد لا تتوفر كثيراً في الكتابات السياسية الأخرى المنجزة شأن ما قدّمه في مؤلفيه القيمين: "ظفار الصراع السياسي والعسكري في الخليج العربي"، و " صحافي ومدينتان رحلة إلى سمرقند وزنجبار ".، وقد كان هذا المؤلفان نواة لما كُتب فيما بعد من مؤلفات تتصلُ بثورة ظفار التي تبنتها دار نشره المسمّاة باسمه ،وصدرت منها من أمثال: " ظفار شهادة زمن الثورة " لفواز طربيشي 2004، و" ظفار الثورة في التاريخ العُماني المعاصر " للباحث العُماني محمد سعيد دريبي العمري2000، وكذلك كتبٌ أخرى صدرت في دور لبناية موازية لداره من مثل : "مدرس ظفار " لخالد البسَّام، و" كنت في ظفار: مشاهدات في أرض الثورة " لسعيد أحمد الجناحي، وكتاب " ظفار ثورة الرياح الموسمية " للباحث العراقي عبدالرزاق التكريتي، الذي أثار جدلا حول مرجعيات الثورة وتكويناتها وفعلها العسكري ومدى قبول حضورها الاجتماعي في تلك الفترة المبكرة من تاريخ التحرر العُماني المعاصر.

عرفتُ – شخصيًّا - الأستاذَ رياض الريّس- الذي عَرِفَ عُمان وأحبّها - في صيفٍ قايض من عام 1998م عندما قادتني الأقدار إلى داره الذائعة الصيت الواقعة في الطابق الرابع من بناية "الأونيون" بمنطقة الصنائع بقلب بيروت، فنشرتُ فيها بمبادرة كريمة قدّمها لي الأخ الكبير السَّخي المثقف الشيخ سيف بن هاشل المسكري ليكون بعدها تواصلاً ثقافيًّا نجمَ عنه طباعة أربعة من كتبي في داره الشهيرة كان أحدها الفائز بجائزة السلطان قابوس للثقافة والآداب في أولى دوراتها عام 2013م.

كان الأستاذ رياض الريّس في ذلك التواصل معي أبويًّا مرشداً حميمياُ يضفي عليَّ بنصائح تنمُّ عن روحٍ شفافةٍ محببةٍ نقيةٍ.. كيف لا وهو الصحفي المخضرم الناجح البارع صاحب الخبرة والدراية الصحفية الذي يقرأ الكتب قبل طباعتها ويوجّه بما يحلو له توجيهه بدقة علمية والتفاتات مثيرة وحسٍ صحفيٍّ حرفي مميز، وقد اكتسب زخمه من تجربته المتراكمة وزمالته لنظرائه الصحفيين والشعراء اللبنانيين والعرب الكبار من مثل: غسان تويني، وغسان كنفاني، وأحمد بهاء الدين، والشاعر الكبير يوسف الخال، ونبيل خوري، وإبراهيم سلامة، وحنا غصن، وعصام فريحه، وكامل مروة، وسعيد فريحة ،وغيرهم من أساطين الصحافة اللبنانية (كما جاء في سيرته المنصوصة في ملف نعيه المذاع من قناة الجزيرة).

كان الأستاذُ رياضُ الريّس في كلِّ لقاءاتي به بمكتب دار نشره ، وأحياناً خارجها متألقاً في تلك الفترة تألق المفكرين الكبار الذين يحلو لهم تناول ثقافة الآفاق ،أو قل ثقافة الأطراف بحميمية مفعمة بالاكتشاف غير المسبوق والتفرد بعد أن هَضَمَت حقها المراكز، فكانت عُمان إحدى أولى أولوياته الثقافية، وأذكر كم كان فرحاً مسروراً حين جئت إليه أول مرة سنة 1998 بكتابي الصحافة العُمانية المهاجرة ، ثم جاءه بعدها خبر فوزي بجائزة السلطان قابوس للثقافة عام 2013 م عن كتابي" الشيبة محمد السَّالمي " ، فتلقيت تهنئة منه لن تنسى عبر اتصال هاتفي لم يتمالك فيه إلا أن يذكِّرني بتنبوئه المُسبق بالفوز حين قرأ الكتاب قبل طباعته ، فقال لي بحدسٍ وتفاؤل مطلقين: " شارك به (أي هذا الكتاب) في الجوائز العربية وسوف تفوز" وكأنه يقرأ فوزه مسبقا ًعلى سنن قراءة المستقبل، ولعله وجد فيه ما يكمن في ذاته من انطباعات عن عُمان التاريخ والحضارة والنضال، وإن كان ضمن أيديولوجية سياسية قد لا يرتاح لها كثيراً: أعني مؤسسة الإمامة ورجالاتها.

