الملف السياسي

الأمم المتحدة على مفترق طرق

إميل أمين - هل بلغت الأمم المتحدة مفترق طرق بعد نحو 75 عاما من العمل في حقل الدبلوماسية الدولية والتعددية؟ الشاهد أنها حاولت جاهدة استنقاذ العالم من الأزمات والصراعات والحروب، وقد قدر لها النجاح في بعض المواقع والمواضع، وربما أخفقت في بعضها الآخر، وهذا أمر طبيعي فيما يخص أي مؤسسة بشرية، غير أن التعددية والدبلوماسية التي أسهمت في انقاذ العالم من حرب عالمية ثالثة ربما تكون أمام أزمة حقيقية في حاضرات أيامنا من جراء إشكالية التمويل، وأشياء أخرى تختفي وتختبئ وراء قصة التمويل.. ماذا عن هذا وذاك؟ في شهر أبريل الماضي احتفلت الأمم المتحدة ولأول مرة باليوم الدولي للتعددية والدبلوماسية من اجل السلام، والذي يستهدف الحفاظ على قيم التعددية والتعاون الدولي، الذي يقوم عليها ميثاق الأمم المتحدة وخطة التنمية المستدامة لعام 2030، وهو أمر أساسي لتعزيز ودعم الركائز الثلاث للأمم المتحدة، الأمن والسلام والتنمية وحقوق الإنسان، حيث يجب أن تنهض المعايير الدولية والنظام القائم على القواعد والذي قاد الدول طوال سبعة عقود لمواجهة التحديات المتزايدة للحمائية والانعزالية. في ذلك النهار كان من الواضح أن هناك خلافات عميقة تدور حول وضع الهيئة الأممية، وهي خلافات لم تكن وليدة اليوم أو الأمس، بل ترجع في واقع الأمر الى نحو عقدين خلا من الزمن، وتحديدا منذ بداية الألفية الثالثة، وما قبلها، فقد تساءل البعض في العام 1995 وحين كان الأمين العام للأمم المتحدة الراحل الدكتور بطرس غالي، هل من أهمية لبقاء الأمم المتحدة، أم انه حان الوقت لان تغلق أبوابها وترحل فقد تجاوزها الزمن. بعد خمس سنوات تقريبا وحين حل جورج بوش الابن رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، حمل معه جوقة المحافظين الجدد المغرقين في توجهاتهم الأحادية اليمينية، أولئك الذين ساروا من خلف ما عرف وقتها باسم «وثيقة القرن»، أي أن يكون القرن الحادي والعشرين برمته قرنا أمريكيا بامتياز، وان لا تقف أي قوة على الأرض في مواجهته، وعلى هذا الأساس كانت الأمم المتحدة عقبة على سبيل المثال في طريق غزو العراق في مارس 2003. في هذا الوقت تحدث البعض من جماعة بوش وبنوع خاص مندوبه في الأمم المتحدة، جون بولتون «بالقول أن هذا المبنى الزجاجي لا أهمية له، ولو دمرت منه عشرة طوابق فان أثرا ما لن يتغير حول الكرة الأرضية»، في انتقاص واضح وفاضح لأهمية المؤسسة الأممية. منذ ذلك الوقت جرى كلام كثير على إصلاح هيكلية الأمم المتحدة ووضعت برامج متعددة لإعادة ترتيب أوراقها، وتعديل مساراتها ومساقاتها، غير انه وكما يقال، فان من يدفع للزمار هو من يحدد اللحن، أي أن من يدفع النصيب الأكبر في ميزانية الأمم المتحدة، كان هو من يفرض شروطه ووصايته، ومعروف أن الولايات المتحدة الأمريكية هي من تقوم بذلك، عطفا على أن كيان المؤسسة الأممية قائم على ارض تلك البلاد. منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وأمريكا تتعاطى مع الأمم المتحدة من منطلق المنح والمنع، فإذا رضيت عن سياساتها دفعت نصيبها الأكبر لتسيير برامج وآليات وعمليات الهيئة الأممية، وان صبت جام غضبها عليها حرمتها مما يقودها إلى الأمام، وهو ما يكاد يكون حاصل في الوقت الحاضر. على أن هناك إشكالية أخرى تتجاوز مسألة المساهمات المالية وتتعلق بأرض الموقع والموضع، فواشنطن الآن لا تبدو محايدة بما يكفي لان تقوم على أراضيها مؤسسة أممية تراعي أحوال العالم الذي تغير كثيرا جدا من بعد الحرب العالمية الثانية، فلم يعد العالم ثنائي القطبية بين حلفي وارسو والأطلنطي، بل ظهرت أقطاب عديدة قائمة وقادمة بقوة وتؤدة، ستغير حال العالم جيوبوليتيكيا وجيو استراتيجيا مع الفارق الواضح بين التعريفين. في هذا السياق لم يعد مقبولا من بقية الدول الأعضاء أن تتحكم الولايات المتحدة الأمريكية في منح التأشيرات الدبلوماسية للبعض وقطعها عن البعض الآخر، الأمر الذي يمكن تفهمه إذا كانت الزيارة لأمريكا نفسها، أما إذا كان الأمر يخص المشاركة في أعمال الأمم المتحدة، فانه غير مقبول أو معقول، ومن هنا تظهر الحاجة إلى البحث عن موقع وموضع آخر ربما مشارك لنيويورك في تسيير أعمال الأمم المتحدة وكي لا تبقى أسيرة للسياسات والتوجهات الأمريكية فقط. ولعل السؤال الواجب طرحه هنا هل ستؤدي الأزمة المالية التي تعاني منها الأمم المتحدة إلى نهاية زمن التعددية وبداية البحث عن حلول وأطروحات أخرى تكون اكثر قبولا من كافة أعضاءها في الوقت الراهن؟ في الحادي عشر من أكتوبر المنصرم أعلنت الأمم المتحدة عن سلسلة تدابير لمواجهة أسوأ أزماتها المالية منذ نحو عقد، والتي يمكن للمرء أن يلتمسها من خلال بعض الإجراءات المثيرة للدهشة التي حدثت داخل المبنى الأيام الماضية، فعلى سبيل المثال وخلال جلسات أخيرة لمجلس الأمن تم قطع الكهرباء عن الأعضاء توفيرا للنفقات ما استدعى أن يرفع المندوبين الدائمين أصواتهم، وقال بعضهم تندرا على المشهد إننا كنا ننظر إلى الأضواء ونخشى اللحظة التي يقطع فيها التيار الكهربائي عنا بالمرة. المشهد المأساوي عينه تكرر بالنسبة للسلالم الكهربائية التي توقفت عن العمل داخل المبنى، وهي على ارتفاع كبير مما يعجز معه كبار السن عن الصعود، سواء بالنسبة للزائرين أو العاملين، ناهيك عن غياب التدفئة المركزية داخل المبنى وهذه قصة رهيبة بالنسبة لنيويورك في مثل هذا التوقيت، وحتى المطعم المخصص للدبلوماسيين بات يقف أبوابه عند الساعة الخامسة مساء. لقد باتت التعددية الدبلوماسية على شفا الهاوية، الأمر الذي أشارت إليه «كاثرين بولارد»، المسؤولة الرفيعة في قسم الإدارة بالمنظمة الأممية بقولها: «حقا ليس لدينا خيار، فالأولوية الرئيسية الآن هي لضمان الراتب التالي لموظفي الأمم المتحدة البالغ عددهم 37 ألفا». لم يكن الأمين العام جوتيريش بعيدا من الإشكالية المالية لمؤسسته الأممية، ولهذا حدد الرجل في رسالة إلى الموظفين، اجراءات التقشف التي تلوح في الأفق، والتي قال أنها ستعني عددا اقل من الرحلات الجوية، وحفلات الاستقبال، والوثائق، والتقارير، والترجمات، وحتى برادات المياه، إضافة إلى تقييد التوظيف. تمثل الأزمة التي تمر بها الأمم المتحدة اليوم أسوأ أزمة نقدية تواجهها منذ نحو عقد من الزمن من وتتعرض لخطر استنزاف احتياطياتها من السيولة بحلول نهاية الشهر الجاري وقبل نهاية العام، والتخلف عن سداد مدفوعات الموظفين. يعن لنا أن نتساءل في هذا الإطار: هل إشكالية الأمم المتحدة محصورة فقط في الأزمة المالية التي تعتريها أم انه حان الوقت لمزيد من التعديل والتبديل في جوهر الفكرة الأممية عينها، ومن غير أن يعني ذلك حل المؤسسة أو تفكيكها مرة والى الأبد؟ الشاهد أن افضل من قدم جوابا عن السؤال المتقدم البروفيسور «فرانسيس فوكاياما»، أستاذ كرسي برنارد ال. شوارتز للاقتصاد السياسي الدولي، ومدير برنامج التنمية الدولية في مدرسة الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جون هوبكنز الأمريكية الشهيرة. بداية يرى فوكاياما أن العالم اليوم لا يمتلك ما يكفي من المؤسسات الدولية التي تستطيع أن تسبغ الشرعية على العمل الجماعي، وسيكون إنشاء مؤسسات جديدة تستطيع أن توازن على نحو افضل متطلبات الشرعية والفاعلية، هو الواجب الأسمى للجيل القادم، ونتيجة لأكثر من مائتي عام من التطور السياسي نحن نمتلك فهما جيدا نسبيا للكيفية التي تنشأ بها مؤسسات تكون ملزمة بالأحكام، وقابلة للمساءلة، وهي مع ذلك فعالة على نحو معقول في الصوامع العمودية التي ندعوها بالدول، وما لا نمتلكه هو المؤسسات الكافية التي تتميز بقابلية المساءلة الأفقية بين الدول. يقودنا فوكاياما إلى التفكر والتدبر في إشكالية أعمق، وهي مسألة الحكم الكوني، وهل لا يزال فاعلا في زمن التعددية القطبية، أم أن التشظي الأممي بين اليمين اليسار تارة، وبين القومية والدولة الوطنية تارة اخرى، يأخذنا في دروب بعيدة عما هو قائم الآن في شكل المبنى الزجاجي على ضفاف نهر الهدسون الأمريكي؟ علامة الاستفهام تقتضي منا القول بان العالم لم يعد يمينا ويسارا فقط بل عشرات الاتجاهات السياسية، وهناك ما يستجد، أما وجود الأمم المتحدة فهو بطريقة ما اليوم يمنع الناس في اليمين واليسار على السواء من التفكير بوضوح في الحكم الكوني. اليمين يرى أنها مؤسسة تقطع عليه طريق التمدد والتحكم في مقدرات العالم، فيما اليسار يشدد على أهميتها ويرى أنها تلعب دورا مصيريا على صعيد الكرة الأرضية. ما هو الحل إذن؟ الحل الواقعي الذي ينشده مفكر كبير بقدر فوكاياما لمشكلة العمل الدولي الذي يكون فعالا وشرعيا معا، يكمن في إنشاء مؤسسات جديدة، وتكييف المؤسسات الموجودة لتلاءم الظروف الجديدة. وسيكون جدول الأعمال المناسب للسياسة الخارجية الأمريكية هو أن تروج عالما مأهولا بعدد كبير من المؤسسات الدولية المتداخلة، واحيانا المتنافسة. وهو ما يمكن أن يدعى تعدد متعددي الأطراف. وفي هذا العالم لن تختفي الأمم المتحدة، ولكنها ستصير واحدة من منظمات متعددة تحتضن العمل الدولي المشروع والفعال. يمكننا أيضا الإشارة إلى أن هناك جزئية أخرى باتت مصيرية في تقرير مستقبل الهيئة الأممية، وتتعلق بتركيبتها القديمة، لا سيما عضوية مجلس الأمن، التي تقتصر الآن على الخمسة الكبار الذين آل اليهم العالم بعد الحرب العالمية الثانية. تغير العالم كثيرا جدا مؤخرا، وبدا أن هناك قوى إقليمية ودولية بازغة تلعب أدوارا مهمة وفاعلة لا بد أن تؤخذ بعين الاعتبار في الحسابات الأممية وبنوع خاص فيما يخص مسألة الفيتو أو حق النقض، فقد بات من غير المقبول أن تتحكم خمس دول في مقدرات العالم في حين تبقى البقية الباقية على هامش الأحداث. وفي كل الأحوال تبقى فكرة التجمع الدولي مسألة جوهرية بالنسبة لمستقبل الإنسانية، لكن الشكل الجديد هو القضية في هذا النقاش.