روضة الصائم

خطبة الجمعة: المسلم عليه أن يجدد أيام الشهر المبارك بتوبة صادقة إلى الله

1214355
 
1214355
حتى تكون النفس مهيـأة للسمو لمدارج الكمال والقلب مهيـأ للطهارة - الصيام ليس مجرد الكف عن الأكل والشرب فحسب وإنما عن كل المعاصي الظاهرة والباطنة - تحث خطبة الجمعة لهذا اليوم المسلم إلى أن يجدد أيام الشهر المبارك بتوبة صادقة إلى الله، حتى تكون النفس مهيـأة للسمو لمدارج الكمال، والقلب مهيـأ للطهارة من كل درن، ويكون صيام المرء وقيامه، وقرآنه وذكره، لها سبيل إلى القبول، مبينة أن الله عز وجلّ لا يقبـل من المـرء عملا إن كان قلبـه متعلقا بالمعصيـة، وصحيفتـه لم تتطهـر من دنس الخطيئـة، فعلى المؤمـن أن يكون دائما مكثر من الاسـتغفـار، ومجدد للتوبة والإنابـة. وأوضحت أن الصيام الذي شرعه الله سبحانه وتعالى لخلقه، والذي يؤدي إلى رضوانه، ليس هو مجرد الكف عن الأكل والشرب فحسب، إنما هو الصيام الذي تكف فيه النفس عن كل المعاصي الظاهرة منها والباطنة، والذي تصان فيه جميع الجوارح من الوقوع في العصيان، والذي تحاسب فيه النفس، ويقوم فيه السلوك.. وهنا نص الخطبة كاملا والذي جاء تحت عنوان “الصـيام غراس التــقوى”: الحمد لله رب العالمين، أوصى عباده بالتقوى ووضح لهم سبيلها، وجعل الجنة مثوبة من فاز بنوالها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل رمضان للخيرات منزلا، وللبركات موطنا، ونشهد أن محمدا عبدالله ورسوله، خير العابدين الزاهدين، وسيد الأولياء المتـقين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد، فإني أوصيكم ونفسي - عباد الله - بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله لكم، ولمن كان قبـلكم، يقول ذو الجلال والإكرام: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا)، واعلموا - عباد الله - أن التقوى هي اتقاء سخط الله تعالى بفعـل أوامره وترك نواهيه، إنها ملاك الخير كله في الدنيا والآخرة، فهي معيار الكرامة، وميزان التفاضل عند الله عز وجل، إذ يقول سبحانه: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، ولأجـل ذلك كانت التقوى هي الغاية السامية التي تؤدي إليها العبادات جميعها، فما أمر الله سبحانه خلقه بعبادته إلا ليفوزوا بالتقوى، يقول سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فالفرائض باختلافها، والعبادات بأنواعها، غايتها التقوى، التي ينالها العابدون الطائعون؛ فتفيض عليهم التقوى سموا في السلوك، ورقيا في الخلق، وزكاء في النفس، ووفاء بالحقوق، ورعاية للأمانة، فيلبسون بها رداء الطمأنينة والكرامة في هذه الدنيا، ولهم بها رداء السعادة والتكريم يوم الدين. يقول عز وجل: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). ومن تلك الفرائض والعبادات التي تحـقق للمرء التقوى - إخوة الإيمان - صيام رمضان، يقول ذو الجلال والإكرام آمـرا ومـعللا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، أي لأجـل أن تتقوا. أولي الألباب والتقى: إن الصيام يتعلق بألصق الشهوات إلى نفس الإنسان، وبألزم الضروريات لحياته، فيحول بينه وبين طعامه وشرابه وشهوته، ولا يكون عليه في ذلك رقيب من البشر إلا نفسه، فتتحقق له الرقابة الذاتية في أكمل صورها ومعانيها، مع إيمانه التام باطلاع الله عليه، ومراقبته له، فيتعمق فيه الشعور بوجود الله، وإحاطته بكل حركة وسكنة منه، فيحيا في المرء ضميره، وتزكو فيه نفسه، وتسمو به روحه، ولا يكاد يوجد هذا المعنى الخفي، والأثر العميق إلا في الصيام، لذا كان له بهذا ميزة عن غيره من العبادات، إذ جاء في الحديث القدسي: كل عمل بن آدم له، الحسنة بعشر أمـثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجـلي”. ومع ذلك يربي الصيام المرء على قوة الإرادة، الإرادة في الثبات على الحق رغم المغريات، والإرادة في التغيير إلى الأفضل رغم العقبات، فالصائم بإرادته اسـتطاع أن يحرم نفسه من طلباتها ورغباتها، واسـتطاع أن يغير نظام حياته وعاداته اليومية في شهر صيامه، فيصبح بتلك الإرادة حرا لا تقهره عاطفة، ولا تأسره شهوة، ولا يعبد هوى، ولا تكاد تتحقق هذه المنزلة من الإرادة في شيء غير الصوم، لذا كان من وصية المصطفى للشباب قوله: “يا معشر الشباب، من اسـتطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يسـتطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء”. وبهذا