الملف السياسي

آفاق فسيحة ومثمرة في مواجهة تحديات التنمية

د. صلاح أبونار - قبيل انطلاق أعمال الدورة الـ 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة أعلنت ماريا فيرناندا جارسيا الرئيس المنتخب الجديد للجمعية، أن شعار الدورة سوف يكون: فلنجعل الأمم المتحدة ذات صلة بجميع الناس: القيادة العالمية وتقاسم المسؤوليات لإقامة مجتمعات سلمية ومنصفة ومستدامة. وفي خطابها الافتتاحي حددت سبعة موضوعات ستوجه أعمالها هي : تعزيز المساواة النوعية، وتبني المعاهدة الدولية الجديدة للهجرة واللاجئين، والتشديد على العمل المبدع بشأن المستقبل، ومواصلة جهود حماية البيئة، والارتقاء بالوعي بمشاكل الأفراد ذوي الإعاقة، ومواصلة إصلاح نظام الأمم المتحدة، ودعم السلام. وهنا تظهر مفارقة. تأتي الدورة الجديدة والأمم المتحدة تواجه موقفا حرجا. فالنظام الدولي يواجه أزمة حادة، نالت من قوة واستقرار التحالف الغربي، وأطلقت حربا تجارية تهدد سلطة ونظم منظمة التجارة العالمية، وحولت القيادة الأمريكية للنظام الدولي إلى قوة خالقة للاضطرابات والأزمات داخل نفس النظام. بينما تمر الأمم المتحدة بأسوأ فترات تاريخها، إذ تجد نفسها في عداء صريح مع الإدارة الأمريكية، مصحوبا بانسحابات متوالية من منظماتها الأساسية وتخفيضات لالتزاماتها المالية تجاه المنظمة. الأمر الذي يعني أن الجمعية العامة بوصفها الهيئة العليا والأساسية للأمم المتحدة، كان من المفترض أن يتجه جهدها الأساسي في هذه المرحلة إلى مواجهة هذه الأزمة المزدوجة الطاحنة، وليس إلى مواصلة نفس مسار جداول أعمالها التقليدية. جداول لا يمكن التشكيك في عمق صلاتها بالواقع، لكنها بالتأكيد لا تعبر عن الأزمات الطاحنة التي يواجهها حاليا النظام العالمي. ماهي أسباب تلك المفارقة. لم تكن الأمم المتحدة في أي فترة من تاريخها تنظيما مؤسسيا لقيادة النظام العالمي، بل مجرد انعكاس لموازين وتحالفات وصراعات واستراتيجيات قوى تتشكل أساسا خارجها. أي انعكاس لنظام عالمي تشكل ويواصل التشكل خارجها، ويسعى إلى توظيفها عبر تحويلها إلى وعاء دولي لممارسة إرادته السياسية، وبناء درجة من التوافق العالمي حول تلك الإرادة، ومنح قرارات تلك الإرادة شرعية قانونية دولية. واعتبرت القوى الدولية المسيطرة على النظام، هذا الوعاء الدولي ضرورة لوجود واستقرار النظام الدولي. ضرورة نكتشف مصدرها في عدة عوامل. كان العالم قد مر بحربين عالميتين، واصبح ضروريا البحث عن صيغة تساهم في إبقاء الصراعات تحت السيطرة. وأسفرت مسيرة حركات التحرر الوطني عن ظهور عشرات الدول القومية، واصبح من الضروري البحث عن صيغة دولية منظمة لعلاقات مجتمع دولي آخذ في الاتساع المطرد، ويحمل في توسعه مشاكل عديدة مثل نزاعات الحدود والصراعات الأثنية. وخرج العالم من الحرب الثانية وقد تحول المعسكر الاشتراكي إلى قوة كبرى مدعومة بتحالف دولي واسع، واصبح من الضروري وجود وسيلة لمواجهة احتمالات تغلغلت داخل دول التحرر الوطني، ووجدت في الأمم المتحدة أداة ممتازة لذلك عبر إقرارها لمبدأ حق تقرير المصير، ودورها التنظيمي في عمليات القضاء على الاستعمار، وطرحها لمنظومة حقوق الإنسان، وتحجيمها لدوافع التغيير الراديكالي عبر توفير