الأستاذُ رياض الريّس المثقف العربي الطليعي الذي مارس مهنته الصحفية من بيروت إلى لندن حيث تنقل بين أكبر الصحف العربية ( الصياد -الأنوار) والعالمية ( ديلي ميرور -الصندي تايمز -ويسترن ميل) كان يرى في عُمان مثالا وأنموذجاً للثقافة البكر والحضارة الحية التي مارست فعلها بهدوء ودون ضجيج، لهذا تسلسلت كتاباته عنها في ذاته رقراقة طيّعة بلا تكلف، ولا عنفوان، ولا هيمنة، فلا يملك المتعامل معه إلا أن يستشف ذلك الامتزاج الروحي الذي يعمُّ أرجاء روحه، فتصبح كأنها جزءٌ من ذات قارئه ووجدانه ؛لهذا كنت في كلّ زيارة ألقاه فيها يجود لي بجديد كتب داره مُقدِّماً لي إياها بتوقيعه وإمضائه وفيها لوازم تعبيرية وعبارات تشجيعية ما فتئ فيها يذكرني باحتفائه المطلق بتاريخ بلدي عُمان وذاكرا اسمي باحتفاء وتمجيد ليس لذاتي فحسب ، بل لوطني الذي أحبّه فيقول " إلى محسن الكندي المثقف العُماني الذي أثار فيَّ لواعج تاريخ بلاده العظيم "، فكان تلك العبارات مُدعاة لفخري واعتزازي به وبدار نشره التي فتحت أبوابها للكتاب العُمانيين بعدي، فكانت تتوالى فيها إصدارات الشعراء والروائيين والكتاب الذين يتقدمهم الشاعر العُماني الكبير سيف الرحبي ونظرائه المثقفين الطليعيين.

خَصَّ الصحفي رياض الريّس عُمان بثلاثة كتب ذهبية الأول: " ظفار الصراع السياسي والعسكري في الخليج العربي (1970 -1976)، والثاني كتاب " عُمان الأمس وعُمان الغد حوارات وذكريات – وهو كتابٌ قرنَ اسمه فيه بالشيخ سيف بن هاشل المسكري السياسي والدبلوماسي السابق ، ولا يخرج في مضمونه عن نشاط جُمِعت فيه أفكار محرري مجلة " الفلق " الإليكترونية في محاولة اكتشاف الفارق بين عهدين مرا بعُمان الدولة والكيان عبر رؤية المسكري السياسي، والريّس الصحفي، وقد صدر هذا الكتاب سنة 2012م ... أمّا الكتاب الثالث فهو " صحافي ومدينتان " وقد تناول فيه الريّس الحضور العُماني بالشرق الإفريقي. وفيما يلي تفضيل لهذه الكتب على النحو الآتي: -

أولا : - ظفار الصراع السياسي والعسكري في الخليج العربي (1970 -1976)

وهو كتابٌ صدر في ثلاث طبعات أولها في لندن سنة 1976عبر شركة بورتيكو للنشر، أمّا الثانية فكانت في سبتمبر سنة م2000،والثالثة مزيدة منقحة 2006م ويعدُّ هذا الكتاب الذي كتب بلغة صحفية يغلبُ عليها الجانب الأدبي ،سلسة طيعة الفهم بعيدة عن التصنع، تجودُ بالكلمة والمعنى ببساطة وشفافية بعيداً عن المصطلحات السياسية المتوهجة الطنانة.

