أستراليا وجوجل والظلام الرقمي
الثلاثاء / 19 / جمادى الآخرة / 1442 هـ - 22:15 - الثلاثاء 2 فبراير 2021 22:15
أ.د. حسني نصر -
هل سمعت عن الظلام الرقمي؟ إنه التعبير الجديد الذي استخدمته ميل سيلفا مديرة شركة جوجل في أستراليا الأسبوع الماضي، أمام لجنة خاصة في البرلمان الأسترالي ردًا على الجدل المحتدم حول القانون الذي تعتزم الحكومة الأسترالية إصداره، ويلزم «جوجل» وشركات التقنية العملاقة الأخرى مثل فيسبوك، بدفع تعويضات مالية لوسائل الإعلام الأسترالية عن استخدام روابطها في محركات البحث وفي مشاركة المحتوى على شبكات التواصل الاجتماعي.
تهديد واضح وجهته «جوجل» للحكومة الأسترالية بالانسحاب من أستراليا وإيقاف محرك بحثها الشهير وربما غلق جميع خدماتها الرقمية، التي تشمل البريد الإلكتروني الأشهر في العالم «الجيميل»، ومزود الخرائط «جوجل ماب»، ومنصة الفيديو الأكبر عالميًا «يوتيوب» في أستراليا، وبالتالي، كما قالت سيلفا «إدخال أستراليا في الظلام الرقمي».
إنه الظلام الرقمي إذن الذي لا يهدد أستراليا وحدها بل كل دول العالم التي قد تفكر في مواجهة جوجل وعمالقة الإنترنت في العالم. ظلام يمنع هذه الدول وشعوبها من الوصول إلى الخدمات الرقمية التي أصبح من المستحيل الاستغناء عنها في عالم اليوم، وبالتالي العودة إلى عصر ما قبل الإنترنت.
أصل الحكاية والنزاع يعود إلى نهايات العام الماضي عندما بدأ البرلمان الأسترالي مناقشة قانون مقترح، ساندته وسائل الإعلام الوطنية الكبيرة، يلزم جوجل وفيسبوك وغيرهما بتعويض منتجي المحتوى الإخباري المحلي تعويضا ماليا عن استخدام روابطهم في نتائج محرك البحث الأشهر والأكثر استخدامًا في أستراليا وفي العالم، وكذلك عن مشاركة هذا المحتوى في منصات التواصل الاجتماعي. ويطالب القانون- الذي لم يصدر بعد- جوجل بالتفاوض مع وسائل الإعلام الأسترالية التي تستخدم روابطها ومحتواها للتوصل إلى اتفاقات ثنائية على حجم هذا التعويض، واللجوء للتحكيم القضائي في حال عدم الاتفاق، وفي هذا التحكيم يقرر القاضي «التعويض العادل» الذي تستحقه كل مؤسسة إعلامية من جوجل.
واقع الأمر أن هذا النزاع، الذي دفع رئيس الوزراء الأسترالي إلى دخول المعركة بنفسه وتأكيده على أن بلاده لا تخضع لتهديدات جوجل، قديم جديد. فمنذ تحول شبكة الإنترنت إلى وسيلة تواصل جماهيرية عالمية في مطلع تسعينيات القرن الماضي تواجه وسائل الإعلام المنتجة للمحتوى صعوبات كبيرة بسبب انخفاض توزيعها من جانب وفقد النسبة الأكبر من عائداتها من الإعلانات لحساب شركات التقنية العملاقة. وقد جربت هذه الوسائل حلولًا كثيرةً لتجاوز أزمتها الوجودية، بعضها نجح وبعضها فشل في الإبقاء عليها في السوق الإعلامي، فأغلقت مئات الصحف والمحطات الإذاعية والتلفزيونية واكتفى البعض بالتواجد على الإنترنت. ومع تزايد أرباح شركات التقنية التي تقتات على المحتوى الإعلامي لوسائل الإعلام المأزومة، بدأ التفكير في ضرورة مشاركة تلك الشركات أرباحها، فكان هذا القانون الأسترالي المقترح وغيره من المحاولات التي شهدتها دول أخرى لحصول وسائل الإعلام على قطعة، ولو صغيرة من كعكة أرباح جوجل وشركات التقنية العملاقة التي تتاجر بمحتوى تلك الوسائل وتربح منها. وتكفي الإشارة هنا إلى أن عائدات جوجل أستراليا وصلت إلي 3.7 بليون دولار في عام 2019، رغم أن أستراليا تعد من الأسواق الصغيرة نسبيًا، فما بالنا بعائداته في الأسواق الكبيرة؟
