زاوية لغوية :تقدم الفاعل على الفعل 2
الجمعة / 3 / رمضان / 1442 هـ - 15:32 - الجمعة 16 أبريل 2021 15:32
22 (1)
بعد عرض شواهد القول بجواز تقدم الفاعل على الفعل وعرض الاعتراضات عليها، أذكر جملة من الأمور زيادة في التعليق على هذه المسألة: أولها: تردد النحاة في نسبة هذا القول إلى الكوفيين فمرة ينسبونه إلى الكوفة، ومرة إلى أهل الكوفة، ومرة إلى الكوفيين، ومرة إلى بعض الكوفيين، وهذا التردد في النسبة يحدث شيئا في النفس، ويدل على عدم يقين في نسبة هذا القول إلى الكوفيين. ثانيها: لم أجد ذكرا لهذا القول صراحة قبل طبقة ابن مالك، فابن عصفور (ت:669) نسبه إلى أهل الكوفة، وابن مالك (ت:672) ذكر نسبة هذا القول إلى بعض الكوفيين، واحتمل ابن أبي الربيع عدم بعد وجود تقديم الفاعل على الفعل في ضرورة الشعر من غير نسبته إلى أحد، وفي كلام أبي البركات إشارة إلى هذا القول إذ يقول: «ذهب الكوفيون إلى أن إذا تقدم الاسم المرفوع بعد إن الشرطية نحو قولك (إن زيد أتاني آته) فإنه يرتفع بما عاد إليه من الفعل من غير تقدير فعل»، ولكن ليس فيما نقله أبو البركات عن الكوفيين ما يدل على أنهم يسمون الاسم المتقدم فاعلا، فقوله (يرتفع بما عاد إليه من الفعل) معناه أن المبتدأ يرتفع بالخبر، فالكوفيون يقولون: إنّ رافع المبتدأ الخبر، والكلام ظاهر في أنّ في الفعل ضميرا هو الفاعل يدل عليه قوله: 'بما عاد إليه' وهذه المسألة ظاهرة بصورة أوضح في كلام ابن الأنباري في قول زهير: «لدى أسدٍ شاكِي البَنَانِ مُقَاذِفِ لهُ لِبَدٌ أظفارُهُ لمْ تُقَلَّمِ ... وأظفاره رفع بما عاد من تقلم، والذي في تقلم اسم ما لم يسم فاعله» فقوله:(رفع بما عاد من تقلم). أي: أظفاره مرفوع بالخبر جريا على رأيهم في أن الخبر رافع المبتدأ، ثم نص على أن نائب الفاعل ضمير إذ قال: 'والذي في تقلم اسم ما لم يسم فاعله'. والذي ألاحظه أن كلام الكوفيين يحمل على غير مرادهم، والذي يظهر أن الاسم المرفوع المتقدم على الفعل مبتدأ خبره ما بعده، وهذا القول هو عين القول المنسوب إلى الأخفش. والمعول عليه في أخذ نحو الكوفيين معاني القرآن للفراء، وشرح القصائد السبع الطوال الجاهليات لابن الأنباري، فأما معاني القرآن فقد ذكر فيه الفراء بيت الزباء، وقال: «فلو خفض قارئ (الأعمال) فقال: (أعمالِهم كرماد) كان جائزا، ولم أسمعه في القراءة، وقد أنشدني بعضهم: ما للجمالِ مشيُهَا وئِيدا أجندَلا يحمِلنَ أم حدِيدا أراد ما للجمال ما لمشيها وئيدا»، وهذا هو الشاهد الذي عولوا عليه في نسبة هذا القول إلى الكوفيين، فلو كان الأمر ثابتا عند الكوفيين لذكره الفراء، والظاهر أن هذا البيت، وهذه المسألة ليس لها ذكر عند ابن الانباري في شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، ومن أجرى دراسة على نحو ابن الأنباري لم يذكر هذه المسألة أصلا مما يدل على عدم ذكرها عند ابن الأنباري. ثالثها: يدل على عدم صحة نسبة هذا القول للكوفيين أن الكوفيين يعربون الاسم المتقدم على الفعل مبتدأ في كتبهم، ويقدرون بعد الفعل ضميرا يكون فاعلا للفعل، ويمكن عرض مواضع من كلامهم تشهد بصحة ذلك: 1) قال ابن الأنباري في قول زهير: لدى أسدٍ شاكِي البنانِ مقاذفٌ له لِبَدٌ أظفارُهُ لمْ تُقَلَّمِ «... وأظفاره رفع بما عاد من تقلم، والذي في تقلم اسم ما لم يسم فاعله» فقوله:(رفع بما عاد من تقلم) أي: أظفاره مرفوع بالخبر جريا على رأيهم في أن الخبر رافع المبتدأ، ثم نص على أن نائب الفاعل ضمير حيث قال: «والذي في تقلم اسم ما لم يسم فاعله. 2) قُولا لبوصَانَ عبيدِ العصَا ما غرَّكُمْ بالأسَدِ الباسِلِ قال ابن الأنباري'... وما استفهام مرفوعة بما عاد من غرك والباء صلة غركم» أي: مبتدأ رفعه الخبر جريا على مذهبهم وقوله: 'مرفوعة بما عاد' يدل على وجود ضمير في غركم هو الفاعل وليس كلمة (ما). 