ويبدو في هذا الكتاب أنه محصلةُ تجربته الصحفية لتغطية ما كان من صراع عسكري وحرب دارت رحاها في الجنوب العُماني بين قوى الاشتراكية اللينية والسلطنة الوليدة وكان وقتها مراسلا لصالح إحدى الصف البيروتية التي كلفته بهذه المهمة، ولم يكتف بنقل الأخبار بل دلف إلى تحليل الوقائع ومقاربتها التاريخية ودراسة مؤثراتها وتأثيراتها رغم أنه كما يقول في مقدمته ص " لا يدَّعي التاريخ لظفار وثورتها وشعبها وحياتها بقدر ما يبسط الخلفيات للقارئ ويعطيه مفاتيح الدخول إليها انطلاقا من رؤية مشاهد، ناقلا من قلب الحدث ما يعتري الساحة العسكرية من معارك بين جبهات القتال المحتدم الضاري الملتهب، وهو في كل ذلك- كما يقول ص 15 :" ليس مع أحد ولا هو ضد أحد ، إنه مع موضوعية الحقائق والمعلومات التي وصلت إليه " ؛لهذا جاء الكتاب مليئاً بمفردات التاريخ ومقاربات الواقع، فتطرق في صفحاته البالغ عددها مائتين وأربعين صفحة إلى مواضيع اتخذت عناوين تشويقية ضمتها فصول تسعة من مثل: مسيرة الأقدار، والبلاد والناس والتاريخ ،والالتفات إلى فارس، والاستدارة نحو الصحراء، و حكاية الثورة والثوار، وسيف السلطان ، وعنق الزجاجة الإيرانية، وتقييم الثورة والفرس قادمون قادمون، وهذه جميعها مجرد تمهيداتٍ تتيحُ للقارئ الامتزاج مع المكتوب بلغة صحفية تشوبها شائبة بل يتجسد فيها الموقف بقدر ما يتجسد فيها الوصف الحي للمرئي والمشاهد. .. إنها لفتات مثيرة نحو قراءة حدث مثير في زمن مثير وفي بقعة مكانية مثيرة.. إنها ظفار الغائبة الحاضرة في ذهنية المثقف العربي آنذاك.

ومن أطرفِ طرائفِ هذا الكتاب أن كاتبه لا يقصره على تناول ظفار، بل يلتفت فيه إلى عُمان قاطبة، فيصف مظاهر الحياة فيها ويرصد التاريخ القديم والتراث المادي وغير المادي، ويؤرخ لمشاهد استقبال العُمانيين للتغيير الذي حلَّ ببلادهم مع طلائع النهضة الجديدة عام 1970 م ويرصد مشاهداته ويحولها إلى وثيقة شاهد عيان يقول في بعض أجزائها ص 13: " لا أذكر أنني شاهدت فرحاً في عُمري كالفرح الذي شاهدته في مسقط لدى تولي قابوس السلطنة، ورقص الناس في الشوارع رجالاً ونساءً وأطفالا ... لم أسمع زغردةً أطول وأنقى من زغردة النساء، وقد أسفرن عن وجوههن وسِرْن في الشوارع يرقُصن ويرفعن الأعلام الحُمْر. كانت الزغاريد من القلب، من حرقة الماضي.. من ظلم السنين الطويلة، ومن ظلام العفن المقيم.. كانت الأسنانُ الذهبية تلمعُ في الشمس، واللُّحَى البيض تتمايل والناس يتدافعون لرؤية الشاب الأسمر الخجول النحيل صاحب اللحية السمراء الكثة الطويلة ..".

