صورة النبي إبراهيم.. في القرآن
الاحد / 12 / رمضان / 1442 هـ - 17:33 - الاحد 25 أبريل 2021 17:33
خميس بن راشد العدوي -
النبي إبراهيم.. يقدمّه القرآن بأنه أبو المسلمين، ومشيد بنيان الملة الحنيفية، وباستثناء نوح لم يقصص أحداً من الأنبياء قبله تصريحاً، وقد دعا القرآن إلى اتّباع ملة إبراهيم، ولذلك.. تأخذ شخصيته موقعاً محورياً في الإسلام. إن رؤية شخصيته من خلال القرآن مهمة؛ ليست للمسلمين فحسب، وإنما لعموم البشرية الراغبة في إذكاء روح التوحيد في نفوسها.
من أهم ما عرضه القرآن في صورة النبي إبراهيم هو سماته النفسية، وهي سمات مهمة بالنسبة لمن يريد أن يتوجه لتوحيد الله، ولتستبين له حقيقة تلك الظاهرة التي قدمت التوحيد عبر تأريخ الإسلام في قالب عنيف؛ وصل إلى سفك الدماء، فضلاً عن التعالي في اللغة والفظاظة في التعامل.
قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)، الحِلم.. الصفة النفسية الأبرز التي تظهر في صورة النبي إبراهيم، والتي تهيمن على كل تصرفاته، ففي أوج صراعه مع الشرك، لا يتخلى الحِلم عنه، فكأنما قُدَّ منه قدّاً. إنك لتراه وهو يواجه أباه صانع الآلهة؛ أخطر أدوات الوثنية؛ يحمله الحِلم حملاً على الترفق به؛ فيديم خطابه بـ«يا أبت»، الكلمة الأثيرة إلى كل أب: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ...، يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ...، يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ...، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ...).
عندما تقرأ الآيات المتعلقة بإبراهيم؛ سترى ذلك الشخص الذي يحركه الحِلم الموصول بالله، فها هو في معركته مع الشرك؛ يدفعه حِلمه بأن يجادل في قوم لوط المشركين: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ، يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)، فيأتي الرد الإلهي متوافقاً مع هذا الحِلم، بالنهي بكلمة «أعرض»، أنه مشهد يتجاوز كل التجارب البشرية التي ترتكب الجرائم لأجل معتقداتها، إنه يطرح البديل لأجل خلق حياة يحكمها الحِلم بأسرها. حِلم جعل نفس إبراهيم مطمئنة هادئة؛ لا يلبث الروع أمامها أن يذهب من ذاته، وتأتيه البشرى أيضاً من ذاتها، يا الله.. إنه مشهد وأنت تراه تود لو أنك تستطيع أن تقذف بنفسك فيه؛ فتصير حليماً أواهاً منيباً.
انظر لبلد يعج بالمشركين، وتزدحم مواقعه بالأصنام، هذا قادم إليها ليقدم القرابين، وذاك غادٍ قد انفض من التمسح بعتباتها، سيدور في خلد أصحاب العقائد أن يشهروا أسلحتهم لتدمير هذا البلد، لكن إبراهيم الحليم الأواه يتوجه إلى ربه بأن يجعله بلداً آمناً، وأن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام، ويذهب به الحِلم إلى أن يدعو الله بأن يكون غفوراً رحيماً بهؤلاء البشر الذين انغمسوا في عبادتهم الضالة، قال الله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
مشهد آخر.. يبرز تجليات الحِلم في شخصية النبي إبراهيم؛ وهو «القلب السليم»، لو وصف إبراهيم بأنه ذو قلب سليم، هكذا مجرداً، دون تصويره في مشهد حي، كما هي عادة القرآن، لما ترك أثراً كبيراً على متدبر القرآن. بل هو مشهد ينقلك بين تفاصيله لحظة بلحظة وأنت مشدود إلى آليات تأثيره على نفسك، مشهد.. كشف عن ذلك الروح الذي يصل إبراهيم بربه (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). هذا «القلب السليم» لم يجعل إبراهيم يدمر المجتمع من حوله، أو يثير الرعب في قلوب الناس، بل جعله ينفتح على أشد القلوب نفوراً من التوحيد بالحوار والمجادلة الحسنة وإقامة البراهين. اقرأ هذا المشهد الإبراهيمي الحليم الذي