المساعدات ودعم التنمية. وهكذا وجدت الأمم المتحدة نفسها بحكم منطق الواقع السياسي وآليات وبنية تكوينها، بعيدة عن إدارة التناقضات والصراعات الأساسية في النظام السياسي الدولي أو حتى المشاركة الفعالة والدائمة في إدارتها. ولكن نفس العوامل أتاحت للمنظمة مجالا فسيحا للعب دور أساسي ومستقل في قضايا المجالات غير السياسية. والمقصود هنا قضايا التنمية وتنظيم علاقات العمل وحقوق الإنسان والثقافة والتراث الإنساني والصحة والبيئة، التي تولت أمرها منظمات وبرامج الأمم المتحدة المتخصصة، مثل منظمات اليونيسكو والعمل والصحة والطفولة والأغذية والزراعة والتنمية الصناعية، ومثل برامج الأمم المتحدة للتنمية والبيئة وفيروس نقص المناعة البشرية والمستوطنات البشرية. ولقد تمكنت دول العالم الثالث من جعل تلك المنظمات والبرامج تعبيرا متوازنا عن الإرادة الدولية، وتحييد تأثير موازين القوى الحاكمة لتفاعلات النظام الدولي. وسنجد علة هذا النجاح في الحيوية الهائلة التي بثها ميراث حركات التحرر الوطني وحملها ممثلو الدول الجديدة إلى هذه المنظمات، والدور المساند لدول الكتلة الشرقية بتقاليدها الراديكالية، والغلبة العددية لدول العالم الثالث، وطبيعة نظام التصويت، وابتعادها النسبي عن الصراع السياسي الصريح والتأثير المباشر على موازين القوى الدولية. ويعيدنا ذلك لموضوعنا الأساسي: كيف يمكن توفير افضل الشروط لإطلاق قدرات الجمعية العامة في ظل الظروف الراهنة؟ هنا يظهر أولا مقترح إصلاح نظام عمل الأمم المتحدة. ولدينا مقترحات عديدة ومدروسة، في تقارير رسمية مثل تقرير كوفي عنان الشهير:« في جو من الحرية افسح» 2005، وقرارات عديدة للجمعية العامة مثل القرار رقم 58 -126 في 19 ديسمبر 2003. وسنرصد داخلها مسارين فيما يخص تطوير عمل الجمعية العامة . مسار لتطوير ودعم اختصاصها وسلطتها تجاه مجلس الأمن. ومسار لتطوير أساليب عملها، من حيث إدارة الجلسات، وعقلانية اتخاذ القرارات، وإعداد جداول الأعمال، وتقليص مجال أعمالها، وإعادة هيكلة لجانها، وتطوير اختصاصات رئيسها، وتعميق ومأسسة علاقاتها بالمنظمات الأهلية. وكلها مقترحات مدروسة ونفذ بعضها فعلا، غير أن مشكلتها أنها ستعمل وتؤثر في حدود الولاية السياسية للجمعية، وبالتالي سيظل عائدها محدودا بحدود الولاية. ونقترح مدخلا آخرا اكثر واقعية وإثمارا تقودنا إليه ملاحظتنا السابقة حول دور الأمم المتحدة القوي والمستقل في المجالات التنموية. كلما ركزت الجمعية عملها داخل تلك المجالات، كلما كانت أبعد عن قيود التوازنات والانقسامات الدولية، وبالتالي كلما أضحت أكثر استقلالية وقدرة على التأثير في الواقع الدولي، وكلما تصاعدت قدرتها على تشكيل قواعد سياسية واجتماعية اكثر اتساعا للنظام الدولي الراهن، والدفع صوب تبلور نظام دولي بديل اكثر ديمقراطية. أكدت خبرات الجمعية العامة منذ مطلع الألفية الثالثة صحة هذا المدخل. في سبتمبر 2000 انعقدت «قمة الألفية للأمم المتحدة»، في سياق دورة «الجمعية الألفية». وأطلقت الدورة:«الأهداف الإنمائية للألفية» من ثمانية أهداف يتعين تحقيقها بحلول 2015. وبالفعل تمكنت الجمعية في الموعد المحدد، عبر منظماتها المتخصصة وتعاون الدول والمنظمات الأهلية وتعبئة