كتابُ "ظفار الصراع السياسي العسكري" ليس تحقيقا صحفيا، ولا كتاب تغطية إخبارية همّها إيصال المعلومة وتقديمها بكثافة لقمة سائغة للقارئ المتعطش للخبر الساطع اللامع وقتها أكثر من غيره ،بل هو كتابُ أدبٍ وفكرٍ عميقين ينضوي تصنيفه التخصصي الدقيق في أدب الرواية التاريخية بطلها المؤلف نفسه، وأحداثها أحداث الصراع، وشخصياتها رموز القيادات النضالية وحبكتها تدور حول الرصد والاكتشاف وبث روح المغامرة ، وهذا ما يجعلها جديرة بأن تنصب قلباً وقالباً ضمن خواص السرد الروائي القريب أصلاً من الإبداع؛ خاصة أن الكتاب كُتب بلغة أدبية صرفة يسودها الخيال المشوق وتوفر عناصر الزمان والمكان والحدث والعقدة والحل ولو بدرجات متفاوتة خفية، فالكاتب يلتف في مقدماته إلى كل الموصفات المشاهدة والمرئية والمسموعة بدءًا من الطقس والمناخ والآثار والمكونات والطبيعة، فكانت له وقفات مع البحر والبر، والحرّ، والقرّ وقصر السلطان، وقلاع مسقط، وجبال ظفار، وكهوف "صرفيت" والعلاقات الدولية والتجارة البينية بين عُمان والعالم، والأوضاع السياسية، والتركيبة السكانية، والمذاهب الدينية وسياسة السلاطين وحكم الأئمة وأدوارهم في ممارسة الحكم، إنه قراءة أفقية للبلاد والعباد والتاريخ...قراءة تكللها موصوفات المكان ومركزيته المتموضعة في ظفار التي يقول عنها: ( ص 31)" كلُّ شيء في ظفار يختلفُ عن بقية عُمان . وكلُّ شيءٍ في ظفار له قصة تستحق أن تروى ، ولا بدَّ أن تكون البداية عند حدود معرفة المجهول . هكذا هي ظفار الأرض الحمراء أو العربية السعيدة ..كان هذا لقبها عندما كانت طريق التوابل والبخور، وعندما كان الفراعنة يأتون إليها ليحملوا منها اللبان والصمغ ليحنطوا موتاهم ..ومنا كان يحمل الكنعانيون حجارة ليبنوا معبد سليمان ، وإليها كان الأحباش ليحملوا العاج وريش الطاؤؤس إلى بلادهم، وإليها كان يأتي الهنود لينقلوا اللبان والبخور ليحرقوه في معابدهم .. من أجل ترف الغابات وعلو الجبال وخصب الساحل وامتداد البحر كان العالم القديم يزحف على ظفار، وإلى هذا المكان جاءت الثورة ".

يصفُ الرَّيس ظفار - انطلاقاً من عُمان - بنعوت أسطورية معجباً بها ملمًّا بتراثها وحضارتها ومرجعيات أهلها الاجتماعية واتجاهاتهم السياسية إبان الثورة فيعقد لذلك الوصف فصلا كاملا سمّاه " الاستدارة حول الصحراء ، والاستدارة هنا تعني الالتفاتة السياسية تبعاً لمقتضى الظرف في تلك الفترة حيث يقول ص 52" أن عُمان استطاعت في عصر السلطان قابوس أن تملأ سياسة وتسيساً فجوة الزمن الكبير، لقد أدار السلطان قابوس وجه عُمان من ناحية البحر إلى ناحية الصحراء : البحرُ الذي ظلت عُمان تتطلعُ عبره مئات السنين إلى القارة الهندية وما تحتها .. والصحراء التي ظلت عُمان تديرُ ظهرها لها من سمّاه عنوة " الغزوات الوهابية الأولى" إلى حرب البريمي؛ لهذا أشاحت عُمان بوجهها عن البحر إلى الصحراء " وارتكزت سياستها على أربع قوائم فاعلة في ذلك الزمن زمن الثورة : السعودية ، ليبيا ، الأردن ، الكويت ".

