الملف السياسي

طائر السلام لا يحلق بجناح مكسور !!

د.عبد الحميد الموافي - «إن طائر السلام لن يحلق في سماء المنطقة إلا إذا تم التوصل إلى صيغة متوازنة للأمن المتبادل، والمصالح المشتركة، والقبول المتبادل بحل الدولتين وتحقيقه على الأرض، لبناء سلام حقيقي يمكن أن ينقل المنطقة إلى مرحلة جديدة، وهذا غير ممكن طالما سيطرت التوجهات اليمينية المتطرفة في إسرائيل، وطالما انحازت الإدارة الأمريكية على النحو الحادث الآن إلى جانب إسرائيل. أما إذا تم كسر الجناح الفلسطيني لطائر السلام بشكل تام فإن المخاطر المترتبة على ذلك قد تكون أكثر مما يمكن تصوره». إذا كان قانون الغاب – القائم على استخدام القوة في التعامل وتحقيق الغلبة لطرف ضد آخر – قد ساد على مدى فترات طويلة، إلا أن التطور الإنساني والاجتماعي حمل الإنسان والمجتمعات المستقرة على العمل للسيطرة على استخدام القوة، وحصر استخدامها في السلطة العليا المسؤولة عن إدارة المجتمع وتسير شؤونه لصالح كل أبنائه، وذلك ضمانا للاستقرار والازدهار من ناحية، وإتاحة للفرصة لحل المشكلات داخل المجتمع عبر وسائل أخرى يحددها الإطار الاجتماعي والسياسي للمجتمع، وبما يحافظ على العلاقة بين فئاته وأفراده من ناحية ثانية، وبالتوازي مع ذلك يتطور المجتمع الدولي، وإن كان بخطى بطيئة، وتسعى القوى الدولية والمنظمات الإقليمية والدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة إلى تقنين استخدام القوة في إدارة وحل الخلافات بين الدول، والحد من استخدامها أو حتى التلويح باستخدامها لحل الخلافات، واللجوء بدلا من ذلك إلى الوسائل السلمية لحل الخلافات والمنازعات، وهى الوسائل التي تمتد من المساعي الحميدة والوساطة والتفاوض والقضاء وصولا إلى التحكيم الدولي، وهى وسائل وأدوات ترتكز على مبادئ وقواعد القانون الدولي، وتستظل بها، خاصة ما يتصل بتحريم العدوان، وتحريم ضم أراضي الغير بالقوة، واحترام حقوق السيادة، والحقوق المشروعة للشعوب، والالتزام بقواعد التعامل الدولي المستقرة في العرف والقانون الدولي وتطوره المعاصر، وما رسخته المواثيق والمعاهدات والاتفاقيات الدولية في هذا المجال. وإذا كان القانون الدولي، ومن ثم التنظيم الدولي، لا يزال يتطور، ولم يصل بعد إلى حد ترسيخ الالتزام الصارم بقواعده ومبادئه الأساسية، وهو ما يظهر بوضوح في ميل الكثير من القوى والأطراف الإقليمية والدولية إلى اللجوء إلى قانون الغاب في التعامل وحل مشكلاتها، أو بعضها على الأقل، عندما ترى أن ذلك يحقق مصالحها الوطنية، والأمثلة في هذا المجال عديدة، ولا تزال تحدث حتى الآن، فإن نجاح الوسائل السياسية والقانونية في حل الخلافات والمنازعات، ارتكز دوما على مبدأ التوازن، توازن الأمن وتوازن المصالح بين الأطراف المعنية، أو على الأقل الاقتراب من نقطة التوازن بقدر الإمكان، في إطار علاقات القوة والظروف المختلفة المحيطة بكل حالة، أو نزاع على حدة، خاصة إذا كانت الأطراف المعنية تحرص على التوصل إلى حلول قابلة للاستمرار والبقاء، والانتقال من حالة الصراع، إلى حالة التعاون والسلام بين الأطراف المعنية، ويظل الخطر والتهديد كأمنا في قناعات بعض الأطراف بأنها تستطيع أن تضرب بقواعد القانون الدولي عرض الحائط، طالما تملك القوة على فرض رؤاها أو خياراتها المحققة لمصالحها هي والتي تنتقص، أو تأتي على حساب مصالح وحقوق الأطراف الأخرى، والمؤسف بالفعل أن هذا ما جسدته وتجسده القضية الفلسطينية، وما تشهده خلال هذه الفترة من تحركات وجهود متعددة، ومتناقضة أيضا، للسير على طريق الحل والتوصل إلى سلام، لا يمكن إلا أن يكون سلاما عادلا وشاملا يعيد الحقوق المشروعة إلى الشعب الفلسطيني الشقيق، بما في ذلك حقه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، إذا أريد له- لهذا السلام - البقاء والاستمرار، هذا إذا تم التوصل إليه. