شرفات

خوليو كورتاثار: الأدب لعبة منحتها حياتي «2-2»

873095
 
873095
حوار: جيسون وايس - ترجمة: أحمد شافعي - عندما توفي خوليو كورتاثار بالسرطان في فبراير سنة 1984 عن تسعة وستين عاما وصفته صحيفة إل باييس التي تصدر من مدريد بأنه أحد أعظم كتاب أمريكا اللاتينية، وخصَّصت له على مدار يومين إحدى عشرة صفحة كاملة من الشهادات والذكريات والوداعات. برغم أن كورتاثار كان يعيش في باريس منذ عام 1951، فقد كان يزور بلده الأصلي الأرجنتين بانتظام إلى أن نفي منه رسميا في مطلع السبعينات بقرار من مجلس الحكم الأرجنتيني الذي اعترض على العديد من أعماله. وبانتصار حكومة ألفونيسن المنتخبة ديمقراطيا في الخريف الماضي أمكن كورتاثار أن يزور وطنه زيارة أخيرة. ورأى وزير الثقافة في حكومة ألفونسين ألا يرحب به رسميا، تخوفا من آرائه السياسية المغالية في جنوحها إلى اليسار، ولكن الكاتب لقي برغم ذلك ترحابا برجوعه رجوع البطل القومي. فذات ليلة في بيونس أيرس، بعد مشاهدة فيلم في السينما مأخوذ عن رواية «No habra ni mas pena ni olvido» لـ أوسفالدو سوريانو، صادف كورتاثار وأصدقاؤه مظاهرة طلابية تتجه نحوهم فاختل انتظامها بمجرد أن وقعت أنظار المشاركين فيها على الكاتب فتحلقوا حوله. كانت متاجر الكتب لم تزل مفتوحة في الشارع فسارع الطلبة يشترون نسخا من كتب كورتاثار ليوقِّعها لهم. واعتذر صاحب أحد الأكشاك ـ وقد نفدت منه نسخ أعمال كورتاثار ـ وهو يقدم للكاتب نسخة من رواية لكارلوس فوينتس كي يوقعها له. • هل في كتابة القصة جوانب تمثل لك مشكلة دائمة؟ ـ بصفة عامة، لا، لأن القصة مثلما أوضحت تتكون في موضع ما بداخلي. فتكون لها أبعادها، وبنيتها، وما إذا كانت في طريقها إلى أن تكون قصة قصيرة جدا، أم طويلة بعض الشيء، كل ذلك يبدو أنه يتحدد مسبقا. لكنني بدأت في السنين الأخيرة أستشعر بعض المشكلات. بت أتأمل أكثر أمام الصفحة الخاوية. وأكتب بمزيد من البطء. وأكتب بطريقة أكثر تكثيفا. ومن النقاد من يوبخونني على ذلك، ويقولون لي إنني قليلا قليلا أفقد مرونة قصصي. أبدو كما لو كنت أقول إنني راغب في مزيد من التخلي. ولا أعرف هل هذا خير أم شر، وعلى أي حال، هذه هي طريقتي الآن في الكتابة. • تقول إن في الروايات معمارا كاملا، هل يعني هذا أنك تعمل بطريقة مختلفة؟ ـ أول ما كتبته من «لعبة الحجلة» فصل تجده الآن في منتصفها. هو الفصل الذي تضع فيه الشخصيات لوحا لتعبر من شباك في عمارة إلى شباك في أخرى. كتبت ذلك دون أعرف لكتابته سببا. رأيت الشخصيات، ورأيت الموقف، رأيت أنه في بيونس أيرس. أتذكر أن الجو كان شديد الحرارة وكنت جالسا بآلتي الكاتبة مجاورا الشباك. رأيت هذا المشهد لرجل يحاول أن يجعل زوجته تمشي على لوح ـ لأنه لا يريد أن يمشي بنفسه ـ لإحضار شيء سخيف، بعض المسامير. كتبت ذلك كله وكان طويلا، قرابة أربعين صفحة، فلما انتهيت منه قلت «تمام، لكن ما هذا الذي فعلته؟ وبما أن هذا ليس قصة، فماذا يكون؟» ثم فهمت أنني بدأت رواية، ولكن ما كان لي أن أستمر من تلك النقطة. كان عليّ أن أتوقف عند ذلك الحد، وارجع إلى البداية فأكتب القسم السابق عليه ويجري في باريس، وهو عبارة عن خلفية أوليفييرا كاملة، فلما وصلت إلى فصل المشي على اللوح واصلت منه. • هل تراجع كثيرا أثناء الكتابة؟ ـ قليلا للغاية. وذلك بسبب حقيقة أن ما أكتبه يكون بالفعل معتملا بداخلي منذ فترة. عندما أرى المسودات الأولى لبعض أصدقائي الكتاب، أرى أنهم يراجعون كل شيء، ويغيرون كل شيء، ويدورون، ويرسمون أسهما في كل موضع ...لا لا لا. مخطوطاتي أنا في غاية النظافة. * لـ خوسيه ليزاما ليما قول في سيما هو أن «الباروكي ... ولا شيء غيره هو الذي له قيمة في أسبانيا وأمريكا الهسبانية». لماذا تذهب إلى هذا الظن؟ ـ لا أستطيع أن أرد كخبير. صحيح أن الباروك له أهمية عظيمة في أمريكا اللاتينية، في الفنون وفي الأدب على السواء. والباروك قادر على أن يخلق ثراء عظيما، فهو يتيح للخيال أن يحلق كالدوامة في كل اتجاه، كما في الكنيسة الباروكية بملائكتها الزخرفية وما إلى ذلك، أو الموسيقى الباروكية. لكنني لا أثق في الباروك. فالكتاب الباروكيون في كثير جدا من الحالات يسمحون لأنفسهم بكثير من الاستسهال في كتابتهم. فيكتبون في خمس صفحات ما يسهل تماما على المرء أن يكتبه في صفحة. ولا بد أنني أغرمت بالباروك لكوني من أمريكا اللاتينية، ولكنني طالما افتقدت الثقة فيه. فأنا لا أحب الجمل الطنانة الجزلة المليئة بالصفات والأوصاف إذ تنصب وتنصب في أذن القارئ. وأعلم بالطبع أنه فاتن. شديد الجمال لكن ليس بالنسبة لي. أنا أكثر ميلا إلى جانب خورخي لويس بورخيس. وطالما عادى بورخيس الباروكي، وضيَّق على كتابته، كما لو بكلَّابات. وأنا أكتب بطريقة شديدة الاختلاف عن بورخيس، لكن من أعظم الدروس التي علَّمنيها درس الاقتصاد. علّمني حينما بدأت قراءته، وكنت في سن صغير للغاية، أنه لزام على المرء أن يحاول قول ما يريد قوله باقتصاد، على أن يكون الاقصاد جميلا. إنه الفارق ربما بين نبتة يمكن أن تعدّ باروكية بتضاعف أوراقها وتكون في أغلب الحالات شديدة الجمال، وصخرة أو كرستالة تبقى بالنسبة لي أكثر جمالا. • ما عاداتك في الكتابة؟ وهل تغيرت فيها أشياء معينة؟ ـ الشيء الوحيد الذي لم يتغير، ولن يتغير مطلقا، هو الفوضى المطلقة. ليس لدي منهج من أي نوع. حينما أشعر برغبة في كتابة قصة أتخلى عن كل شيء وأكتب القصة. وأحيانا حينما أكتب قصة، أكتب في الشهر التالي أو الشهرين التاليين قصتين أخريين أو ثلاثة. بصفة عامة. تأتي القصص سلاسل. وكتابتي لقصة تبقيني في حالة تلقٍّ فـ»أصطاد» قصة أخرى. وها أنت ترى طبيعة الصورة التي أستعملها، ولكن الأمر قريب من هذا، يحدث أن تقع القصة في نفسي. لكن قد تمر سنة ولا أكتب أي شيء ... أي شيء. طبعا قضيت في السنوات الأخيرة قدرا كبيرا من الوقت جالسا إلى آلتي الكاتبة لكتابة مقالات سياسية. النصوص التي كتبتها في نيكاراجوا، وكل ما كتبته عن الأرجنتين، لا علاقة له بالأدب، هي كتابات نضالية. • قلت كثيرا إن الثورة الكوبية هي التي نبهتك إلى قضايا أمريكا اللاتينية ومشكلاتها. ـ وأقولها ثانية. • هل لك أماكن تفضلها للكتابة؟ ـ في الحقيقة لا. في البداية، حينما كنت أصغر سنا وكان جسمي أكثر مقاومة، كتبت هنا في باريس جزءا ضخما من «لعبة الحجلة» في المقاهي. فلم تكن الضوضاء تضايقني، بل كنت أجد الأماكن ملائمة. كنت أعمل كثيرا في المقاهي، فأقرأ وأكتب. ولكنني مع التقدم في العمر صرت أكثر تعقيدا. فلا أكتب إلا حينما أضمن قدرا من الصمت. لا أستطيع أن أكتب في وجود موسيقى، هذا مستبعد تماما. الموسيقى شيء والكتابة شيء آخر. أحتاج الهدوء، وبعد ذلك يستوي لدي الفندق والطائرة في بعض الأحيان وبيت صديق أو هنا، ففيها جميعا يمكنني أن أكتب. • ماذا عن باريس؟ كيف وجدت شجاعة أن تحزم حقائبك وتنتقل إلى باريس حينما فعلت ذلك قبل ثلاثين سنة؟ ـ الشجاعة؟ لا، لم يقتض الأمر شجاعة. كان عليَّ ببساطة أن أقبل أن فكرة المجيء إلى باريس وقطع الجسور مع الأرجنتين في ذلك الوقت تعني أن أكون شديد الفقر وأن أواجه مشكلات في تدبر عيشي. ولكن ذلك لم يقلقني. كنت أعرف بطريقة أو بأخرى أنني سوف أدبر أمري. لقد جئت إلى باريس في المقام الأول لأن باريس والثقافة الفرنسية إجمالا كانت تمثل لي جاذبية كبيرة. كنت قد قرأت الأدب الفرنسي بشغف في الأرجنتين فأردت أن أحضر إلى هنا لأعرف الشوارع والأماكن التي يصادفها القارئ في الكتب وفي الروايات. فكرة السير في شوارع بلزاك وبودلير... كانت رحلة في منتهى الرومنتيكية. وكنت رومانتيكيا ولا أزال. في الواقع عليَّ أن أكون في غاية الحذر وأنا أكتب إذ يمكن كثيرا أن أقع في ... لا أقول الذوق الرديء، ربما لا يكون الأمر كذلك، بل هو شيء من الاتجاه إلى المغالاة في الرومنتيكية. في حياتي الشخصية لست بحاجة إلى السيطرة على نفسي. أنا في الحقيقة عاطفي جدا، شديد الرومنتيكية. أنا شخص حنون، لدي من الحنان الكثير الذي يمكن أن أمنحه. ما أمنحه لنيكاراجوا هو الحنان. وهو أيضا قناعة سياسية بأن حكومة ساندينستا على حق في ما تفعله وفي أن أعضاءها يتصدرون كفاحا مثيرا للإعجاب، لكن ليس الحافز السياسي وحده، بل أن لدي حنانا هائلا، لأن ذلك شعب أحبه، مثلما أحب الكوبين، وأحب الأرجنتينيين. وذلك كله يشكّل شخصيتي. لقد كان عليَّ أن أراقب نفسي في كتابتي، لا سيما في صغري. فقد كنت أكتب آنذاك ما تطفر له الدموع. تلك كانت رومانتيكية حقيقية، رومانتيكية «قصة الوردة». أمي كانت تقرؤها فتبكي. • كل ما يعرفه الناس من أعمالك تقريبا هو المؤرخ في ما بعد الوصول إلى باريس. ولكنت كنت تكتب الكثير قبل ذلك، أليس كذلك؟ ولم ينشر منه إلا القليل. ـ كنت أكتب منذ سن التاسعة، وطوال مراهقتي وصدر شبابي. كتبت قصصا وروايات بيَّنت لي أنني على الطريق الصحيح. لكنني لم أكن أتعجل النشر. كنت في غاية الصرامة مع نفسي ولا أزال كذلك. أتذكر أن أندادي كانوا إذا كتبوا بضع قصائد أو رواية صغيرة يسارعون إلى البحث عن ناشر. أما أنا فكنت أقول لنفسي «أنت لا تنشر، بل تتريث قليلا». احتفظت ببعض من ذلك والبقية رميتها. حينما نشرت للمرة الأولى كنت قد تجاوزت الثلاثين، وكان ذلك قبيل رحيلي إلى باريس. وكان ذلك كتابي القصصي الأول Bestiario الذي صدر سنة 51 في نفس الشهر الذي ركبت فيه المركب لأحضر إلى هنا. قبل ذلك، كنت قد نشرت نصا صغيرا بعنوان Los reyes ، وهو عبارة عن حوار. كان لدي أحد الأصدقاء مال كثير، فكان ينشر طبعات صغيرة لنفسه وللأصدقاء، فأصدر طبعة خاصة. وهذا كل ما هنالك. لا، بل هناك شيء آخر ـ خطيئة من خطايا الشباب ـ كتاب سوناتات. نشرته بنفسي، لكن باسم مستعار. • وكتبت أغنيات ألبوم تانجو أخيرا Trottoirs de Buenos Aires. ما الذي جعلك تبدأ في كتابة أغنيات التانجو؟ ـ لا تنس أنني أرجنتيني صالح، وبورتينو في المقام الأول، أي من أبناء بوينس أيرس، أي ابن مواني لأن المدينة ميناء أيضا. والتانجو موسيقانا التي نشأت في أجوائها. كنا نسمع التانجو في الإذاعة، فقد افتتحت الإذاعة وأنا صغير، وسرعان ما بدأت تذيع التانجو بعد التانجو. وكان في أسرتي من يعزفون التانجو مثل أمي وخالتي على البيانو ويغنينه أيضا. ومن الإذاعة سمعنا كارلوس جارديل وعظماء المغنين في ذلك الزمن. صار التانجو أشبه بجزء من وعيي، وهو الموسيقى التي تردني إلى شبابي مرة أخرى وإلى بيونس أيرس. لذلك أنا واقع في التانجو، وإن تكن لي تحفظات عليه، فلست من أولئك الأرجنتينيين الذين يظنون أنه أعجوبة الأعاجيب. أعتقد أن التانجو إجمالا، وبالذات في مقابل الجاز، هو موسيقى شديدة الفقر. فقيرة وجميلة معا. هو أشبه بالنباتات شديدة البساطة التي لا يمكن أن نقارنها بأوركيدة أو شجيرة ورد، ولكنها تنطوي في ذاتها على الكثير من الجمال. في السنين الأخيرة، بدأ أصدقاء لي يلعبون التانجو هنا، فرباعي سيدرون أصدقاء عظماء، وعازف الباندونيون خوان خوسيه موساليني، وبذلك نستمع للتانجو ونتكلم عنه. ثم حدث ذات يوم أن خطرت لي قصيدة فكرت أنني قد أقوم بتلحينها لا أعرف كيف. ثم نظرت في قصائدي غير المنشورة (وأغلب قصائدي غير منشور)، فوجدت بعض القصائد القصيرة التي تصورت أن هؤلاء الأصدقاء قادرون على تلحينها، وذلك ما فعلوه. وفعلنا العكس أيضا. إذ أعطاني سيدرون ثيمة موسيقية كتبت لها كلمات. أي أنني فعلتها من الاتجاهين. • الإشارات السيرية في كتبك تقول إنك أيضا عازف ترومبيت هاو. هل حدث أن عزفت مع فرق؟ ـ لا. هذه مجرد خرافة اختلقها صديقي بول بلاكبيرن الذي مات صغيرا بعض الشيء للأسف. كان يعرف أنني أعزف شيئا من الترومبيت، لنفسي في المقام الأول في البيت. فكان يقول لي دائما «لا بد أن تقابل بعض العازفين وتعزف معهم» فأقول له كالأمريكيين «لا، ليس لدي ما يلزم». كانت تنقصني الموهبة، كنت ألعب لنفسي لا أكثر. كنت أضع في المسجل موسيقى لـ جيلي مورتن أو آرمسترونج أو شيئا من بدايات إلينتن، حيث يسهل تتبع النغمة، لا سيما في موسيقى البلوز التي أحتفظ لها ببرنامج خاص، وأستمتع بالاستماع إليها مع إضافة عزفي للترومبيت. أعزف بمرافقتها ... لكن ليس معها بالقطع. ولم أتجاسر على الاقتراب من موسيقيي الجاز، والترومبيت الخاص بي ضائع حاليا في مكان ما من الغرفة المجاورة. أضاف بلاكبيرن هذه المعلومة في إحدى سيري المرفقة بكتاب ما. ولأن لي صورة وأنا أعزف الترومبيت يظن الناس أنني أجيد العزف فعليا. وكما لم أرد النشر قبل أن أتأكد، كان هذا هو الحال نفسه مع الترومبيت، فلم أشأ أن أعزف عليه قبل أن أتأكد. ولم يحل هذا اليوم. • هل عملت على أي رواية منذ «الدليل الإرشادي إلى استعمال الأدلة الإرشادية»؟ ـ للأسف لا، لأسباب واضحة للغاية. ذلك يرجع إلى العمل السياسي. الرواية بالنسبة لي تستوجب تركيزا وقدرا من الوقت، لا يقل عن عام، أعمل خلاله في وداعة ولا أتوقف عن العمل. والآن لا أستطيع أن أفعل هذا. قبل أسبوع لم أكن أعلم أنني سوف أسافر إلى نيكاراجوا في غضون ثلاثة أيام. وحين أرجع لا أعرف ماذا سيكون من أمري بعد ذلك. ولكن هذه الرواية تنكتب بالفعل. هي موجودة، في أحلامي. أحلم طول الوقت بهذه الرواية. لا أعرف ماذا يجري فيها، ولكن الفكرة موجودة. ومثلما في القصص، أعرف أنها ستكون أميل إلى الطول، وفيها عناصر فنتازية، لكن ليس الكثير منها. ستكون من جنس «الدليل الإرشادي إلى استعمال الأدلة الإرشادية»، حيث مزيج من العناصر الفنتازية، لكنها لن تكون كتابا سياسيا. ستكون أدبا محضا. أرجو أن تمنحني الحياة جزيرة صحراوية، وإن تكن الجزيرة الصحراوية في هذه الغرفة، وسنة، لا أطلب إلا سنة. لكن حينما يكون الأوغاد ـ من الهندوراس والسوموشياتاس وريجان ـ منهمكين في تدمير نيكارجوا ـ لن تتوافر لي جزيرتي. وليس بوسعي أن أبدأ الكتابة، إذ ستبقى المشكلة مستحوذة عليَّ طول الوقت. وتبقى لها الأولوية العليا. •وقد تصعب الموازنة بين الحياة والأدب. ـ نعم ولا. الأمر يتوقف على نوعية الأولويات. لو أن الأولويات من النوع الذي ذكرته للتو، أي تتعلق بالمسؤولية الأخلاقية، أوافقك الرأي. لكنني أعرف كثيرا من الناس