لقد فصَّل الرِّيس في كتابه هذه الركائز الأربع المرتبطة بعلاقات عُمان عربيًّا وبسطها بسطاً لا يحتاج منا إلى إعادة، وقد أعجبني محصلة قوله عنها ص 53: إن السياسة في عُمان كطبيعة البلاد نفسها تكثرُ فيها التناقضات، فمن صخور ناتئة جرداء إلى بحار متغيرة، ومن جبال شاهقة ووديان تنزلقُ المياه في أعماقها، إلى سهول تمتد كالوقت الذي لا يحمل في عُمان أي معنى... هكذا السياسة في عُمان صحراء تترامى وراءها الرمال وهي تنتظر من يقطفها إلى ما لا نهاية ". وعبر هذا القول الروائي الجامع يستعرضُ الكاتب أبعاد الصراع السياسي والعسكري مطلاً على أرجاء الثورة بسرد يومياتها وملابساتها وما دار فيها عبر استقراء ينطلق من تخوم المواقف السياسية عربياً ودوليًّا خاصة بين قوى الهيمنة المتجسدة أنداك في إيران (الشاهنشاهية)و ليبيا (القذافية) والأردن الحسينية وأكثر منها بريطانيا المضلة التاريخية ذات النفوذ الأكبر في المنطقة، وفي كل هذه المواقف يتتبعُ الكاتب بلغة أدبية خيوط الصراع عسكريًّا ليطال جذوره التاريخية منذ مراحل تكوينه الأول وتشكله منتهيا إلى استعراض وثائق الثوار التي حصل عليها بين عام 1974 و1975 وثيقة وكأنها دالة على الصراع الذي لا جدال فيه لينتهي ص 181بعبارة حية لم تمت رغم مرور قرابة نصف قرن عليها ربما حضرت في واقعنا الراهن ": إن صيحة الفرس قادمون لم تعُدْ وهماً لكلِّ الذين يعرفون الخليج ، ولم يَعُدْ وجود إيران في الجزيرة العربية واقعا فحسب ، بل أصبح تحديا يوميًّا مستمراً " .

وبعد: فالكتابُ رواية حية أو قصة تستعرضُ تفاصيل الواقع الذي دارت فيه رحى الحرب،وقراءة عميقة لأبعادها السياسية العُمانية التي أنتجت فعلاً حاسمة ومؤثراً ظلت أصداؤه تقرأ بقراءات أخرى لتؤكد مقولته عن طبيعة السياسة العُمانية أنها كطبيعة البلاد نفسها.

ثانياً : كتاب رياض الريّس " صحافي ومدينتان "

وقد بدا فيه صحفيًّا ماهرٌا وصَيَّاد أفكار ومنتقي عناوين ، وصاحب ألفاظ ومصطلحات فاخرة، وهو نتاج رحلة وثقها في مقارنة فكرية تنمُّ عن وعي وإدراك بحركة التاريخ حين فقد المسلمون قبل زنجبار مدينة سمرقند، وكأن التاريخ أعاد نفسه بفلسفة الفقدان وغياب المدن المؤثرة في التاريخ الإسلامي.

نصيبُ زنجبار العُمانية من هذا الكتاب نِصْفُه، والنصفُ في الحسَابِ غيرُ يسير، وإن كان ظل مربوطاً بنصفهِ الآخر عنواناً وعَدًّا لا غير" رحلتان "، لأن جوهر الكتابِ يقعُ في المتعارف عليه في المصطلح النقدي بأدبِ الرحلات، والكاتبُ رياض الريِّس الذي أصدر كتابه هذا في سبتمبر من عام 1997 أستهواه هذا المبحث المكاني العبق الحميم الشفاف القريب إلى الروح عبر فضاء مفتوح آسر ذكَّره بفضاءِ الأندلس الحميم، فطفق في تتبع خُطى أجداده العرب صنّاعِ الحضارة وفاتحي الآفاق، ومُمَصّري الأمصار، وأكثر من ذلك ناشري الإسلام، ومكرِّسي العدل والتسامح والسلام وأكثر منهما صنّاع الحضارة ، فهو جوَّابُ آفاق يدورُ في فلكِ المعرفة متى ما كانت، وأينما كانت، وعلى رأيه بالنسبة لزنجبار" إذا قُرِعَت الطبولُ في زنجبار رقصَتْ كلُّ إفريقيا " وما أروعه من رقص حينما كانت تحت مظلة العرب العُمانيين !.

