شرفات

حديث عن الشـعر

سماء عيسى - ( 1 ) أقف هنا متحفظا ومصطلح: القطيعة، عندما يعني ذلك وضع فواصل زمنية بين جيل وآخر والذي عليه تعتمد الفواصل الميكانيكية بين الأجيال، ويقطع الجريان الطبيعي لحركة الشعر وهي تسيل هادئة دون ضجيج، حتى تأتي تشكلها النهائي وتعطي ثمارها ولو بعد صمت طويل، ويكون الشعر إذ ذاك رافداً من روافد الحركة العامة للمجتمع وهو يعيد تشكيل أدواته الإبداعية سياسيا واجتماعيا وثقافيا في حركة هادئة لا تبصر في سطح الأرض، ذلك لأن تفاعلاتها تتم في أحشاء المجتمع وظلماته. إلا أن القطيعة تنطبق حقاً على مراحل زمنية أخرى في تاريخ الإبداع العربي، أهمها حركة تجدد الشعر العربي بعد 1948م. أي المرحلة التي عرفت اغتصاب فلسطين وتبلور تيارات سياسية وفكرية جديدة مهدت لقيام حركات التحرر العربي التي توجت تحرير معظم أقطاره من هيمنة الاستعمار الغربي. لكنني أظل خاصة والحديث عن تجربة الشعر العماني المعاصر، متعارضا ومصطلح القطيعة محاولا استبداله بصفة التخمر الطويل الذي لا بد من إنجاز سيره، سواء كان ذلك كحركة ثقافية عامة أو حتى مع تمثل ذلك فرديا وهو ما سأحاول إيضاحه في السطور التالية. كانت تجربة الشعر العماني الكلاسيكي قد وصلت ذروتها لدى شاعر كبير، عاش جل عمره الشعري في المهجر الأفريقي، هو الشاعر ناصر بن سالم بن عديم الرواحي المتوفى في عام 1339 هجري. لقد عاش الرواحي تجربتين أوهجتا صوته الشعري. تجربة الشعر الصوفي وقد حملها معه من عُمان متأثرا بأستاذه الشاعر سعيد بن خلفان الخليلي والذي جاءت وفاته المبكرة خسارة كبيرة للتجربة الشعرية العمانية خصوصا في منحاها الصوفي، مشكلا الرواحي بذلك خاتمة عقد ثلاثي ثمين في منحى الشعر الصوفي العماني الذي كان قد ابتدأ جلياً لدى الشيخ جاعد بن خميس الخروصي ناظم القصيدة الشهيرة حياة المهج. ثانيا : تجربة التنوير الإسلامي والتي كان البهلاني رائداً لها في المهجر الأفريقي. وذلك عبر رئاسته لتحرير جريدة النجاح، وتفاعله مع هذه التجربة في المشرق العربي. تجسدت عبر مشاركته في المؤتمر الإسلامي بالقاهرة بقصيدة تنم عن حس تنويري متقدم، ألح فيها على المصريين الأقباط والمسلمين تجاوز التعصب الضيق والاتجاه نحو الانتماء الوطني الواحد، مشيداً بدور رياض باشا، رئيس المؤتمر في احتواء الخلافات الضيقة بينهم. هزت العالم أدوار البشر ينقضي الدور بأدوار أخر كل دور رقص الدهر له ضايق العالم وارتاد القمر إن هذا النيل أم حافل كلنا يرضع منها ويذر رضعتها لبنا ثم دما واغتبطنا بمشاش ووبر وهي لا يقنعها ما ترتمي لا ولا يقنعها بلع الحجر ذكرتنا بعصا موسى على أن ذي تلقف أرواح البشر نيلنا في الغرب يجري ذهبا وبقينا نترامى في الحفر لقد تواصلت تجربة هذا الرائد التنويري مع رموز التنوير في عصره، مثل محمد رشيد رضا صاحب المنار، زكي مبارك صاحب الرسالة، ومع الإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، ومن الجزائر مع الشيخ محمد بن يوسف أطفيش، ومن ليبيا مع المجاهد سليمان الباروني