الموارد، من تحقيق إنجازات كبيرة وفقا للإحصائيات المقارنة بين عامي 1990 و2015. فيما يخص الهدف الأول: القضاء على الفقر المدقع، انخفض عدد ضحاياه من 1.9 بليون إلى 836 مليونا. وفيما يتعلق بالهدف الثاني: تعميم التعليم الابتدائي، ارتفع معدل التسجيل في المدارس الابتدائية في المناطق النامية من 83% إلى 91% . وفيما يتعلق بالهدف الثالث: تعزيز المساواة بين الجنسين، شهدت معدلات المساواة زيادة كبيرة، ففي جنوب آسيا ارتفعت نسبة الفتيات المسجلات في المرحلة الابتدائية من 74 مقابل كل 100 من البنين إلى 103، وارتفعت نسبة النساء العاملات بأجر خارج القطاع الزراعي من 35% الى41%، وانخفضت نسبتهن في الأيدي العاملة الهشة من إجمالي الأيدي العاملة النسائية بمقدار 13 نقطة مئوية. وفيما يتعلق بالهدف الرابع: تقليل وفيات الأطفال، انخفض المعدل العالمي لوفيات الأطفال دون الخامسة من 90 لكل ألف ولادة إلى 43، وانخفض إجمالي عدد وفياتهم في البلدان النامية من 12.7 مليون إلى 6 ملايين. وفيما يتعلق بالهدف الخامس: تحسين الصحة النفاسية للمرأة ، تراجع عدد وفياتها بنسبة 45% على المستوى العالمي، ووصلت نسبتها في جنوب آسيا إلى 64% وإفريقيا 49%. وفيما يتعلق بالهدف السادس: مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية. فيما بين 2000 و2014 انخفضت نسبة ضحاياه الجدد الجديدة 40%، والمعدل العالمي للإصابة بالملاريا ووفياتها بنسبة 37% و58% على التوالي . وفيما يتعلق بالهدف السابع: استدامة البيئة، ارتفعت نسبة سكان العالم الذين يحصلون على مصدر محسن لمياه الشرب من 76% إلى 91%، واكتسب اكثر 1.9 بليون إنسان القدرة على الحصول على مياه الأنابيب، واكتسب 2.1 بليون القدرة على الحصول على الصرف الصحي المحسن، وانخفضت نسبة سكان أحياء الحضر الفقيرة في العالم النامي من 39.4% إلى 29.7% . وفيما يتعلق بالهدف الثامن: إقامة شراكة عالمية من أجل التنمية، ارتفعت المساعدات الإنمائية بنسبة 66 % بالقيمة الحقيقية. وفي عام 2015 أطلقت الجمعية العامة خلال قمة قادة العالم، استراتيجية «تحويل عالمنا: أهداف التنمية المستدامة لعام 2030»، مستهدفة تجذير « الأهداف الإنمائية» عبر 17 هدفا تتكون من 169 غاية. طرح تقرير حديث لمؤسسة بروكينجز الأمريكية انه بعد مرور ثلاث سنوات على إطلاق الخطة، حققت اكثر من نصف مستهدفات خمسة مؤشرات: وفيات الأطفال، والتهاب الكبد ب، والملاريا، والطاقة الكهربائية، والفقر المدقع. ويضيف أن أهداف الاستراتيجية في حاجة إلى الكثير من التنظيم والتعاون وحشد الموارد، لتتحقق في المدى الزمني المحدد. وينبهنا أن الفشل سينتج عنه كوارث إنسانية. سوف تتعرض حياة 44 مليونا للخطر إذا فشلنا في تحقيق مستهدفات الجوع والصحة، وسيتعرض 9 ملايين طفل للموت في الشريحة 1-5 سنوات إذا فشلنا في تحقيق مستهدفات الملاريا والإسهال، ومعاناة 475 مليونا من الفقر المدقع إذا فشلنا في معالجة مستهدفاته، ومواجهة ما يقرب من 850 مليونا امرأة للعنف الجسدي والجنسي إن لم تتحقق المساواة النوعية. ثم يحذرنا:«دونما تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ستواجه حياة ملايين البشر والبلايين من احتياجاتهم الإنسانية خطرا مؤكدا».