يُغْرَمُ الأستاذ نجيب الريّس رحمه الله – وهو الصَّحفي الماهر صَيَّاد الأفكار ومنتقي العناوين - في قراءته لتاريخ زنجبار العُماني بهذا المثل الذي يحوّره بما يتناسبُ ومقام حال رحلته الصحفية، فيرصدُ أحداث منطقتين متشابهتين( زنجبار – سمرقند) اختارهما لتمثلان في الذاكرة العربية الإسلامية مثالا للفقد الحضاري ،ومنعطفاً تاريخيّا له ما بعده ،خاصة أنهما شبيهتان بالمفقود الأندلسي البالغ التأثير ،وعبرهما تنفتح المشاعر نحو الحنين العربي بل الجرح الإسلامي، فالكاتبُ بأسلوبه السلس الجميل يجمعُ بين نَفَس القصة وتقنية أدب الرحلات والتحليل السياسي والاجتماعي يقودنا بالنسبة للتاريخ العُماني إلى حضارة شرقي أفريقيا التليدة والطارفة، وليس أدقُ وصفاً لتموضعهما في زنجبار، من وصفه الدقيق لأساطيل الإمبراطورية العُمانية وسلاطينها ومجدها وقلاعها وبيوتها ودروبها الملونة باللون العربي وكذا شكل إنسانها ذي السُّحنة العربية المكتسية باللباس العربي سيفاً وخنجراً وعمامة ولحىً غانمة كريمة ،كلُّ ذلك كما يقول بحثاً عن شبه أندلس عربية انقرضت ، وإسلامٍ منسيِّ فَقَدَ عروبته".

قُدِّر لي أن أقرأ هذا الكتابَ في عام صدوره، وأن أستأنفَ قراءته الثانية في أول رحلة لي إلى زنجبار بتاريخ 13 فبراير من عام 1999، فعبر هاتين القراءتين تتكشفُ لي معالم عُمان التاريخية حين كانت سيدة المكان، وملهمة الزمان بل صانعته ، وتتضح أمام عيني رؤية حضارة رأيتها متجلية بعد أن نهمتُ قراءتها في كلِّ مدونة عمانية منشورة، أو مخطوطة، فكان هذا الكتاب بمثابة الرائي المحسوس المائل أمامي بعباراته وجمله وأسلوبه القصصي الذين ينقل فيه القارئ من فضاء التخييل إلى مآقي الحقيقة ومساربها، والفرقُ بينهما شاسعٌ كبير، فليس من سمه كمن رأى كما يقال ،وكما يحلو للكاتب أن يقول 135 في معادلة مثيرة : "هناك مدنٌ من الأفضل أن تسمعَ بها أو تقرأ عنها، بدلا من أن تراها زنجبار ليست واحدةً منها".

يَجُوبُ الريِّسُ أرجاءَ زنجبار وطرقاتها وأزقتها، فيصفها درباً درباً وطريقاً طريقاً، ومحلةً محلة، ويكادُ من فرطِ وصفه لا يضعُ شيئاً من تفاصيل المكان وجغرافيته وساكنيه إلا ويصفه، فيبدأ رحلة وصفه بمهاد وصفي يصف فيه " عائشة علي مصطفى" الصحفية الزميلة له في المهنة ودليلته السياحية ، فقد كانت في استقباله في تلك الليلة التي عمَّ فيها الظلام مطار زنجبار، لانقطاع الكهرباء، وليكون ذلك الانقطاع عنواناً أوليًّا يحملُ في طياته أبعاد الفارق الموضوعي بين ما كانت عليه، وبين ما غدت فيه بعد الحكم العُماني الذي أضاء دروبها قبل دروب وطنه .

بَدَتْ عائشة الزنجبارية تستعرضُ بلدها للكاتب الماهر- أو قُلْ للقادم الزائر من أقاصي الشرق- مُنْتَشِيَةً بالثورة، مخاطبةً سائحها الذكي حتى لا يشتطُّ في احتفائه بالتاريخ العربي، فيخيب أملها في إقناعه بثورة الزنج وحضارة الأفارقة ومنجزات ثورتهم الدموية، قائلة له ص 158: " لا تنس أنك في جزيرة قامت فيها ثورة اشتراكية ضد العنصر العربي وتراثه ... نحن في زنجبار أفريقيون زنجباريون مسلمون .. الإسلام صدفةٌ تاريخيةٌ حملها العرب إلينا. أمَّا كوننا أفارقة فهو هويتنا وقدرنا ..أسماؤنا لا تدلُّ على مذهبنا، كذلك ألوان بشرتنا .. كلُّ اسمائنا أسماءٌ عربية وإسلامية" الأسماء الحيادية لم يحملها إلينا عصرُ الانفتاح بعد ".