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي: *أولا: أنه كان من الملاحظ أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أبدى، خلال حملته الانتخابية للرئاسة عام 2016، ثقة وتفاؤلا في حديثه عن التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية، وهو أمر فهمه كثيرون في إطار أن ترامب لا يعرف الكثير عن الشرق الأوسط وتعقيداته، وأن ما يعلنه هو آمال، أكثر منها رؤى يمكن أن تتحقق. وبالرغم من أن الرئيس الأمريكي وأركان إدارته نجحوا بشكل واضح في بناء علاقات جيدة مع مختلف الدول العربية، على الأقل مقارنة مع علاقة إدارة أوباما بعدد غير قليل من الدول العربية، إلا أن المفارقة هي أن ترامب اتخذ خطوات أكثر جنوحا، وعلى نحو لم يصل إليه رئيس أمريكي قبله، وذلك بالانحياز إلى إسرائيل، بل وتبني رؤيتها للحل، وبشكل أحادي، لم تصل إليه إدارة أمريكية من قبل. فإلى جانب التأكيد على الالتزام الأمريكي القوي والكامل بأمن إسرائيل، انسحبت الولايات المتحدة من منظمة اليونسكو ومن المجلس الدولي لحقوق الإنسان، بزعم انحيازهما ضد إسرائيل، كما قامت إدارة ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، بل ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس في يوم احتفال إسرائيل بذكرى قيامها في مايو الماضي، ثم أوقفت مساعداتها إلى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ثم قامت بإغلاق مقر منظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة الأمريكية الشهر الماضي، وأغلقت بالفعل مكتب المنظمة الشهر الجاري، وهو الذي كان ينظر إليه على أنه بمثابة سفارة فلسطين في العاصمة الأمريكية، وأخيرا أعلنت الخارجية الأمريكية دمج القنصلية الأمريكية في القدس في السفارة الأمريكية، وهو ما انتقدته بشده القيادة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، بل والكثير من الدول داخل الأمم المتحدة وخارجها. وأمام هذا الوضع فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو هل تسير تلك الخطوات على طريق حل القضية الفلسطينية، كما وعد المرشح الرئاسي ترامب، وكما أعلنت إدارته أكثر من مرة؟ وهل الحل يتم بالنظر والعمل لحساب طرف واحد – إسرائيل – وممارسة أقصى ضغوط على الطرف الآخر – الجانب الفلسطيني - بهدف كسره تماما، وهل من شأن تلك الخطوات أن تساعد في التحرك الحقيقي، أو الممكن إلى الأمام؟ وهل محاولة إزاحة قضايا القدس واللاجئين والمستوطنات من مفاوضات الوضع النهائي يمكن أن يقبل الفلسطينيون بها؟ وهل يمكن أن تلجأ واشنطن إلى فرض الأمر الواقع عبر مساندتها وانحيازها التام لإسرائيل؟ وهل ذلك يمكن أن يمهد لإنجاح ما يسمى صفقة القرن؟ الإجابة بالتأكيد هي بالنفي لأسباب عديدة وعميقة ترتبط بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وبقوة الحقوق الفلسطينية، وبحقيقة أن إسرائيل في النهاية هي مغتصبة للأرض وللحقوق الفلسطينية، وبأن القدس الشرقية تظل جزءا من الأراضي التي احتلتها إسرائيل في عدوانها في يونيو 1967، وهى وغيرها عوامل أكثر عمقا وأهمية وتأثيرا من العوامل والاعتبارات الداخلية الأمريكية المعروفة، وهي التي يمكن أن تفسر أو تقف وراء المواقف التي اتخذتها الإدارة الأمريكية خلال الأشهر الأخيرة. وإذا كان من المؤكد أن الولايات المتحدة كقوة عظمي في عالم اليوم، وكطرف أساسي وشديد التأثير في تطورات القضية الفلسطينية، منذ ما قبل قيام إسرائيل حتى الآن، تظل مواقفها وخطواتها بالغة التأثير بالنسبة للقضية الفلسطينية، ولعملية السلام والمدى الذي يمكن أن تصل إليه، سواء بحكم القوة والمصالح الأمريكية، أو بحكم العلاقة والقدرة على التأثير على الموقف الإسرائيلي، وأنه ليست هناك قوة، أو مجموعة قوى دولية، قادرة على أن تحل محلها لأسباب كثيرة، فإنه لا مناص من التعامل مع الإدارة الأمريكية، نعم هو تعامل اضطراري، ولكنه لا بديل له. ومن ثم فإنه من المهم والضروري العمل من أجل محاولة دفع الموقف الأمريكي إلى منطقة أقل انحيازا، وأكثر توازنا بين إسرائيل والفلسطينيين، وهنا تحديدا فإنه من المهم التذكير دوما بحدود المواقف التي اتخذتها الإدارات الأمريكية السابقة، من إدارة بوش الأب في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، مرورا بإدارة كلينتون، وحتى إدارة أوباما، والتأكيد في الوقت ذاته أن السلام الممكن والقابل للاستمرار، ليس السلام الإسرائيلي، الذي يتم فرضه بقفاز أمريكي، وهو الذي يكسر الجناح الفلسطيني لطائر السلام، ولكنه السلام المتوازن، والقائم على تحقيق الأمن المتبادل بين الدولة الفلسطينية والدولة الإسرائيلية في إطار حل الدولتين، والمستند أيضا إلى مصالح مشتركة تنطلق من الإطار الفلسطيني الإسرائيلي، إلى الإطار العربي الإسرائيلي الأوسع، كما أشارت إلى ذلك مبادرة السلام العربية منذ عام 2002. وهنا تحديدا فإن الوعي والإدراك العميق لأهمية وقيمة السلام العادل والشامل والحاجة إلى استمراريته وإيجاد واقع جديد، هو ما يجعل من الممكن تجاوز حقائق ميزان القوة المجردة على الأرض، من جانب إسرائيل وأمريكا، وهو ما قد يدفع نحو مزيد من المرونة الفلسطينية دون تفريط في الثوابت الوطنية الفلسطينية المعروفة. *ثانيا: أنه في ظل ما أصبح معروفا من تكتيك ترامبي للتعامل مع الأطراف الأخرى، وهو تكتيك يقوم على الهجوم الشديد والتصعيد في البداية، لدفع الطرف الآخر إلى الاهتزاز أو إلى القبول ببعض ما تريده واشنطن، ومعرفة الحدود التي لن يتنازل عنها الطرف الآخر، فإن الجانب الفلسطيني أبدى في الواقع جلدا واحتمالا وقوة تحسب له، في التمسك بالثوابت الفلسطينية، وفي رفض الخطوات التي تماهى فيها الموقف الأمريكي مع الموقف الإسرائيلي، بل إن الرئيس الفلسطيني هو من أوقف الاتصال مع الإدارة الأمريكية، وكان ذلك من المبررات التي استندت إليها إدارة ترامب في إغلاق مكتب المنظمة في واشنطن، وهو مبرر تسبقه دوافع أمريكية معروفة لإغلاق مقر منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن. على أية حال، فإن الأشهر الأخيرة، وهي التي شهدت الوصول بالضغوط الأمريكية على الفلسطينيين إلى ذروتها، قد أكدت بوضوح أن القوة والجبروت الأمريكي لا يمكنه كسر الجناح الفلسطيني لطائر السلام بشكل تام، نعم يمكن أن يصيبه أو يضعفه، ولكن من الضروري الإبقاء عليه، إذا أردنا لهذا الطائر أن يحلق في سماء الشرق الأوسط، ولم تكن مصادفة أبدا أن يكتشف كوشنر أنه لا بديل للفلسطينيين، وأنهم، هم فقط، من سيقبل، ومن سيوقع على وثيقة السلام في النهاية، وأنه لا الدول العربية، ولا