وغيرهم. سنواصل تتبع هذه التجربة بعد وفاة البهلاني في 1339 هجري، ليس ذلك فحسب بل حتى انحسار وهج مرحلته أيضا، أقصد انحسارها السياسي ابتداء منذ خمسينيات القرن الماضي. فقد بقي في وهج الشعر الكلاسيكي الشاعر العماني الكبير عبدالله بن علي الخليلي، الذي ظل وفياً لتجربة أسلافه من الشعراء العمانيين، ثم إن شعراء آخرين حملوا من أبي مسلم روح الشعر النهضوي مجددين بذلك روح الشعر عبر تجدد ثيماته ومفرداته وصوره، ويعتبر الشاعر أن سليمان بن سعيد الكندي الذي رافق المجاهد الشيخ سليمان الباروني في تجواله العماني وكان صوته الشعري ما حدا بالعمانيين إلى أن لقبوه بشاعر النهضة، وتلاه بعد ذلك الأستاذ عبدالله بن محمد الطائي الذي تعدت مساهماته الأدبية الشعر، ذاهبا إلى تأسيس تجارب إبداعية جديدة كالرواية والقصة والمسرح والمقالة والحديث الإذاعي والدراسة النقدية والتاريخية. هكذا لا نلمس قطيعة ما حتى هذا التسلسل التاريخي الإبداعي، لكننا بعد هذه المرحلة لو اصطلحنا على تسميتها بمرحلة ما بعد الشعر البهلاني والتي أعطت كل ثمارها حتى سبعينيات القرن الماضي رغم بقاء أحد أهم رموزها حيا إلى عام 2000 ميلادية وهو الشيخ الشاعر الخليلي. إلا أنه بعد تلك المرحلة عاشت التجربة الشعرية تخمرها الجديد وذلك إلى حين نضوج أصواتها الشعرية بمختلف اتجاهاتها منذ بداية الثمانينات في القرن الماضي والتي هي حتى الآن تسير في عطاء متواصل مع أجيال أشرقت تجاربها في التسعينيات منه أو حتى في أوائل القرن الحالي وحتى يومنا هذا. ( 2 ) محور للحنين لابد لنا إذن من أن نعود إلى أولى قصائد الحنين في تاريخنا، هي قصيدة مالك بن فهم عندما توسطت إبله الطريق فحنت إلى مراعيها، وأقبلت تلتف نحو السراة، وتردد الحنين فقال في ذلك: تحن إلى اوطانها بزل مالك ومن دون ما تهوى الفرات المقارف وسيح أبي فيه منع لضائم وفتيان أنجاد كرام غطارف فحنى رويدا واستريحي وبلغى فهيهات منك اليوم تلك المآلف لا بد من الإلتفات إليه، لأنه يغذي لدينا تجربتين أساسيتين في الشعر العماني عبر العصور، الأولى هي ثيمة الحنين والثانية هي ثيمة التطلع نحو المجهول. لقد شغل العمانيون طويلا ثيمة الحنين، وذلك بسبب عوامل الهجرة والفراق والنأي والفقدان، وعبروا عنها في كافة وجوه الإبداع لديهم، شعراً وسرداً وغناء ما يجعل الحديث عنها وعن علاقة المبدع العماني بها أمراً يتطلب بحوثاً ودراسات لم تحظ بالظهور بعد. لكنني أستطيع عبر هذه العجالة تقديم الملامح الأساسية لهذه الثيمة التي تضيء قصائد للحنين إلى المكان المقدس لدى أحمد بن النضر في لامية الحج وابك عند الوداع منك وأسبل ماء عينيك بالبكا أسيالا وعلى البيت فاسكب الدمع شحا واسقه منك واكفا وسجالا وإذا ما نفرت قلت إلهي تايب آيب إليك انتقالا ثم ثانيا قصائد الحنين للوقوف بين يدي الخالق جل وعلا، كما هو لدى سعيد بن خلفان الخليلي عرج على باب الكريم المفضل والثـم ثراه ســــــاعة وتذلـل فلئن رزقت لدى حمـاه وقفة تربت يداك بنيل مـا لم تأمـل ولئن