جابت عائشة ُ- بعد إن التحقت بها زميلتها فاطمة - بالضيف القادم ورحبت به كأنبل ما يكون الترحاب، فغدا بين نظيرتين ( فتاتين ) كلُّ واحدة منهن تريد أن تستأثر به لتقنعه بالمجد الإفريقي وتثنيه عن ما حمله تليد تاريخ الشرق العربي المترائي أمام عينيه، ورغم ذلك لم تستطيعا فالشواهد المادية عامرة بتفاصيل وبراهين ووثائق عربية تؤكد الحضور العُماني، ولا تبتعد عنه قيد أنملة، جاب أرجاء مدينة الحجر ، وتطلع إلى الفرضة الشهيرة ، أو الميناء البحري الذي لطالما وطأته أقدام العُمانيون والعرب ذهاباً وإياباً إلى بلدهم وبلدان العالم قاطبة ،وكأن المراكب الشراعية العربية الراسية في مرفئه وصلت لتوها أ بأمسها من مسقط أو هرمز أو البصرة أو شط العرب، وهي تنتظر الإقلاع غدا .كما يصفه ص 159.

وكما شاهد قصور السلاطين وبيوت أثرياء العرب وأمكنتهم ومساجدهم ومكتباتهم ورأى بأم عينيه لباسهم وعمائمهم وما تبقّى من( بشوتهم )وخناجرهم وسيوفهم ومجانيقهم بمثل ما رأى أضرحتهم ومقابرهم وهو يرقدون فيها بهدوء رقدتهم الأبدية، كانت مرآئي قصر "بيت العجائب" والشجرة المعمرة التي زرعها السلطان خليفة بن حارب، و الفرضاني الميناء الذي لطالما حط في رحاله العمانيون إلى زنجبار وفيه ترسو يخوتهم وقواربهم وسفنهم الشراعية ..إلى قصور أخرى من مثل : قصر " تشوكوني" وقصر " ماروحوبي" وقصر بيت الراس " وبيت " تيبوتيب" ومبنى " مامبو مسج " و الكاتدرائية الكاثوليكية" و "الكاتدرائية الأنجليكانية "، ومساجد ومآتم للمسلمين الإباضية والسنة والشيعة ، ومتحف السلام ، وأرشيف زنجبار، وحدائق جاميتوري، ومنزل ليفت غسون ، وهذه كلها تشكل تضاريس المكان بل لوحات تتزاحم في .

انعطفَ الكاتبُ بعد ذلك التجوال في مدينة الحجر وما حولها إلى التاريخ ليرصد مفردات أوائله وأواسطه ونهاياته مطلا على تداعيات الحدث الميلودرامي منذ التأسيس وحتى الخاتمة الميلودرامية الحزينة وقد تمثلت في النكبة التي أطاحت بالحكم العربي بتاريخ 13 يناير 1964م.

يلجُ الريّسُ كثيراً إلى مكونات التاريخ ومحطاته ، فيعتبره مفتاحاً في هذه الرحلة الاستكشافية فكأن كل شيء في زنجبار تاريخ، وهو في الحقيقة كذلك ؛ إذ لم يزد عليه الثوار الافارقة التي اغتصبوها شيئا، والريّس بدا مشدودا بالتاريخ مندهشاً به ، فكلّ ما رآه عمانيا لا يخالطه شيء ؛ لهذا تراه يتتبع مراحله بدءًا من وصول العرب العمانيين إلى أرضها في رحلاتها التجارية قبل الإسلام مرورا بإمبراطوريتهم .