غيرها يمكن أن تحل محل منظمة التحرير الفلسطينية أومحل الدولة الفلسطينية والرئيس الفلسطيني. ولعل ذلك يفسر، ولو بشكل ما، إشارة ترامب خلال لقائه نتانياهو على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى حل الدولتين، وإشارة كوشنر بعد ذلك إلى أن واشنطن لا تريد فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة، وأن ما يسمى صفقة القرن تسعى إلى توازن المصالح بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. وبالرغم من أنه لا يمكن التعويل على مثل تلك التصريحات، خاصة أنها لم تتكرر، حتى الآن على الأقل، إلا أنه من الواضح أن الإدارة الأمريكية بدأت تستشعر أن الفلسطينيين لديهم أهم الأوراق، وهى ورقة الحق الفلسطيني المشروع، الحق في الأراضي المحتلة، والحق في الاستقلال وإقامة الدولة المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، والحق التاريخي، وورقة القرارات الدولية المؤيدة للحقوق الوطنية الفلسطينية منذ ما قبل إعلان قيام إسرائيل رسميا، بحكم أن تقسيم فلسطين صدر القرار الخاص به عام 1947 وإعلان إسرائيل تم عام 1948، وورقة العدوان الإسرائيلي والممارسات الهمجية الإسرائيلية التي أدانها ويدينها العالم أجمع، في الأمم المتحدة وكل المنظمات والهيئات الإقليمية والدولية، ويأتي قبل هذه الأوراق ورقة الإرادة والوعي والتصميم الفلسطيني على استخلاص الحقوق الفلسطينية المشروعة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة إلى جانب إسرائيل في إطار حل الدولتين، ورفض أي صيغ أو مقترحات تجتزئ أو تلتف على الحقوق الفلسطينية المشروعة وغير القابلة للتصرف، والقدرة على احتمال التضحيات الكبيرة والمستمرة التي ترهق الشعب الفلسطيني الشقيق، وجميعها وغيرها أوراق قد لا يعرف قيمتها وأهميتها كثيرون داخل المنطقة وخارجها أيضا. *ثالثا: أنه بالرغم من كل الممارسات الهمجية لحكومة نتانياهو، والاستيطان الوحشي في القدس الشرقية والضفة الغربية المحتلة، إلا أن ذلك لن ينجح في فرض السلام الإسرائيلي على الفلسطينيين، وأن قانون يهودية الدولة لن يزيد الأوضاع إلا تعقيدا وخطورة، ومع ذلك فإن هناك قطاعا إسرائيليا يدرك أهمية تحقيق السلام مع الفلسطينيين، وهناك وثائق عدة ومقترحات تمت مناقشتها وصياغتها، وبمشاركة أمريكية، سواء في ظل إدارة كلينتون أو إدارة أوباما السابقتين، غير أن التعويل على ذلك لن تكون له نتيجة، إلا إذا كانت هناك قناعة كبيرة على مستوى القيادة الإسرائيلية والأمريكية بالذات، بأن طائر السلام لن يحلق في سماء المنطقة، إلا إذا تم التوصل إلى صيغة متوازنة للأمن المتبادل، والمصالح المشتركة، والقبول المتبادل بحل الدولتين وتحقيقه على الأرض، لبناء سلام حقيقي يمكن أن ينقل المنطقة إلى مرحلة جديدة، وهذا غير ممكن طالما سيطرت التوجهات اليمينية المتطرفة في إسرائيل، وطالما انحازت الإدارة الأمريكية على النحو الحادث الآن إلى جانب إسرائيل. أما إذا تم كسر الجناح الفلسطيني لطائر السلام بشكل تام فإن المخاطر المترتبة على ذلك قد تكون أكثر مما يمكن تصوره، خاصة في ظل ما يموج في المنطقة من تيارات ودعوات متطرفة وجماعات إرهابية تبحث لها عن دور، وعن ساحات تستوعبها بشكل أو بآخر، وهو أمر يبعث بالضرورة على القلق، ويستوجب تضافر كل الجهود لإعادة تحريك عملية السلام وعلى أسس متوازنة بشكل حقيقي، ولعل زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى مسقط تصب في هذا الاتجاه.