زاوية لغوية :المسألة الأولى : تقديم الفاعل على الفعل
الخميس / 2 / رمضان / 1442 هـ - 19:38 - الخميس 15 أبريل 2021 19:38
22 (1)
يقدمها د. إسماعيل العوفي -
المعلوم أن الاسم المرفوع إن تقدم على الفعل فهو مبتدأ، وما بعده خبر له؛ وبهذا افترقت الجملة الاسمية عن الجملة الفعلية، ونسب جماعة من النحاة إلى الكوفيين، أو بعض الكوفيين، أو الكوفي، أو أهل الكوفة القول بجواز تقدم الفاعل على الفعل، فقولهم: (محمد قام) يكون فيه محمد فاعلا، وقام فعلا، وزعموا أن أصحاب هذا القول استشهدوا لصحة مذهبهم بشواهد، أشهرها البيت المنسوب إلى الزباء:
ما للجمالِ مشيُها وئِيدًا
أجندلًا يحمِلنَ أم حديدًا
فزعموا أن مشيها بالرفع فاعل عند الكوفيين لـ(وئيدا)، فهذا هو الشاهد الذي عولوا عليه، وأخذ يذكره كثير من نحاة القرن السابع كابن عصفور (ت:669هـ)، وابن مالك شاهدا على الجواز، وساق ابن مالك في شرح التسهيل شواهد أخرى يمكن أن يحتج بها لهذا المذهب، وهي قول امرئ القيس:
فظلَّ لنا يومٌ لذيذٌ بنعمَةٍ
فَقِلْ في مقِيلٍ نَحْسُهُ مُتغيِّبِ
فكلمة (نحسُه) فاعل لـ(متغيب)
وقول الشاعر عدي بن زيد العبادي:
فمتى واغِلٌ ينُبْهُمْ يحيُّو
هُ وتُعطَفْ عليه كأسُ السَّاقِي
فكلمة (واغل) فاعل للفعل (يَنُبهُم)
وقول المرار الفقعسي:
صددْتِ فأطولْتِ الصُّدُودَ وقلَّمَا
وِصالٌ على طولِ الصُّدودِ يدومُ
فكلمة (وصال) فاعل للفعل (يدوم)
وزاد الشاطبي شواهد أخرى ذكرها استشهادا للجواز وهي قول النابغة:
ولا بُدَّ من عَوجَاءَ تَهْوِي براكبٍ
إلى ابنِ الجِلاحِ سيرُهَا الليلَ قاصِدِ
فكلمة (سيرها) فاعل لاسم الفاعل (قاصد)
وقول امرئ القيس:
لمنْ زُحلُوقةٌ زَلُّ
بهَا العَينانِ تَنهَلُّ
فكلمة (العينان) فاعل للفعل (تنهل)، ولو لم يكن كذلك لقيل (تنهلان)؛ لأن الضمير يلزم ظهوره في هذه الصورة.
وقد اعترض على صحة الاستشهاد بهذه الأبيات على جواز تقديم الفاعل على الفعل، وأذكر اعتراضاتهم على كل بيت على حدة:
1. قول الشاعر
ما للجمالِ مشيُهَا وئِيدا
أجندَلًا يحْمِلْنَ أم حَدِيدا
ذكر في (مشيها) الرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر، والتقدير (يظهر وئيدا) وذلك كقولهم: حكمك مسمطا، وذكر في (مشيَها)، النصب على المصدر أي: تمشي مشيها، وذكر في (مشيها) الجر على البدل، وجره هو المشهور، وقد قيل الدليل متى طرقه الاحتمال سقط به الاستدلال، أو ضعف به الاستدلال، وهناك من يشكك في صحة هذا البيت، وفي نسبته للزباء التي يشوب قصتها شكوك، فمن روى البيت إليها؟!
