أفكار وآراء

في جذور الاستلاب الحداثي!

محمد جميل أحمد - الاختلاف الكبير والنزاع على رؤية العالم دينيًا بين الشرق والغرب، والتي يمكن قراءتها تاريخيًا أيضًا بين «المسيحية» و«الإسلام» هو الذي يلعب اليوم دورا كبيرا في الإيحاء بتأبيد الاختلاف الهوياتي اليوم بين العرب والغرب، وهو ما يصوره البعض في الغرب، كبرنارد لويس، بأنه «استثناء عربي» أو استعصاء تاريخي على تمثل الحداثة، بحيث أخذ التعبير المربك عن تلك العلاقة المعقدة والطويلة من الصراع صورًا ونماذج طبعت أشكالًا مختلفة، في صيروراتها لكنها بدت باستمرار علاقةً معطوبة! وهكذا، حينما انتصرت الحداثة الاستعمارية في القرن التاسع عشر كتتويج معاصر للصراع التاريخي والمعقد بين الشرق الإسلامي والغرب، كانت تلك الحداثة تستبطن الكثير من ملامح ذلك الانتصار تحت شعارات بدت كما لو أنها انعكاسات حديثة للنموذج الإنساني. هذه العلاقة التي انتهت في طورها الأخير انتصارًا للغرب على الشرق الإسلامي جيرته المعرفة العلمية للحداثة هو الذي اشتغل من ناحيتين لتكريس الاستلاب الذي بدا الطريقة الوحيدة لتماهي الشرق الإسلامي مع الغرب الحداثي. فمن ناحية، ولأن الاختلاف كان ذا طبيعة تاريخية وصراعية وحضارية كذلك، أصبح التناقض غير القابل للإزالة بين الطرفين مقتضيًا في ظاهره لعلاقة وحيدة فقط، هي الذوبان في الحضارة المنتصرة ذات الطابع «الإنساني» في شكل علاقة قوة استعمارية ضاربة. ومن ناحية ثانية انعكس ذلك الاختلاف، ونتيجة للتخلف العظيم الذي ضرب الشرق الإسلامي، باستمرار في رؤية غير قادرة على تبني فرز واضح بين الطابع المعرفي الإنساني لحداثة الغرب والطابع الاستعماري، بالرغم من وجود حالة جنينية كانت قابلة للتطور في رؤية المدرسة الإصلاحية العربية لفهم تلك العلاقة بسوية رشيدة (محمد عبده) لكنها اختفت تقريبًا في الخطاب العام، مع ظهور صراع الهوية الجديد الذي عكسته رؤية الإسلام السياسي فبدا هو الصوت الأكبر انتشارًا من خلال الأيديولوجيا، وبخاصة بعد هزيمة العرب أمام إسرائيل في عام 1967 ما أدى إلى أن تكون تلك الأيديولوجيا الإسلاموية هي الأكثر تقبلًا بين الناس في المنطقة العربية وصولًا إلى ما سمي بـ«الصحوة الإسلامية». ما غاب عن كثيرين في تقييم هوية الاختلاف المستبطنة في ذلك التناقض الأصلي لرؤية عالمين مختلفين (الشرق الإسلامي والغرب) شكلت العلاقة بينهما تاريخًا من الصراع في العالم القديم، هو أن انعكاس العلاقة الصراعية المستبطنة والقائمة على ذلك التناقض كان سيؤدي بالضرورة إلى تعويم علاقة استلابية في تعاطي العرب مع الحداثة الغربية. وغني عن القول أن علاقة كهذه لا يمكن أن تفضي أبدًا إلى فهم سوي وطبيعي للحداثة ما دامت الرؤية العربية للغرب الحداثي على تلك الحال. فإذا كان واضحًا أن الهوية الإسلامية متجذرة في نمط حياة العالم العربي بصورة عامة، وإذا كان الإسلام هو «موضوعة العرب في التاريخ» كما يقول عبدالله العروي، فإن مواجهة التحدي المزدوج للعرب حيال استحقاقات الإصلاح والتجديد الديني هي ستكون أيضًا الشرط الشارط والمقدمة الضرورية لفهم الحداثة الغربية في الوقت ذاته! ولهذا ما يظنه البعض امتناعًا أصليًا في فهم العلاقة بين العرب والحداثة الغربية، على ما رأينا من موقف برنارد لويس، (الذي يوشك أن يكون موقفًا عنصريًا) يعكس تلك الطبيعة التي تعود إلى جذور اختلاف حضاري. فالإسلام لم يكن دينا فحسب، كما كانت علاقة الدين المسيحي بأوروبا، بل أنشأ كذاك هوية حضارية طبعت العالم العربي بطابعها الدائم وهو الطابع الذي وصفه المؤرخ البلجيكي هنري بيرن بعبارته الشهيرة «لقد دمر الإسلام الوحدة التاريخية للمتوسط مرةً وإلى الأبد»!. لهذا فإذا لم يتمكن العرب في الأزمنة الحديثة من إدراك الفرز بين ثقافة النص وثقافة التاريخ، بحسب كمال عبداللطيف، فإن ما سيواجههم من استعصاء على فهم الحداثة الغربية سيظل مقيما، كما أن تعبيرات خطاب الهوية المأزوم للإسلام السياسي والجماعات المتطرفة ستظل هو الحاكم لرؤية العلاقة بين الطرفين على نحو ما نرى اليوم في أزمة خطاب الإسلاموية الجديدة. هكذا بين رؤية استلابية تعكس استمرارًا للذوبان (دون أن تذوب) بدت نمطًا للتعاطي العمومي القشري للمجتمعات العربية مع الحداثة الغربية (كانت واضحة تمامًا في خطاب السينما المصرية في النصف الأول من القرن العشرين) وبين رؤية نكوصية تعتمد خطابًا أيديولوجيا مضللًا للهوية، شكلت الحداثة الغربية استعصاء في المنطقة العربية دام لأكثر من مائتي عام، وذلك هو ما أوحى للمستشرق برنارد لويس بإطلاق مقولته القاسية: «الاستثناء العربي».