دائمي الشكوى «أريد أن أكتب روايتي، ولكنني أريد أن أبيع البيت، وعندي مشكلة الضرائب، فماذا أفعل؟» أسباب من نوعية «أنا أعمل في وظيفة طول اليوم، فكيف تنتظرون مني أن أكتب؟» بالنسبة لي، كنت أعمل طول اليوم في اليونسكو ثم أرجع إلى البيت فأكتب «لعبة الحجلة». عندما يرغب المرء في الكتابة يكتب. عندما يكتب على المرء أن يكتب فإنه يكتب. • هل لا تزال تعمل في الترجمة أو الترجمة الفورية؟ ـ لا، خلصنا. أعيش حياة شديدة البساطة. لست بحاجة إلى الكثير من المال لأشتري أشياء من قبيل التسجيلات والكتب والتبغ. لذلك أستطيع الآن أن أعيش من عائدات كتبي. كما أنهم يترجمونني إلى لغات كثيرة فأحصل على مال يكفيني للعيش. على أن أتحلى بشيء من الحذر، فليس بوسعي أن أخرج لأبتاع يختا، لكن بما أنني لا أعتزم نهائيا أن أشتري يختا ... • هل وجدت متعة في الشهرة والنجاح؟ ـ اسمع، سأقول شيئا لا ينبغي أن أقوله لأن الناس لن تصدقه، لكنني لا أجد متعة في النجاح. أنا سعيد أنني أعيش وأكتب، لذلك عليَّ أن أتسامح مع الجانب الجماهيري والنقدي من النجاح. ولكنني كنت أسعد حالا كإنسان وأنا مجهول. أسعد كثيرا. الآن لا أستطيع الذهاب إلى أمريكا اللاتينية أو إلى أسبانيا بدون أن يتعرّف عليَّ أحد كل عشر خطوات، والأوتوجرافات، والمعانقات ... هذا مؤثر للغاية، لأنهم قراء يميلون في أكثر الحالات إلى الشباب. أنا سعيد أنهم يحبون ما أكتبه، لكنه أمر مؤسف للغاية بالنسبة لي من حيث الخصوصية. لا أستطيع أن أذهب إلى شاطئ في أوروبا، ففي غضون خمس دقائق يظهر مصور فوتوغرافي. لي مظهر فيزيقي لا أستطيع إخفاءه، لو كنت ضئيلا لحلقت لحيتي وارتديت نظارة داكنة، ولكن مع طول قامتي، وطول ذراعي وما إلى ذلك، يكتشفني الناس من على البعد. في المقابل، هناك أشياء جميلة للغاية، كنت في برشلونة منذ شهر، وكنت أسير في الحي القوطي ذات مساء وكانت هناك فتاة أمريكية شديدة الجمال تعزف الجيتار ببراعة وتغني. كانت جالسة على الأرض تغني لتكسب لقمة عيشها. كان في غنائها شبه قليل من جوان باييز، بصوت شديد النقاء والوضوح. وكانت جماعة من شباب برشلونة تستمع إليها. توقفت لأستمع، ولكني بقيت في الظل. وفي لحظة ما اقترب مني أحد أولئك الشباب وكان في العشرين تقريبا، صغيرا للغاية، وشديد الوسامة. كان يحمل كعكة. قال «خوليو، خذ قطعة». فأخذت قطعة وأكلتها، وقلت له «شكرا جزيلا على هذا» فقال لي «لكن اسمع، ما أعطيته لك قليل جدا قياسا إلى ما أعطيت أنت لي». قلت «لا تقل هذا، لا تقل هذا» وتعانقنا ومضى كل في طريقه. أشياء كهذا، هي أفضل جزاء لي عن عملي ككاتب. أن يأتي إليك ولد أو فتاة فيقدم لك قطعة من كعكة، هذا رائع. ويستحق عناء الكتابة. نشر الحوار في مجلة باريس رفيو، عدد 93 في خريف 1984، وهو رقم 83 في سلسلة « فن القصص».