نشقت شذا ثراه سـاعة فلك البشـارة بالمقـام الأطـول ولئن ترى ذاك الجمـال هنيهة فاسحب ذيول التيه فخرا وارفل ولئن صددت أو ابتعدت فعد إلى إرســال دمع كالعقــــــائق مسبل والهج بأنواع الضراعة وابتهل مثل الغريــــق بلجة البحر الملي ثم مع تلميذه البهلاني نصل إلى ذروة تجربة الحنين في الشعر العماني، ذلك أن الشاعر يصعد الحنين ذا الجذر الصوفي الديني لدى ابن النضر والخليلي إلى حنين إلى نيل الشهادة التي يحن إليها هذا الشاعر الكبير: سميري وهل للمستهام سمـير تنام وبرق الأبرقين سهير تمزق أحشاء الربـاب نصالـه وقلبي بهاتيك النصال فطير تطاير مرفض الصحائف في الملا لهن انطواء دائب ونشور كذلك يصعد بتجربة الحنين إلى المنابت الأولى التي افتقدها نحو ذرى عالية، حيث شبه الشاعر استحالة فراقه عنها كاستحالة فراق الروح عن الجبين إلا بعد موته وهو يعود دائما إلى ظاهرة البرق الذي لديه رمز للحنين وباعث لمكمن الأعماق المفقودة: إن هيـج البـرق ذا شجـو فقد سهرت عينـي وشبـت لشـجو النفس نيـرانُ وصــير البرق جفنـي مـن ســحائـبه يا برق حسبك ما فـي الأرض ظـــمـآنُ إني أشـح بدمــعي أن يسيــح على أرض وما هـــي لــي يا أرض أوطــــانُ الإيجابي لاحقاً أن الحنين كثيمة غزيرة العطاء لدى الشعراء العمانيين حتى البهلاني قد تواصلت بثراء روحي بحيث هيمنت على أهم التجارب الشعرية لدى سليمان بن سعيد الكندي وعبدالله بن محمد الطائي كنماذج، بل وتعدت راحلة إلى شعراء النبط والأهم هنا هو الشاعر محمد بن جمعة الغيلاني. لدى سليمان بن سعيد الكندي يذهب الحنين في شقه الأول إلى الأمجاد الوطنية الغامرة وهو يعيش حالة نكوص وتراجع وتمزق: لهفي على الوطن العزيز أضيعا و شريف قوم صار فيه وضيعا لهفي عليه لو يفيد تلهفي أجريت من بعد الدموع نجيعا وطني العزيز لأنت أشرف موطن قد كنت غيثا ممرعا و ربيعا قد كنت يا وطني مطاعا في الورى و اليوم يا وطني أراك مطيعا قد كنت كهفا للمضام و ملجأ للخائفين و من يلوذ شفيعا ويواصل الكندي تجربة الحنين إلى منابته الأولى، من منفاه في سمر بور عندما رأى وهو في المنفى حمامة تنوح على شجرة. في سمر بور يا حمام أراك تكثرين النواح ما أشجاك أفراق أراعك اليوم مثلي أم حبيب بعد الوصال جفاك أيها الورق هل بكاؤك يجدي نفع شيء و هل بلغت مناك فأرى الصبر في النوائب أولى من بكاء أو من سماع غناك ولدى الأستاذ الطائي يأخذ الحنين شكلا من النواح الدائم على فقدان الأرض والعيش في هجرة ومنفى دائمين: أبدا على عيني و ملء فؤادي تبدو رؤاها رائحا أو غادي فكأنما هي للفؤاد نجية وكأنها للعين نور هادي أحيا على الذكرى فإن فارقتها أمسى منامي مثل شوك قتادي ويشترك الطائي مع الكندي في إثراء ثيمة الحنين باللواعج والمشاعر الحزينة على فقدان الوطن، وإن كان الطائي أقرب إلى روح الاستنهاض العربي بسبب تفاعله مع القضايا القومية عامة في المشرق والمغرب العربيين ولوجوده مستقراً في بغداد والكويت والبحرين وقت مد التحرر العربي. وأخيراً يتصاعد الحنين العماني