في فرنسا على سبيل المثال، وبعد صدور قانون «الحقوق المجاورة» الشبيهة بحقوق الملكية الفكرية عن البرلمان الأوروبي عام 2019، «لجأت الصحف الفرنسية إلى هيئة المنافسة التي أمرت المجموعة الأمريكية العملاقة في أبريل 2020 بالتفاوض «بحسن نيّة» مع الناشرين، وهو قرار دعمته لاحقًا محكمة الاستئناف في باريس». وبعد مفاوضات مع جوجل تمكنت بعض الصحف الفرنسية الكبرى مثل «لوموند» و«لوفيغارو» و«ليبيراسيون» و«ليكسبريس» من التوصل إلى اتفاقات ثنائية للتعويض المادي عن المحتوى المستخدم منها في روابط محرك البحث ومنصاته الرقمية. وفي ضوء ذلك يأمل الأستراليون من خلال إثارة هذه القضية أن يصبح إلزام جوجل بتعويض الصحف ووسائل الإعلام موجة عالمية تشمل كل دول العالم، ولذلك كان ردهم على تهديد جوجل بالانسحاب من بلادهم أن قالوا وهل سوف تنسحبون من العالم كله إذا سارت الدول الأخرى على نفس النهج؟
في تقديري أن عولمة القانون الأسترالي المقترح وربما تحويله إلى قانون دولي هو أشد ما يقلق جوجل من التحرك الإعلامي والتشريعي الأسترالي. فجوجل وغيره لا يريد لأحد أن يشاركه في الأرباح الطائلة التي يجنيها في دول العالم، نتيجة استحواذه على نحو تسعين بالمائة من سوق محركات البحث على الويب في العالم. صحيح أن هناك محركات بحث أخرى عالمية مثل: ميكروسوفت بنج، وياهو وغيرها، ولكنها أقل استخداما، وتأتي في مراكز متأخرة بين المواقع الإلكترونية الأكثر زيارة على شبكة الويب.
نعود إلى الظلام الرقمي الذي قالت مديرة جوجل: إن أستراليا قد تدخل فيه إذا انسحب جوجل وشركات التقنية العملاقة منها.. ونتساءل هل يمكن أن يحدث ذلك بالفعل؟ وماذا عنا نحن في العالم العربي؟ ماذا يحدث إذا فكرت إحدى الدول العربية في مواجهة جوجل؟ واقع الحال أن هذه الشركات أصبحت قوى عظمى في العالم تستطيع أن تتدخل في الشؤون الداخلية للدول، فما بالك بقدرتها المتزايدة على إسقاط محاولات عرقلة أعمالها العالمية، حتى وإن كان الخلاف حول مبلغ صغير لا يتعدى ملايين الدولارات بالنسبة لإيراداتها، تدفعه للصحف ووسائل الإعلام الوطنية. وليس ببعيد إصدار هذه الشركات تحذيرًا ربما أشد لهجة إلى باكستان في نوفمبر من العام الماضي بالانسحاب منها، وردها إلى عصر الظلام الرقمي، احتجاجًا على قوانين مقترحة كانت تفرض عليها وعلى مزودي خدمة الإنترنت في البلاد غرامات مالية في حال فشلها في منع مشاركة المحتوى الذي يتضمن إهانة للدين الإسلامي، أو يشجع الإرهاب، أو يحرض على الكراهية والإباحية، ويهدد الأمن القومي.
ربما يقول قائل لقد سبق أن خرج جوجل من الصين منذ عام 2010 ومع ذلك لم تدخل الصين في ظلام رقمي. وفي الحقيقة أن الصين قصة مختلفة سياسيًا وإعلاميًا ولغويًا وتقنيًا، فقد تمكنت بقدراتها الهائلة من تعويض هذا الخروج بمحركات بحث وتطبيقات صينية خالصة، ونموذج الصين لا يمكن القياس عليه عالميًا.
تخيل فقط أن تصحو من نومك يوما ما، ولا تجد محرك بحث جوجل وخدمة البريد الالكتروني وخدمة خرائط جوجل على هاتفك المحمول ولا على الكمبيوتر الشخصي. هل سوف تشعر وقتها بالظلام الرقمي؟
ربما يكون في الأمر مبالغة من جوجل ولكن علينا أن ندرك خطورة هذا التهديد وقدرة تلك الشركات على التلاعب بمصير دول وشعوب، والتحكم حتى في تشريعاتها الداخلية، خاصة وأنها كلها شركات أمريكية تساندها القوة العظمي الوحيدة في العالم التي لم تترك جوجل يخوض معركته في أستراليا وحده فخرجت الإدارة الأمريكية السابقة لتحث أستراليا على عدم إصدار القانون الذي أغضب جوجل واعتبرته قانون غير طبيعي وسيكون له -في حال صدوره- تأثيرات سلبية بعيدة المدى.
خلاصة القول إن على جوجل إذا أراد البقاء أن يحرص على بقاء الصحف ووسائل الإعلام، وأن يسهم في إخراج الصحافة من أزمتها، وذلك بمشاركتها نسبة صغيرة من أرباحه، تعويضا لها عن المحتوى الذي لا يمكن أن تكون له حياة بدونه.