وهذا البيت أكثر ما عول عليه في جواز تقديم الفاعل على الفعل، ونسبته إلى الكوفيين، على أن الكوفيين يؤخذ نحوهم في غالبه عن كتابين:
أولهما: معاني القرآن للفراء، ولم يذكر وجه الرفع في (مشيها)، بل ذكر الجر على البدل، ولو كان في البيت شاهد عند الكوفيين على جواز تقديم الفاعل على الفعل لذكره الفراء (ت:207هـ)؛ لأن هذه المسألة، مسألة غاية في الأهمية.
وثانيهما: شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات لابن الأنباري (ت:328هـ)، وبتتبع فهرس الأبيات لهذا الكتاب لا أجد ذكرا لهذا البيت؛ بل إن هناك من الدارسين من عمل دراسة على نحو ابن الأنباري من خلال شرحه للقصائد السبع، ولم يذكر الدارس - وهو الدكتور عبد المقصود محمد عبد المقصود- في بحثه (ملامح التفكير النحوي عند ابن الأنباري من خلال كتابه شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات) هذه المسألة، وهي مسألة جواز تقديم الفاعل على الفعل عند ابن الأنباري خصوصا، أو عند الكوفيين عموما.
2. قول الشاعر:
فظلَّ لنا يومٌ لذيذٌ بنعمَةٍ
فَقِلْ في مقِيلٍ نَحْسُهُ مُتغيِّبِ
يحتمل أن أصل (متغيب) متغيبي بياء المبالغة، وخففت الياء كقولهم: دوّار في دوّاريّ، ومنه قول الشاعر:
زَعَمَ البَوارِحُ أنّ رِحْلَتَنا غَداً
وبذاكَ خبّرنا الغدافُ الأسودِ
لا مرحباً بغدٍ، ولا أهلاً بهِ
إنّ كانَ تَفريقُ الأحبّة ِ في غَدِ
ويحتمل أن (مقيل) اسم مفعول من قِلته بمعنى أقلته أي: فسخت عقد مبايعته، واستعمل بمعنى (متروك) مجازا.
3. قول الشاعر:
فمتى واغِلٌ ينُبْهُمْ يحيُّو
هُ وتُعطَفْ عليه كأسُ السَّاقِي
فكلمة (واغل) فاعل للفعل ينبهم؛ لأنه إن قيل إنه فاعل لفعل مضمر قبله دل عليه المتأخر للزم منه عمل أداة الجزم في فعلين، وليس الثاني تابعا للأول قبل جواب الشرط، وهما الفعل المضمر والفعل المظهر، وأجيب أن المضمر في حكم المعدوم؛ وعليه فلا عمل في فعلين بل في فعل واحد، بل لو ذكر الأول، وذكر الثاني بعده توكيدا فلا مانع، فرفع المحذور، فعدم وجود محذور في تعليق الذهن بهما، وأحدهما غير منطوق به، ولا محكوم بجواز النطق به أحق وأولى.
4. قول الشاعر:
صددْتِ فأطولْتِ الصُّدُودَ وقلَّمَا
وِصالٌ على طولِ الصُّدورِ يدومُ
فكلمة (وصال) فاعل للفعل (يدوم)، وأجيب أن (وصال) فاعل لفعل محذوف، دل عليه المذكور، فالتقدير يدوم وصال؛ لأن قلما لا يقع بعدها إلا الفعل.
وقد نسب الشاطبي إلى سيبويه أنه يقول: إن الفاعل في هذا البيت متقدم ضرورة، والناظر في كلام سيبويه لا يجد فيه هذا القول عنه، بل غاية ما في كلامه أن أصل الكلام وقلما يدوم وصال إذ يقول: «وإنما الكلام: وقلّ ما يدوم وصال» فكلامه يحتمل أن (وصال) فاعل لفعل محذوف دل عليه المذكور، وذكر في موضع آخر: «وقد يجوز في الشعر تقديم الاسم قال:
صددْتِ فأطولْتِ الصُّدُودَ وقلَّمَا
وِصالٌ على طولِ الصُّدورِ يدومُ»
فغاية ما في هذا البيت جواز تقديم الاسم في الشعر، وليس فيه تصريح بأن (وصال) فاعل، فجعله مبتدأ محتمل، وعليه حملهُ محقق كتاب أبيات سيبويه.
