تدبر القرآن الكريم
الجمعة / 4 / رمضان / 1440 هـ - 23:00 - الجمعة 10 مايو 2019 23:00
الدكتور يوسف بن إبراهيم السرحني -
في شهر رمضان يُقبل المسلمون على تلاوة القرآن الكريم؛ طمعًا في الثواب والأجر حيث تضاعف الحسنات، ولا ريب أن تلاوة القرآن الكريم من أجلّ الطاعات وأسمى العبادات، فالقرآن الكريم كتاب مبارك عظيم؛ جليل القدر، رفيع الشأن، كثير الخير، عميم العطاء؛ ففي القرآن الكريم من البركة والخير والعطاء فوق ما يتصور، وأكثر مما يرتجى؛ أنزله الله تعالى ليتدبر الناس آياته، ولينتفع بهديه أولو الألباب؛ وهم أصحاب العقول الراشدة، والقلوب الحية الواعية. إن القرآن الكريم لم ينزل ليتلى ويحفظ فحسب، وإن كانت تلاوته وحفظه عبادة يتقرب بها العبد إلى خالقه سبحانه وتعالى، وإنما أنزل ليعمل به ويطبق، فهو منهج حياة بجانب أنه معجزة؛ فالمسلمون جميعًا ملزمون بالعمل به، وغير ملزمين جميعًا بتلاوته وحفظه كله؛ لذا فهناك من الصحابة من يحفظ القرآن الكريم كله، ومنهم من يحفظ بعض الأجزاء، ومنهم من يحفظ بعض السور، ومنهم من يحفظ السورة والسورتين، لتأدية الصلاة، لكنهم جميعًا يعملون بالقرآن، ويطبقونه في حياتهم، والعمل بالقرآن لا يتحقق بالتلاوة والحفظ، وإنما يتحقق بالتدبر في آياته، فالقرآن الكريم هو أحسن ما أنزل إلينا من ربنا، وهو أعدل وأقوم المناهج، يقول الله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} سورة الزمر الآية(55) ويقول تعالى: {إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} سورة الإسراء الآية(9).
لقد يسر الله تعالى تدبر القرآن الكريم، يقول الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} سورة ص الآية(29) ويقول الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} سورة القمر الآية (17) وقد تكرر ذكر هذه الآية في السورة نفسها في الآيات(40،32،22) ومعنى {يسرنا القرآن} أي: سهلناه وهوناه.
فبإمكان كل مسلم أن يغترف من خير القرآن بحسب استطاعته، ويقول تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} سورة محمد الآية (24).
فالقرآن الكريم أشبه بالبحر؛ كل من يدنو ويقترب منه ينتفع بخيره؛ فمن يصل إلى الشاطئ يغتسل فيه ويتوضأ منه، ومن يبحر بداخله ويلقي بشباكه؛ يأخذ من أسماكه، ومن يغوص في أعماقه؛ يستخرج من لآلئه، ومن يدرس علوم البحر ويبحث في أسراره ويتأمل في دقائقه؛ يصل إلى نتائج عظيمة، ومعلومات جليلة تنفع البشرية، فكذلك القرآن الكريم؛ كلٌ ينتفع من خيره بقدر ما يبذله من جهد فيدراسته وتدبره، فالقرآن الكريم له أثر عظيم جليل على الواقع، فهو نور هداية، ومنهج حياة، فمثلًا من يقرأ آيات البر بالوالدين، ويقف عندها، وينظر إلى حاله كيف هو مع والديه؟ ويبرهما، فهو ممن يتدبرون القرآن، وينتفعون بخيره.
ومن يتلو آيات الصلاة، ويقف عندها، وينظر إلى نفسه كيف حاله مع الصلاة؟ ويحافظ عليها، فهو ممن يتدبرون القرآن، وينتفعون بخيره، ومن يقرأ آيات الزكاة والإنفاق، ويقف عندها، وينظر إلى نفسه كيف هو مع الزكاة والإنفاق؟ ويخرج زكاة ماله وينفق مما آتاه الله، فهو ممن يتدبرون القرآن، وينتفعون بخيره، ومن يقرأ آيات صلة الرحم والأقربين، ويقف عندها، وينظر إلى نفسه كيف هو مع أرحامه وأقاربه؟ ويصلهم، فهو ممن يدبرون القرآن، وينتفعون بخيره، ومن يقرأ آيات الربا، ويقف عندها، وينظر إلى نفسه في تعاملاته المالية، ويتجنب الربا ويبتعد عنه، فهو ممن يتدبرون القرآن، وينتفعون بخيره. نعم؛ هناك آيات وهي كثيرة بحاجة إلى علماء راسخين لاستخراج معانيها ودلالاتها، وبيان أحكامها وأسرارها، وإبراز عجائبها ودقائقها، وإظهار وجوه إعجازها، وهذا هو دور العلماء المتبحرين من أهل الذكر.
لا ريب أن الذين يقرؤون القرآن ولا يعملون به؛ لعدم تدبرهم في آياته، يكون القرآن حجة عليهم، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} سورة الصف الآيتان (2-3) وقد صور الله تعالى هؤلاء بالحمار الذي يحمل الكتب، ولا ينتفع بما فيها من علم، بل يحمل ثقلها، يقول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّـهِ ۚ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} سورة الجمعة الآية (5) ولقد مثَّل النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة، وبالمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة، ومثّل المنافق الذي يقرأ القرآن ولا يعمل به كالريحانة، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن ولا يعمل به كالحنظلة، فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ؛ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ؛ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ؛ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرّ».