أفكار وآراء

دولة عصرية قائمة على أسس اقتصادية صحيحة

د. الطيب الصادق - تعد مسيرة البناء والتنمية في سلطنة عُمان التي بزغ فجرها في 23 يوليو 1970 عندما تولى جلالة السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم في البلاد فريدة من نوعها وتتميز النهضة العمانية التي قاربت على نصف قرن من الزمان ببناء واقع عصري، يجمع بين الأصالة والمعاصرة وإقامة دولة عصرية حديثة قائمة على أسس اقتصادية صحيحة تحقق نمواً اقتصادياَ وتنمية شاملة ومستدامة وفق رؤية استراتيجية ومنهجية واضحة تعمل في إطار توفير مناخ من الأمن والسلام والاستقرار لضمان مستقبل باهر في جميع المجالات، ولا سيما في المجال الاقتصادي والتنموي الذي شهد خلال الفترة الماضية نهضة كبيرة قائمة على العدالة ومبادئ الاقتصاد الحر. لو نظرنا إلى المؤشرات الإحصائية للاقتصاد العُماني على مدار الـ49 عاما الماضية سنجد أن هناك طفرة ونهضة كبيرة وبلغة الأرقام التي لا تكذب ولا تتجمل تمكنت السلطنة في فترة وجيزة من تجاوز كل مظاهر الضعف التي مرت بها قبل عام 1970 وجاءت النتائج فوق التوقعات، وشهدت قطاعات الاقتصاد المختلفة نموا كبيرا حيث ارتكزت الاستراتيجية العمانية في مجال الاقتصاد على رؤية ثاقبة للقيادة السياسية خصوصا أنها أدركت ضرورة وضع خطط فعالة لتنويع مصادر الدخل وظهر ذلك جليا عند تراجع أسعار النفط في عام 1998، وتم التركيز على مجالات أخرى غير النفطية مثل الصناعة والسياحة والزراعة والخدمات وغيرهم من القطاعات وما يؤكد ذلك مؤشرات دليل التنمية البشرية الأخير الصادر في نهاية عام 2018م عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة الذي كان خير معبر عن هذه النهضة حيث حققت السلطنة معدلات مرتفعة محرزة تقدما بأربعة مراكز عن العام السابق عنه لتكون في المركز الـ48 عالميا من بين 189 دولة والخامس عربيا خليجيا. كما تم تصنيف السلطنة للمرة الأولى منذ إدراجها في التقرير ضمن الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة جدا وهو ما يؤكد علي أن السلطنة كانت تمضي في المسار الصحيح منذ سبعينات القرن الماضي، حيث أن هذا التقرير يقيس متوسط الإنجازات المحققة في البلاد من خلال ثلاثة أبعاد أساسية للتنمية البشرية يتمثل البعد الأول منها في حياة مديدة وصحية والثاني في اكتساب المعرفة بناء على تطوير التعليم ونشره وتجويده بينما يتمثل البعد الثالث في قياس مستوى المعيشة اللائقة، كما توقع المركز الوطني للإحصاء والمعلومات العماني أن يبلغ معدل النمو الاقتصادي في السلطنة في العام الجاري نسبة 2.8% نتيجة السياسات المتبعة لتنويع الهياكل الإنتاجية وتحفيز استثمارات القطاع الخاص وتحسين بيئة الأعمال ورفع مستوى تنافسيتها، وجاء التقرير السنوي لمناخ الاستثمار في الدول العربية لعام 2019، مؤكدا على هذه الإنجازات أيضا حيث جاءت السلطنة في المركز الأول ضمن الدول المستقبلة لتدفقات الاستثمارات العربية البينية خلال العام الماضي باستحواذها على 58.4% من إجمالي الاستثمارات كما احتلت السلطنة أيضا المركز الأول عربيا ضمن قائمة الدول المستقطبة لمشاريع الاستثمار الأجنبي المباشر، بقيمة 19.635 مليار دولار، بما يساوي نحو 5.8 مليار ريال عماني، تمثل 23.5% من إجمالي قيمة المشاريع الاستثمارية الواردة للدول العربية مجتمعة وتوفِّر هذه الاستثمارات 10.9 ألف وظيفة، وأوضح التقرير أن أداء السلطنة يتفوق على الدول العربية في عوامل ومتطلبات جذب الاستثمار الأجنبي؛ وحققت السلطنة تميزا عن غيرها من الدول الأخرى في