يفوز الصائمون ببلوغ التقوى، التي تصلح طباعهم، وتنقي خصالهم، وتهذب سلوكهم، وتصحبهم في سائر أيامهم وشهورهم. أيها المؤمنون: إن الصيام الذي شرعه الله سبحانه وتعالى لخلقه، والذي يؤدي إلى رضوانه، ليس هو مجرد الكف عن الأكل والشرب فحسب، إنما هو الصيام الذي تكف فيه النفس عن كل المعاصي الظاهرة منها والباطنة، والذي تصان فيه جميع الجوارح من الوقوع في العصيان، والذي تحاسب فيه النفس، ويقوم فيه السلوك، لذا نجد المصطفى  يقول: ((لا إيمان لمن لا صلاة له، ولا صلاة لمن لا وضوء له، ولا صوم إلا بالكف عن محارم الله))، ويقول : (( ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث))، وفي هذا المعـنى يقول الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع عنك أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء). إن هناك فئة من الناس - عباد الله - لم يفقهوا من الصيام إلا ظاهره، وضيـعوا منه حقيقته وجوهره، وما جعل امتناع المرء عن طعامه وشرابه إلا ليؤدي به إلى ذلك الجوهر، ويعينه على بلوغه، فمن امـتنع عن الطعام والشراب مع انكباب على المحرمات واقتراف للموبقات، فلا صيام له، وليس له من حظ إلا الجوع والعطش، يقول رسول الله : ((رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر))، ويقول: ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)). معاشر المؤمنين: ها أنتم في شهر رمضان المبارك، وقد غدا باب الريان لكم مفتوحا، وموائد الرحمة والغفران لكم ممدودة، فما عساكم صانعين، وما عسى الفرد منا أن يكون صيامه، أيكون صيام الغافلين اللاهين، أم صيام البررة المقربين؟. إن البدايات - أيها الأحبة - تحدد طبيعة الطريق، وترسم ملامح النهايات، فاجعلوا بداياتكم في شهركم للتقوى محققة؛ لتكون نهاياتكم فيه مشرقة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم. *** *** *** الحمد لله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدا رسول الله،  وعلى آله وصحـبه ومن والاه. أما بعد، فاعـلموا - أيها المؤمنون - أن المسلم بحاجة إلى أن يجدد أيام الشهر المبارك بتوبة صادقة إلى الله، توبة من كل الخطايا وجميع الذنوب، ما علم منها وما لم يعـلم، حتى تكون النفس مهيـأة للسمو لمدارج الكمال، والقلب مهيـأ للطهارة من كل درن، ويكون صيام المرء وقيامه، وقرآنه وذكره، لها سبيل إلى القبول، فإن الله عز وجل لا يقبـل من المـرء عملا إن كان قلبـه متعلقا بالمعصيـة، وصحيفتـه لم تتطهـر من دنس الخطيئـة، والمؤمـن دائما مكثر من الاسـتغفـار، ومجدد للتوبة والإنابـة، يقـول الله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ). وبهذا تتحقق منزلة التقوى، التي هي غاية الصيام السامية.فاتقوا الله - عباد الله -، في شهركم الكريم، واجـعلوا لكم منه ذخرا عند ربكم، واجعلوا أيامه فيما يرضيه سبحانه، فقد جعله لكم موطن رحمة ومغفرة، يرفع فيه درجاتكم، ويعـفو فيه عن خطاياكم، (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين، وقائد الغر المحجلين، فقد أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في محكم كتابه حيث قال عز قائلا عليما: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا). اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت وسلمت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وأرض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعا مرحوما، واجعل تفرقنا من بعده تفرقا معصوما، ولا تدع فينا ولا معنا شقيا ولا محروما. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ووحد اللهم صفوفهم، وأجمع كلمتهم على الحق، واكسر شوكة الظالمين، واكتب السلام والأمن لعبادك أجمعين. اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت سبحانك بك نستجير، وبرحمتك نستغيث ألا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر، وأصلح لنا شأننا كله يا مصلح شأن الصالحين. اللهم ربنا احفظ أوطاننا وأعز سلطاننا وأيده بالحق وأيد به الحق يا رب العالمين، اللهم أسبغ عليه نعمتك، وأيده بنور حكمتك، وسدده بتوفيقك، واحفظه بعين رعايتك. اللهم أنزل علينا من بركات السماء وأخرج لنا من خيرات الأرض، وبارك لنا في ثمارنا وزروعنا وكل أرزاقنا يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعاء. عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).