الملف السياسي

الانسحاب الأمريكي من سوريا ... الأسباب والمآلات

إميل أمين - كاتب مصري -

هناك على الأرض في سوريا معضلة مؤكدة سوف تنشأ من غياب القوات الأمريكية، ومن سيحل محلها؛ إذ تنادي موسكو بأن القوات السورية هي التي يجب أن تفعل ذلك، وهو مقترح ترفضه تركيا والولايات المتحدة على حد سواء، وبات السؤال عن البديل الذي يقلق الجميع.

منذ أن اقتحم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عالم السياسة، وقبلها كذلك كان التوجه الرئيس والحاكم بالنسبة إليه هو تيار الانعزالية، ورفضه أن تكون الولايات المتحدة شرطي العالم أو دركه، وفي هذا الإطار كان من الواضح جداً أنه يؤيد فكرة سحب القوات الأمريكية المنتشرة حول العالم، توفيراً للدم الأمريكي، وهذا هو الأهم بالنسبة لمواطنيه، ومن ناحية أخرى اقتصاداً في النفقات، وهو الرجل الذي لا دالة له إلا لغة الأعمال، ولا يتطلع إلا إلى عودة أمريكا إلى المربع الأول حول العالم، إلا من خلال الأرقام والأرصدة البنكية، أي أمريكا البراجماتية، ودع عنك أي دور أو حضور لأمريكا المثالية. في هذا الإطار يتفهم المرء ماذا وراء قصة ترامب مع سوريا، وكيف أن الرجل ساكن البيت الأبيض صرخ بصوت عال في الاجتماع الأول له بعد إجازات الأعياد … «لا يوجد في سوريا سوى الرمال والموت … فلماذا نبقى هناك؟» لكن الحقيقة هي أن المشهد ليس على هذا النحو من السهولة، فمن اليسير أن تتدخل أمريكا في نقطة مشتعلة حول العالم، ولكن من العسير جداً أن تنسحب منها هكذا، ومن دون خسائر جسيمة لكافة الأطراف بالفعل، وفي المقدمة منها واشنطن نفسها. قبل الخوض في عمق إشكالية الانسحاب، وما يترتب عليها ضمن سياقات التوازنات أو الاختلالات يعن لنا أن نتساءل عما جرى في الداخل الأمريكي بداية الأمر، وكيف أن القرار السريع جداً لترامب، قد تعرض لما يشبه المكابح التي أدت إلى إبطاء الأمر، ما يعني أن هناك قوى فاعلة في الداخل الأمريكي، بخلاف البيت الأبيض تدرك تمام الإدراك أن هناك إشكالية ما في هذا القرار، وعلى هذا النحو لا بد لها أن تبدي رأياً قاطعاً وحازماً، دفعة واحدة. إحدى أهم الروايات التي أذاعتها وكالة الأنباء الدولية «رويترز» تلك المتعلقة بالاجتماع الذي دام نحو 45 دقيقة في العراق، بين الرئيس ترامب، وجنرالاته على الأرض هناك، وهم الذين أعلموه أن العمليات العسكرية تشير إلى أن النصر على تنظيم داعش أصبح في متناول اليد، وأن الجيش لا يحتاج إلا لوقت قصير فقط، لاستكمال المهمة. تقول الوكالة الدولية: إن اللفتانت جنرال «بول لاكاميرا» قائد قوات التحالف في الحرب على تنظيم داعش في سوريا والعراق بقيادة الولايات المتحدة شرح لترامب الذي كان صبره قد نفذ على الحرب هناك، الأسباب التي تجعل الانسحاب السريع مستحيلاً دون تعرض القوات للخطر. بعد لقاء العراق بدا وكأن هناك رؤية متأنية لإشكالية سحب ألفي جندي أمريكي بمعداتهم الثقيلة من هناك، فقد تفهم ترامب أبعاد الأزمة التي قادت إلى استقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس، وساعد اللقاء في إتاحة مجال لالتقاط الأنفاس بالنسبة للقوات المسلحة الأمريكية، والدبلوماسيين الأمريكيين، من أجل تخطيط لانسحاب أكثر تأنياً من سوريا. يتبين للباحث في الشأن الأمريكي أن وزارة الدفاع الأمريكية لا تزال تمثل جزءاً كبيراً من نفوذ الدولة الأمريكية العميقة، وقد استطاع جنرالاتها أن يدركوا، ما لم يقو عليه دبلوماسيو وزارة الخارجية في تغيير آراء ترامب، فقد تم إقناع الرئيس بأن مهمة الولايات المتحدة في سوريا منخفضة التكلفة وذات تأثير كبير؛ فبواسطة عدد قليل جداً من القوات الأمريكية في سوريا، قضى الرئيس ترامب على سيطرة «تنظيم داعش»، على الأراضي التي كانت تحت حوزته، مما دفع الولايات المتحدة شوطاً طويلاً نحو تحقيق هدف الهزيمة الدائمة لتنظيم «داعش»، وكانت