أعمدة

مُسرّعات التحول الرقمي

آن_الكندي
 
آن_الكندي
آن بنت سعيد الكندية - Twitter : @AnnAlkindi - تريد أجيال التكنولوجيا كل شيء بضغطة زر مما شكل ضغطا كبيرا على كثير من الحكومات للإسراع في عملية الرقمنة. الفجوة ما بين التطور التقني، ومتطلبات الواقع هو ما يعرف ببساطة عملية التحول الرقمي كما عرفها رئيس وحدة التحول الرقمي السعودي، حيث تمر المملكة بعملية تحول رقمية ملفتة. وبما أن لكل دولة نضجها الرقمي والمعرفي واختلاف المستويات لدرجة دعم الإرادة السياسية لكل منها، عليه تختلف رحلة التحول من بلد إلى آخر. تبقى أن أسسه واحدة لا تتغير، أهمها على الإطلاق نموذج التشغيل. تحدد الدول نموذج أعمالها قبل أن تقرر الانطلاق بعملية التحول الرقمي، وتسأل السؤال التالي ما هو نموذج الأعمال الذي تراه مناسبا Business Model . تحتم النموذج التنموي في السلطنة طوال الخمسين عاما الماضية أن تقدم الحكومة عددا كبيرا من الخدمات، مما أدخل للوحدات الحكومية الواضعة للتشريعات والمراقبة عبء التنفيذ. تبسيط الإجراءات مصطلح يضم خلفه الكثير من التخطيط والعمل، لذا لا تحول الدول خدماتها إلى الرقمية إلا بعد أن تعيد النظر في تقديمها أم إلغائها أم تخصيصها. ينطلق فكر تبسيط الإجراءات من النموذج التشغيلي الذي تختاره الحكومة قبل أن تتمم هذه الإجراءات. فماذا نود أن نحول، هل سنقوم برقمنة الإجراءات الحالية؟. بالطبع تعدت السلطنة هذه المرحلة إذ أن لديها تجارب في التحول الرقمي ممثلة في تجربة شرطة عمان السلطانية بشكل عام، وبالأخص الجمارك العمانية التي نجحت في تنفيذ حكومة إلكترونية مصغرة (راجع مقال آن الكندية- عوامل نجاح الجمارك العمانية-، المنشور في جريدة عمان يناير 2019) متمكنةً من ربط أكثر من 40 جهة حكومية. كما أن لدينا رصيدا من الدروس المستفادة خلال محاولة تنفيذ الحكومة الإلكترونية ومنها على سبيل المثال لا الحصر، بناء أنظمة منفصلة لكل وحدة حكومية مما صعّب من عملية الترابط والتكامل فيما بينهما. الدرس الثاني بما أنها أنظمة منفصلة كلا في صومعته، فقد تعددت الاعتمادات المالية مما ضخم من تكلفة التحول الرقمي. كذلك عمدت السلطنة إلى إنشاء فرق عمل للوحدات الحكومية الراغبة في التحول، بينما الدراسات تشير إلى ضرورة وجود أقسام ثابتة لها تقسيماتها الإدارية المبنية على أسس علم إدارة التغيير. كنت قد حاولت تشخيص معيقات وصولنا إلى الحكومة الإلكترونية في مقال بعنوان أين حكومتنا الإلكترونية؟ (منشور في جريدة عمان في 2016). وحين نقول إنها رحلة، فالتحول رحلة مستمرة لا تبنى في يوم وليلة، هكذا أوضحت تجارب الدول المتميزة في التحول الرقمي ومنها استونيا. الحكمة تكمن في معرفة الدوافع المحركة للتحول الاستوني المبهر، إذ أن إفلاس هذا البلد بعد استقلاله عن الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينات (1991) جعله في معاناة كبيرة دفعه نحو ضرورة التغيير. الدافع الثاني التزام الحكومة لتقديم خدمات للمواطنين المتوزعين في رقعة متسعة من الأراضي رغم أنهم لا يتعدون المليوني نسمة حفاظا على الاستقرار والأمن، وبذلك أصبحت رائدة الابتكار في التحول الرقمي. حين يحصل المواطن على خدمات رقمية، فإنه يحس بأسلوب جديد في التعامل مع شؤون حياته وقضاء أموره. والحقيقة هي أن إحساسه في محله فالتحول الرقمي يعني نموذج أعمال جديدا، ليس للإجراءات السابقة أي أثر يذكر، إذ تتغير نوعية الخدمات التي يطلبها. ومن هنا كان السؤال الذي تم طرحه في بداية المقال ما هو نموذج الأعمال التشغيلي الحكومي للسلطنة؟ وبالرجوع إلى اختصاصات وزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات فإن ذلك لا يخولها بالإجابة على هذا السؤال بل يضعها في موضع التنفيذ المباشر لرقمنة الإجراءات الحالية مع مهمة كل وحدة حكومية بتبسيط إجراءاتها، وهو الوضع الذي لا يختلف كثيرا عن محاولاتنا السابقة للتحول الرقمي. فإذا ما أسندت هذه المهمة الشاقة لوزارة النقل، فمن هي الجهة المخططة لنموذج الأعمال الذي ينبغي أن تعمل عليه الوزارة للتحول الرقمي؟. حيث ينطلق هذا السؤال من مبدأ ضرورة فصل الأدوار ما بين المخطط الذي يفترض أن يرى الصورة الكلية وما بين منفذها. هنا يتوجب علينا أن نقف ونقول أننا بحاجة إلى خارطة طريق واحدة مدمجة لجميع إجراءات التحول لكافة الوحدات الحكومية تعلما من دروس الماضي، وبما يسهل عملية دمج الخدمات وتكاملها بحيث لا يحتاج المواطن إلى إدخال بياناته في كل مرة وصولا إلى مستوى مفهوم الحكومة الذكية. مما يتطلب مسحا متكاملا لكل شيء، والذي بطبيعة الحال سيتطلب إنشاء مكتب لهندسة الإجراءات كجهة مرجعية مستقلة فيها فصل الخطاب بين المؤسسات ذات الخدمات المشتركة. ومن منطلق مبدأ المحاسبة والمساءلة الذي يستدعي وجود مؤشرات لقياس الأداء، فإن إنشاء مكتب هندسة الإجراءات يسهل مهمة وضع هذه المؤشرات، وبالتالي يصبح لدينا منظومة وطنية للمؤشرات عوضا عن الاعتماد فقط على المؤشرات الدولية. ليست هذه المقترحات للوزارة المعنية، بل دعوة للتفكر لجميع الوحدات الحكومية المطالبة بالتحول الرقمي، خاصة وأننا نمر بمرحلة تحول تستلزم المراجعة الدائمة. نحن بحاجة إلى تنظيم الأدوار ما بين مشرع، ومنفذ، ومراقب، وقد أتمت السلطنة الفصل بين هذه الأدوار في بعض القطاعات. ومن الضرورة بمكان التذكير بأن عملية التحول الرقمي لا تتحملها وزارة النقل وحدها بل هي مسؤولية مشتركة كلا في وزارته، مما يستدعي جهة مرجعية مستقلة. وبدون هذه المركزية لعملية التحول الرقمي لن تكون الرؤية التكاملية سهلة، ولن نستطيع ربط التحول بقياس الأداء الحكومي. ورجوعا إلى الهيكل الإداري الجديد للسلطنة بإنشاء وحدة متابعة تنفيذ رؤية عمان 2040 بالمرسوم السلطاني رقم 100/2020، وبالتحديد المادة رقم 6 و7 و8 بمتابعة تنفيذ سياسات تبسيط الإجراءات، فإنه يقترح أن تضم هذه الوحدة مكتب هندسة الإجراءات. وتأكيدا على هذا الدور المناط لوحدة الرؤية فقد تضمن هيكلها الإداري مديرية عامة لإدارة الجودة والتميز الحكومي، وذلك ليس دخولا في التنفيذ، وإنما العقل المخطط والمنظم لرفع الأداء الحكومي مما يسهل عليها مهمتها لقياس الأداء وفقا للمؤشرات الموضوعة في الرؤية. ولعل التجربة التي ينفذها حاليا شؤون البلاط السلطاني القائمة على أسس ومنهجيات التحول الرقمي المتعارف عليها عالميا، مما يمثل للسلطنة مشروعا تجريبيا رياديا Pilot Project. تبني ثقافة التحسين المستمر أهّل هذا المشروع للحصول على شهادة التميز في سعي الإدارة المستمر لتحسين الأداء. إضافة إلى مشاريع التحول الرقمي في السلطنة فإن لدينا خبرات إدارة التغيير في شركة تنمية نفط عمان عبر تطبيق منهجية الإدارة الرشيقة Lean، والتي تشكل جزءا هاما من عملية التحول الرقمي. استقطاب جميع هذه الكفاءات من شأنه أن يوفر الموارد البشرية اللازمة لقيادة التحول الرقمي في السلطنة. وكما هو معروف وشائع أن للتغير مقاوميه ومعطليه على مستوى أي وحدة حكومية كانت أو خاصة، لذا بناء المجتمع الرقمي الوسيلة الأساس لرفع الوعي واقتناص الفرص. وما جائحة كورونا إلا دروس وعبر في الخدمات الإلكترونية، والتعليم عن بعد الذي تعلمت فيه الأسرة العمانية الشيء الكثير. وما ذلك إلا مقبلات بسيطة لقائمة طويلة لما ينتظرنا من عمل في سبيل بناء مجتمع رقمي، الجزء الأساس في الاقتصاد الرقمي.