مؤشرات الأداء اللوجستي، ومؤشر الموارد البشرية والطبيعية، ومؤشر البنية المؤسسية. وارتكزت استراتيجية السلطنة في البناء والنماء خلال مسيرة الـ49 عاماً على عدد من المحددات ولا زالت تعمل السلطنة في برنامج التنويع الاقتصادي المعتمد وفق خطة تنموية اقتصادية تهدف إلى توسيع قطاعات السياحة والصناعة وصيد الأسماك والزراعة، في محاولة لخفض مساهمة القطاع النفطي في الاقتصاد من 46% إلى 9% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2020، للتعامل مع احتياطها المتضائل وأشارت بيانات الحسابات في السلطنة إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية بنسبة 12% خلال عام 2018 مقارنة مع 7.3 % في عام 2017 حيث يرجع هذا التزايد في النمو إلى ارتفاع نسبة النمو في كل من الأنشطة النفطية وغير النفطية إلى 37.1% و2.9% على التوالي في عام 2018، وليس هذا فحسب بل اهتمت السلطنة ببناء الإنسان باعتباره هدف التنمية وغايتها الأساسية، وتأسس ذلك على آليات تأهيل وتدريب الكوادر الوطنية التي احتلت مواقعها في كافة المناصب في الحكومة والقطاع الخاص واستطاعت السلطنة أن تستبدل اليد العاملة الأجنبية بموظفين عمانيين من خلال برنامج التعمين، الذي أطلقته عام 1988، وهو ما أدى إلى تخفيض كبير في أعداد الأيدي العاملة الوافدة وفقًا لبيانات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات فإن عدد الوافدين الذين يعيشون في السلطنة انخفض بمقدار 65397 بين مايو 2018 ومايو 2019، ليصل إجمالي غير العمانيين إلى 2.017.432 فقط كما انخفض عدد القوى العمالة الوافدة في السلطنة، من 1.854.880 في مايو 2018 إلى 1.787.447 هذا العام وخلال الفترة نفسها، ارتفع عدد العمانيين من 2.575.132 إلى 2.649.857، مما يشير إلى زيادة عدد السكان بإجمالي 74725 شخصا من السكان المحليين. إضافة إلي ذلك استطاعت السلطنة أن تنهض بقطاع السياحة وتستفيد من الإرث الحضاري والموارد الطبيعية التي تزخر بها في هذا المجال وتجذب العديد من السياح من دول العالم، لذلك حصلت سلطنة عمان مؤخرا على جائزة أفضل وجهة في السياحة الثقافية والتراثية لعام 2019 من رابطة كتاب السفر في المحيط الهادي أحد الاتحادات الرسمية الأعضاء في منظمة السياحة العالمية وهو ما يعكس نجاح الرؤية الاقتصادية وبرنامج التنويع الاقتصادي، كذلك يحظى القطاع الزراعي باهتمام كبير وتتبنى وزارة الزراعة والثروة السمكية خططاً مختلفة شملت سياسات وبرامج تهدف إلى تحقيق التنمية المستدامة والمحافظة على الموارد الطبيعية وهو ما ارتفع بمؤشرات هذا القطاع في الفترة الأخيرة، وفي المجال الصناعي أيضا تعمل السلطنة على تسريع وتيرة النمو للنهوض بهذا القطاع الذي يساهم بحوالي 2.166.3 مليار ريال عماني في الناتج المحلي حتى نهاية سبتمبر 2018 من خلال 890 منشآه صناعية، كما أن السلطنة من الدول التي يمكن أن تبني عليها خيارات راسخة في المستقبل، وخصوصا بالاعتماد على الطاقة الشمسية، كأحد المشروعات الاستراتيجية التي تواصل الحكومة العُمانية العمل على تنفيذها في الفترة المقبلة. كل هذه الأرقام والمؤشرات الحديثة تشير إلى أن السلطنة مستمرة في النهضة منذ أن أطلقت شرارتها في عام 1970 وستعمل من خلال خططها التي حددتها والتي تتبني نموذجا فريدا في إنشاء دولة عصرية حديثة تجمع بين الأصالة والمعاصرة واقتصاد ينمو بوتيرة ثابتة في ظل وجود تحديات كبيرة تواجه الأسواق العالمية ولكن ما تُحظى به السلطنة من استقرار سياسي واجتماعي ساهم في دوران عجلة الحياة الاقتصادية وتحقيق هذا النمو.