هذه صفقة رائعة مقارنة بالمهام الكبيرة في الماضي، وليس من الصائب وصف العمليات في سوريا بأنها عالية التكلفة، وذات تأثير ضئيل؛ لأن العكس صحيح. أدرك الجنرالات الأمريكيون ومن بعدهم الرئيس أن الفشل الكامل للولايات المتحدة في سوريا، سوف تكون تداعياته عالمية على الحلفاء والخصوم دفعة واحدة، وأنه كما أدى تخلي أوباما عن الخط الأحمر للأسلحة الكيماوية في عام 2013 إلى المزيد من الحزم من جانب روسيا والصين وكوريا الشمالية في السنوات التي أعقبت لك، فمن المرجح أن يؤدي هذا القرار إلى تشجيع الأعداء، وتشجيع انتشار الأسلحة النووية، أو إطلاق عمليات عسكرية استباقية أو إبرام صفقات مع أطراف لا تحمل الود لواشنطن. أحد أهم الأسئلة التي تساءل الجميع حولها: «هل يشجع الانسحاب الأمريكي على هذا النحو، حتى وإن كان منظماً وبهدوء غير متسرع، على عودة عناصر التنظيم الإرهابي داعش إلى المنطقة مرة جديدة؟ باختصار غير مخل، يمكن القول إن كارثية التنظيم باتت تتمثل في أنه أضحى فكرة غير عنقودية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية يمكن الإشارة إلى أن أعدادا كبيرة من فلول داعش في سوريا، لا تزال هاربة وفارة إلى مناطق مجاورة بعينها، وعليه فإن إخلاء أمريكا من حضورها العسكري سوف يفتح أبواب الجحيم مرة ثانية لعودة عناصر واحدة من أخطر وأشرس الجماعات الظلامية في المنطقة حتى الساعة. ضمن التوازنات والسياسات التي ستتحول إلى نوع من أنواع الفوضى مع مثل ذلك الانسحاب يأتي الحديث عن إشكالية الأكراد، أولئك الذي تساندهم الولايات المتحدة من جهة، ومن جهة ثانية تناصبهم تركيا العداء الواضح، وعليه كيف ستمضي الأمور مستقبلاً في هذا الإطار التصارعي والتشارعي؟ بداية يمكن القول إن خطط الولايات المتحدة الأمريكية بالنسبة لقوات الأكراد، تتمثل في أن تترك لهم أسلحة ثقيلة يمكن استخدامها ضد فلول داعش، حال حاولوا العودة مرة أخرى إلى الداخل السوري، لاسيما في الشمال الشرقي. هذه الأسلحة تشتمل على مدرعات، وعربات مصفحة بالإضافة إلى صواريخ قادرة على اختراق الدروع، ومدفعية وصواريخ محمولة كتفاً، وأسلحة متوسطة وخفيفة للقتال والالتحام الفردي. غير أن هذه الخطة والأنباء التي تواترت بشأنها أدت إلى انزعاج كبير للغاية لدى حكومة أردوغان، والسبب واضح؛ ذلك أنها على هذا النحو، يمكنها أن تؤثر على التوازنات الاستراتيجية بين الجانبين التركي والكردي، الأمر الذي كاد أن يدفع الأتراك إلى عملية عسكرية كبيرة للغاية الأيام الماضية، ما أدى إلى تهديد مباشر من الرئيس ترامب بأن واشنطن ستدمر الاقتصاد التركي، حال حدوث تلك العملية، ما أدى إلى تراجع مؤقت عن الحل العسكري بالنسبة لتركيا، ولكن تبقى الخلافات قائمة ومستمرة، ولا حل جذريا في الأفق بعد الانسحاب الأمريكي. هنا وقبل أيام أيضاً قال الرئيس التركي أردوغان: إنه بحث مع الرئيس ترامب مسألة إقامة تركيا منطقة آمنة في سوريا خالية من الجماعات المسلحة، مضيفا: إن أمامنا الآن العناصر الإرهابية في منبج، وفي شرق الفرات شمال سوريا، فضلاً عن بقايا داعش … هل لقي هذا المقترح قبولاً من قوات حماية الشعب الكردية؟ الواقع يشير إلى أنها رفضت رفضاً جامعاً مانعا لطرح أردوغان معتبرة أن سيادتها على ترابها الإقليمي أمر لا شأن لأحد به سواها، وأن أي اقتراب مسلح من حدودها سيعني عدوانا على حليف لواشنطن. والمعروف أن تركيا طردت مقاتلي وحدات حماية الشعب من منطقة عفرين السورية ومناطق أخرى غربي نهر الفرات خلال حملات عسكرية خلال العامين الماضيين، وتهدد الآن باجتياح المناطق الواقعة شرقي النهر، وهو الأمر الذي تجنبته حتى الآن لأسباب في مقدمتها تحاشي المواجهة المباشرة مع القوات الأمريكية …. هل المأزق سوري فقط أم أمريكي أيضاً؟ تخبرنا التوازنات الاستراتيجية على الأرض، بأن الرئيس ترامب واقع بين المطرقة والسندان، فمن جهة لا يريد أن تسوء العلاقات بين واشنطن وأنقرة، إلى درجة أسوأ مما هي الآن، وقد مرت هذه العلاقة بمنحنيات غاية في السوء مسبقاً أثناء العام الماضي، ولا تزال الملفات عالقة بين الجانبين من جراء محاولة الانقلاب التي جرت قبل عامين، ولا تزال تركيا تطالب بتسليم «جولن» الداعية التركي المقيم في أمريكا، الأمر المرفوض من إدارة ترامب، ومن ناحية ثانية لا تود واشنطن أن تبدو من جديد في صورة الحليف الذي يتخلى عن أصدقائه، في وقت الشدة والعوز، وقد شهد العالم برمته على الدور الفاعل الذي لعبه الأكراد في قتال داعش، واستبدالهم في المقاومة، إلى جانب القوات الأمريكية، والآن فإن تركيا أيضاً ترفض رفضاً باتاً أن تترك القوات الأمريكية أسلحتها للأكراد على الأرض، ولا حل وسط يبدو في الأفق حتى الساعة … ماذا أيضاً من تداخلات وتشابكات وتوازنات مختلفة على الأرض؟ تبقى هناك خيوط وخطوط ممتدة من سوريا إلى العراق، ونحن نعلم علم اليقين أن واشنطن عازمة على البقاء لأجل غير مسمى في العراق، ولهذا باتت المخاوف تهيمن على عقول وقلوب العراقيين، من أن يكون الانسحاب الامريكي من سوريا، بداية لزيادة عديد القوات الأمريكية في العراق. على سبيل المثال تحدثت كتل برلمانية عراقية عدة الأيام الماضية محذرة من دخول القوات الأمريكية من سوريا إلى العراق، ووصفت الأمر بالمشهد الخطير جداً، سيما أن مجلس النواب العراقي ماض في إقرار قانون إخراج القوات الأجنبية بأقرب وقت ممكن»، فماذا سيكون مستقبل هذا الانسحاب بالنسبة للعراق؟ هذه حلقة جديدة مثيرة، سيما أن العراقيين قد سئموا من بقاء القوات الأمريكية على أراضيهم، رغم أن الأمريكيين لا يخططون لانسحاب قريب بالمرة من العراق، بل لأن حضورهم له علاقة جذرية بمخططات وإستراتيجيات واشنطن للقرن الحادي والعشرين المتصلة بالامتداد والاستدارة نحو آسيا. ضمن التوازنات المزعجة لواشنطن بنوع خاص التي يتساءل المحللون السياسيون مستغربين كيف لا يقيم لها ترامب وزناً؟ الدور الروسي في سوريا بشكل خاص وفي الخليج العربي والشرق الأوسط بنوع عام، ذلك أن الانسحاب الأمريكي سيخلق لا شك فضاءات جديدة سوف تتمدد فيها موسكو في سوريا، وما حولها، ويعيد لها المزيد من النفوذ والتأثير على مجريات الأمور هناك، وعطفاً على ذلك فإن الانسحاب من سوريا في هذا التوقيت الحساس ربما يعيد إشكالية الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011، وما تبع ذلك من تنامي وتعاظم للقوى الإرهابية على الأرض. هناك على الأرض في سوريا معضلة مؤكدة سوف تنشأ من غياب القوات الأمريكية، ومن سيحل محلها، إذ تنادي موسكو بأن القوات السورية هي التي يجب أن تفعل ذلك، وهو مقترح ترفضه تركيا والولايات المتحدة على حد سواء، وبات السؤال عن البديل يقلق الجميع. حتى الأسبوع الماضي كان الحديث عن إرهاصات لفكرة تتوالد في عقول الأمريكيين، وقد طرحت من قبل بشكل موارب، لكن جولة وزير الخارجية الأمريكي «مايك بومبيو»، قد أعادتها إلى السطح من جديد، وهي فكرة «الناتو العربي»، أو «القوات العربية المشتركة» التي يمكن أن تحل محل القوات الأمريكية. لكن الفكرة ليست يسيرة، وأكلافها عالية جداً، ولن يكون الدم العربي عند أهله أرخص من الدم الأمريكي، حتى لو دفع في المقابل أموال العالم كله، ثم وهذا هو الأهم هل ستكون تلك القوات أدوات للحرب بالوكالة مع تركيا اليوم، وربما مع دول أخرى لا تقيم واشنطن معها سلاماً في الغد؟ في كل الأحوال أثبتت رغبة ترامب في الانسحاب من سوريا على هذا النحو أن التعايش مع الولايات المتحدة في الآونة الحالية أمر له أهميته؛ ذلك لأنها قوة فاعلة على الأرض وغيابها دفعة واحدة يمكن بدوره أن يؤدي إلى إحداث فراغات استراتيجية، تصيب الجميع، بمن فيهم هي نفسها بأذى بالغ، والغد سيحسم ما يتم تداوله اليوم بالهمس في المخادع.