وفي المقتضب جواز ذلك للضرورة أي: مجيء الاسم بعد قلما، والأصل أن قلما للفعل، وليس في كلامه تصريح أن (وصال) فاعل مقدم، فمن المحتمل أنه يحمله على أنه فاعل لفعل محذوف، يدل عليه المذكور، أو أنه مبتدأ، فالجواز في الشعر الذي يذكره سيبويه، والضرورة التي يذكرها المبرد هي مجيء الاسم بعد قلما، وليس تقدم الفاعل على الفعل، مع العلم أنهما لم ينسبا إلى الكوفيين شيئا في هذه المسألة، والذي ذكره ابن أبي الربيع قريب من كلام سيبويه في أنه يجوز في الشعر تقديم الاسم، ولكن ابن أبي الربيع صرح أنه لا يبعد أن يتقدم الفاعل في ضرورة الشعر فقال: «فهلا قدمت العرب الفاعل على الفعل؟ قلت: لا يبعد أن يوجد ذلك في ضرورة الشعر ويكون هذا وجهه وقد روي:
ما للجمالِ مشيُهَا وئِيدا
أجَنْدَلا يحمِلْنَ أم حَدِيدا
برفع مشيها فيمكن أن يكون من هذا».
وذكر ابن هشام أن وجه الضرورة أن حقها أن يليها الفعل صريحا، والشاعر أولاها فعلا مقدرا، وأن (وصال) مرتفع بـ(يدوم) محذوفا مفسرا بالمذكور، وقيل وجهها أنه قدم الفاعل... وقيل: وجهها أنه أناب الجملة الاسمية عن الفعلية كقوله:
فهلا نفس ليلى شفيعها.
فهذا التأويل يدل على أن ابن هشام لا يتوجه له في قول سيبويه شيء مقطوع به، فكلام سيبويه ليس فيه دلالة على أنه يجوز تقديم الفاعل على الفعل في ضرورة الشعر.
5. قول الشاعر:
ولا بُدَّ من عَوجَاءَ تَهْوِي براكبٍ
إلى ابنِ الجِلاحِ سيرُهَا الليلَ قاصِدِ
احتمل أن (سيرها) فاعل لكلمة (قاصد)، وأجيب أن أصل (قاصد) قاصديّ على سبيل
المبالغة على حد قول الشاعر:
أطربًا وأنتَ قُنسريُّ
والدهرُ بالإنسانِ داوديُّ
فحذفت ياء النسب، فبقيت الدال مكسورة على حد قول الشاعر:
زَعَمَ البَوارِحُ أنّ رِحْلَتَنا غَداً
وبذاكَ خبّرنا الغدافُ الأسودِ
لا مرحباً بغدٍ، ولا أهلاً بهِ
إنّ كانَ تَفريقُ الأحبّة ِ في غَدِ
6. قول الشاعر:
لمنْ زُحلُوقةٌ زَلُّ
بِهَا العَينَانِ تَنْهَلُّ
احتمل أن (العينان) فاعل للفعل (تنهل)؛ لإفراده، والجواب أن (العينان) أفردتا؛ لأنهما في تلازمهما في حكم الشيء الواحد، ومن عادة العرب أنها تعامل هذا النوع من المثنى معاملة المفرد كقول الشاعر:
وكَأَنَّ فِي العَيْنَيْنِ حُبَّ قَرَنْفَلِ
أو سُنْبُلًا كَحَلَتْ بِهِ فَانْهَلَّتِ
ولم يقل: كحلتا به فانهلتا.
يتبع اليوم التالي ...