يبعث الحياة في الصورة، ويحوّلها من حروف متراصة وراء بعضها البعض إلى شخوص فاعلة في موقف إيماني أثير، أترك القارئ يتفاعل معه في قول الله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ، قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ، قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ، قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ، رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ، وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
وتتصاعد المشاهد وتفور فائرة الأحداث؛ إلى درجة أن إبراهيم أصبح يقلّب وجهه في السماء، ويشعر بـ«السقم»، ما لهؤلاء القوم يعبدون آلهة بكماء؟ انظر إلى تصوير هذه الحالة.. لا يكفي أن يأتي التعبير بأنها لا تنفع ولا تضر، بل يجعلها صورة قائمة أمام ناظرَيك، تتتبع مساراتها بدهشة، حيث يتولى القوم عنه، وربما هم في سرور من حالة «السقم» التي وصل إليها إبراهيم من التأفف من معبوداتهم، وربما اعتقدوا أنها أصابته بلعنتها، أو أن تلك النجوم التي قلّب وجهه باتجاهها هي من لحقته بنقمتها.
وتستمر الصورة في التفاعل.. يذهب إبراهيم إلى تلك الآلهة ويقف أمامها وجهاً لوجه قائلاً: ألا تأكلون؟ ما لكم لا تنطقون؟ لكن.. كل هذا قد لا يؤثر في القوم، فهم قد يعتقدون فيها عدم الأكل والنطق، فيروغ عليها «ضرباً باليمين»، ويعلم القوم ما لحق آلهتهم فيأتونه في زفة لنصرتها، عجيب أمر هؤلاء القوم حقاً، إن هذه الآلهة التي تدبّر أمرهم وأمر الوجود من حولهم؛ كما يعتقدون، هي بحاجة إلى حمايتهم؟ ولأن الحجج تتساقط أمام الوقائع؛ فلا يملك هؤلاء القوم إلا أن يبنوا لإبراهيم تنوراً ليحرقّوه فيه، فينجيه الله منه. ماذا فعل إبراهيم بعدها؟ هل عاملهم بالمثل فسعى إلى تحريق بيوتهم؟ كان إبراهيم الحليم حاضراً في هذه المعركة المصيرية، فقال قولته التي ستصبح خالدة في القرآن، فلنقرأها في ختام هذا المشهد المهيب، قال الله: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ، إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ، أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ، فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ، فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ، مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ، فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ، قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ، قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ، فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ، وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ).
هكذا تظهر صورة إبراهيم في القرآن.. فاعلة نشطة في الدعوة إلى التوحيد، ولكن ليس بالغضب والتشفي والانتقام، وإنما بالحِلم والإنابة إلى الله، فالله الرحمن الرحيم لا يمكن أن يكون قدوة أنبيائه والناطقين برسالته إلا حليماً رحيماً، فالمعركة ليست معركة مع البشر، إنما هي معركة أفكار ومعتقدات، والتي لم يواجهها إبراهيم إلا بالحِلم، قال الله مخاطباً المسلمين باتخاذ إبراهيم أسوة: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
صورة النبي إبراهيم.. عديدة المشاهد في القرآن، وكلها ذات إيحاءات عميقة للنفس، وكلها تنطلق من صفة الحِلم التي أوجدت هذه الشخصية التي ارتضاها الله قدوة للعالمين، والمقال لا يستوعب تقصي كل أوجهها، ولذلك.. لا غنى من الرجوع إليها في القرآن، حيث سيجد القارئ تلك الصورة الفيّاضة بالثقة الإلهية في سياقها الذي وردت فيه، أكثر إيحاءً وأعمق تأثيراً وأجمل تصويراً.