يلتفتُ الريّس استنباطاً مما قرأه في مصادر التاريخ إلى ظواهر حَفِلَتْ بها زنجبار وسائر المدن الإفريقية ليقرأ تفاصيل الرق ، ويعقد له مبحث ص 244 بعنوان " فن الرقيق ، وفيه ينتصر إلى معاملة العرب للرقيق مبينا أنه تهمة الصقت بالعرب ، فهو في رأيه تاريخ سيئ السمعة ومسيء للعرب، ويرى أن معاملة العرب للرقيق اتسمت بالرحمة ، فبمجرد وصولهم إلى مواقعهم الجديدة للعمل في مزارعهم وضيعهم يعاملون معاملة الأجير بأجره " ص 246 "

كما يلجُ إلى تفاصيل المجتمع وأعراقه وعاداته وتقاليده في فرحه وترحه ، وقيمه وسلوكيات أهله ومنها الرقص الإفريقي ، والخنجر العُماني والدشداشة والعمائم واللُّحى، والتوابل، والقرنفل المصدر الاقتصادي الرئيس لزنجبار وتوابعها، فقد " أدخل إلى زنجبار في أوائل القرن التاسع عشر من قبل السلطان سعيد بن سلطان الذي شجع على زراعته ".

لم تَحِدْ نظرات الريّس في ذلك التجوال عمَّا بداخله من مشاعر سياسية مكبوتة ، فأخذ يقلب في قلبه وعقله مأساة زنجبار ومذابحها، ويقرأ مواقف القادة العرب من نكبتها ، كانت له وقفة مع الزعيم الأشهر جمال عبدالناصر وكيف خذل أهلها وتركهم دون نصرة – وهو يدّعي العروبة ويرفعها سيفا بتاراً – يفرط في أرض صنعها العرب ، وفي هذه الصدد ينقل عن محمد فائق مدير مكتب الرئيس عبد الناصر للشؤون الإفريقية الذي أوفده الرئيس عبدالناصر إلى زنجبار فوصلها بعد 72 ساعة من الثورة ، وكان كلُّ همِّه الاطمئنان على صديقه وصديق مصر علي بن محسن البرواني رئيس وزراء زنجبار، يقول ص 323 : " إن الموقف العربي لم يكن موحَّداً في حينه ولم يكن متماشيًّا مع موقف مصر من تأييد الثورة في زنجبار، فقد كانت سورية والعراق ضد تأييد الثورة على أساس أنها قامت ضد العنصر العربي بذبح الأقلية العربية، وإلغاء معالم عروبة دولة أفريقية ..لكن موقف مصر من ثورة زنجبار تحديداً ، كان موقفاً داعيًّا إلى دعم ثورات التحرر الوطني في أفريقيا، ومعاداة الاستعمار والأحلاف الغربية ".

كانت رحلة الريّس الاستكشافية طريقاً لفهم التاريخ ، وبعث هموم السياسة، ولم تخل من تَحَدٍ صارخٍ في بداياته عندما أخبره صديقه الإنجليزي بذهابه إلى زنجبار ليبحث عن تاريخ العر والإسلام فيها فقال له ص 199" نصيحتي لك أن تبحث عنهما في التاريخ لا في الواقع ، لأن الواقع مفجع وما ستراه في بعينيك مخيب للآمال" .

وأخيراً تحضرُ زنجبار العُمانية في كتاب الريّس أندلساً مفقوداً، وقد سردَ تفاصيلها بدمع العين و " وبأسلوبه الذي يجمع بين نفس القصة، وتقنية أدب الرحلات والتحليل السياسي والاجتماعي " لينتهي قوله بأنه أبحر مع أسطول السلطان سعيد بن سلطان، ليبحث عن أندلس عربية انقرضت، وإسلام مَنْسِي فقدَ عروبته " كما جاء في مختصرات غلافه.

وتكمنُ قيمة كتب الريّس هذه جميعها فيما أضفاه من أسلوب ومقاربة رغم أنه لم يضف جديداً عمَّا رضعته الأدبيات التاريخية العُمانية والعربية عن عُمان وزنجبار طبيعة وشعباً ونظام حكم، فهو لم يقدّم سوى قراءة سياسية لرحالة حملَ حقائبَه ليكتشف المكان ويشتمّ رائحته المعتقة عن قرب، ولو بدرجات متفاوتة من الأوصاف التي يغلب عليها التفاؤل والأمل بالنسبة لعُمان و التحسر والانكسار على فقدان زنجبار هذا البلد الجميل وكأن فقدانه بالنسبة إليه فقدان أندلس ثانية بل و(سمرقند) ثالثة على حد تعبيره.