3) إذا ما الثُّرَيَّا في السماءِ تَعرَّضَتْ تَعَرَضَ أثناءِ الوِشاحِ المفصَّلِ قال ابن الأنباري: «... والثريا مرتفعة بما في تعرضت»، فنص أن في تعرضت ضميرا بقوله: «مرتفعة بما في تعرضت»، والضمير هو الفاعل، والثريا مبتدأ مرتفع بالخبر جريا على مذهبهم. 4) والذي يدل قطعا على ما ذهبت إليه ما جاء عن إمام أهل الكوفة ثعلب (ت:291هـ) في مجالس ثعلب في قولهم: (عبد الله حدثني وعمرو)، قال: «يكون نسقا على ما في حدثني ولا يكون على الأول»، فكلامه صريح في أن فاعل حدثني ضمير، وكلمة عمرو معطوفة على ذلك الضمير، وليس على عبد الله. 5) كلام ابن سعدان (ت:231هـ) في مختصر النحو ظاهر في أن الفاعل لا يتقدم على الفعل، قال ابن سعدان: «وتقول في تأخير الفعل: زيد قام، والزيدان قاما، والزيدون قاموا، ثنيت (قام) وجمعته لأنه متأخر»، فكلامه ظاهر في أن الفاعل الضمير، وليس الاسم الظاهر المتقدم على الفعل، قال ابن سعدان قبل نصه المنقول: «واعلم أن الفعل إذا تقدم قبل الاسم فهو موحد وإذا تأخر بعد الاسم ثني وجمع». ولو كان الفاعل الاسم الظاهر لقيل في التثنية والجمع: الزيدان قام، والزيدون قام؛ فلما كان الفاعل ضميرا يعود إلى الاسم الظاهر ظهر في التثنية والجمع وعندما ذكر ابن سعدان أن حكم الفاعل رفع أبدا تقدم أو تأخر، والمفعول به نصب أبدا تقدم أو تأخر لم يذكر في صور ذلك تقدّم الفاعل على الفعل، قال ابن سعدان: «اعلم أن الفعل رفع أبدًا تقدم أو تأخر والمفعول به نصب أبدا تقدم أو تأخر تقول: دخل عبد الله دارك رفعت (عبد الله) لأنه فاعل، ونصبت (الدار) بإيقاع الفعل عليها تقول أرضى أباك كلامك» 6) نصّ ابن جني على أن الفاعل بمنزلة الجزء من الفعل ولذلك تحذف الجملة من الفعل والفاعل؛ لمشابهتها المفرد «وإنما تحذف الجملة من الفعل والفاعل لمشابهتها المفرد بكون الفاعل في كثير من الأمر بمنزلة الجزء من الفعل، نحو: ضربت ويضربان، وقامت هند وﱡﭐﲩﲪ ﲫ ﲬ ﱠ آل عمران: ١٨٦ وحبذا زيد، وما أشبه ذلك مما يدل على شدة اتصال الفعل بالفاعل، وكونه معه كالجزء الواحد». بل نصّ على أنه ليس في الدنيا مرفوع يجوز تقديمه على رافعه «وكما لا يجوز تقديم الفاعل على الفعل، فكذلك لا يجوز تقديم ما أقيم مقام الفاعل كضُرِب زيد، وبعد فليس في الدنيا مرفوع يجوز تقديمه». رأي جديد في مسألة تقديم الفاعل على الفعل: ذهب الدكتور مهدي المخزومي إلى أن الفاعل - فيما يظهر لي من كلامه - يتقدم على الفعل وجوبا إذا وقع بعد الاسم فعل أو وصف دال على التجدد إذ يقول: «... لأن المبتدأ لا يتميز عن الفاعل بمكانه، وإنما يتميز بما هو أعمق من هذا وأدق، يتميز بأنه يتصف بالمسند اتصافا ثابتا، ولا يتحقق هذا إلا إذا كان المسند اسما جامدا، أو وصفا دالا على الدوام، وإن الفاعل – وهو مسند إليه أيضا – إنما يتصف بالمسند اتصافا متجددا، ولا يتحقق هذا إلا أن يكون المسند فعلا، أو وصفا دالا على التجدد» وقد اعترض على هذا الرأي الدكتور فاضل السامرائي في كتابه (تحقيقات نحوية) بمثالين: الأول: (محمد أقبل أخوه)، فكلمة (محمد) في المثال مبتدأ قطعا؛ لأن فاعل الفعل (أقبل) (أخوه)، وليس (محمد)، وقد وقع بعد الاسم فعل، وليس اسما جامدا، أو وصفا ثابتا، وعليه فلا يصح مذهب الدكتور المخزومي. الثاني: (محمد طويلة يداه) فكلمة (يداه) في المثال فاعل قطعا مع أن المسند صفة ثابتة، ولا يمكن إعرابها خبرا لمحمد، ولا لطويلة لأن (يداه) مثنى، و(طويلة) مفرد. مما تقدم من العرض يتبين للباحث: 1. عدم صحة نسبة القول بجواز تقديم الفاعل على الفعل للكوفيين خلافا لما وقعت الإشارة إليه في كلام أبي البركات، وما اشتهر عند نحاة القرن السابع – بحسب اطلاعي-، ومن بعدهم. ويتبين عدم صحة ما ذهب إليه الدكتور مهدي المخزومي من وجوب إعراب الاسم المتقدم فاعلا إذا جاء بعده فعل أو صفة غير ثابتة.