إلى ذرى يكون معها من الصعب فصل الفردي عن الجمعي والذاتي عن الموضوعي، كما هو في رائية الشاعر محمد بن سالم الرقيشي التي يمتزج فيها الحنين إلى طفولته وصباه مع الحنين إلى أمجاد بلدته إزكي وإضاءاتها التاريخية وما قدمه لوطنه : يـا رعى اللّهُ أربعًا بـــــــــــــالنِّزار مُقْفراتٍ أو اهلاً بـالفخـــــــــــــــــارِ يـا سقـاهـا الـحـيـا وجَبَّى ثراهــــــــا وابـلُ الـمُزْنِ بــــــــــالغوادي السَّواري يـا سقـاهـا الـحـيـا بـودْقٍ هَتــــــــونٍ طَبَّقَ الأرضَ واكفٌ بـانهـمـــــــــــــــار يـا ربـوعًا رَبَعْتُ فـيـهـا زمــــــــــانًا للـتَّصـابــــــــــــــــي أَجُرُّ هُدْبَ إزاري ذكِّريـنـي معـاهدي وأعـيـــــــــــــــدي ذِكْرَ عَهْدٍ أَوانَ فـيك قــــــــــــــــراري ( 3 ) في المجهول الشعري نحن أمام رجل يغادر وطنه، وعند مشارف الخروج تتوقف الإبل وتلتفت لتلقي نظرة أخيرة على مراعيها. لكنه يحثها على مواصلة السير إلى المجهول، هذه هي الثيمة الثانية بعد ثيمة الحنين والتي سبق لنا الحديث عنها.. التي تقدمها تجربة المغامرة الإنسانية الكبرى لمالك بن فهم، وعندما نقرأها شعراً، فإنه يعبر بنا إلى ضفاف بعيدة في الكتابة، هي ضفاف القلق الذي يحملنا دوما إلى المجهول اللامرئي. إن أحد مصادر المجهول الشعري يسكن بأعماق الشاعر البعيدة، هناك في الجذور البعيدة المعنى مع اعتبار أن المجهول الشعري متعدد في روافده، وقلق الشاعر وهي ثيمة لصيقة بالشعراء، هي البحث عن هذا المجهول الذي هو الشعر. هي الرحلة الطويلة التي على كل شاعر قطع مسافاتها المظلمة، حتى مع علمه وإدراكه عدم إمكانية الوصول. ما إذا كنا نردد مقولة الشاعر الألماني هلدرين «الشعر أكثر الأفعال براءة» وذلك طبيعي حقاً، لخروجه عن معطيات أي تلوث بشري لاحق لفعل البراءة الأولى، لاقترابه أي الشعر من فعل وإبداع الطفولة البشرية الأولى، إلا أننا نردف «الشعر أكثر الأفعال قلقا والشاعر هو أكثر الكائنات الحية قلقا». القلق قلق الشاعر وجذره هو الأسئلة، الشاعر يطرح الأسئلة ولا يقدم إجابة ما على سؤال منها، لأنه لا يملك اليقين الذي يقف عليه، أرض الشاعر مهددة دوما بالانهيار إنه الشعر عدو الثبات والسكون أرض الحركة والاهتزاز مرتبطة بالحرية حتى أقصى حدودها البعيدة. ذلك ما يقودني إلى التوقف عند دالتين أو محددتين في طريق الشاعر، وهي المحددات التي تربط الشاعر بجذوره. أقصد اللغة كدالة أولى ثم المكان كدالة أخرى. وبافتراض أن اللغة، أحد أهم المكتسبات في تاريخ الإنسان، إلا أننا والحديث عن الشعر قد نصل إلى سلبية إعاقتها الوصول إلى نبع الشعر، أي الجرح أو الجذر مسكن الشعر الغائر في الأعماق؛ لذلك عشق الشعراء الصمت، أكثر من تعلقهم بالأداة اللغة كحامل للمعنى. عندما تخرج باللغة من الروح، تستقبلك في العتبات الأولى موسيقى الشعر، وقد شكلتها تركيبات لغوية في أنساق تراكمت عبر قرون بعيدة من التشكل. موسيقى الشعر هي ما سيرتفع بلغتك متجهة بالنص إلى التكثيف، واعتقد أنه بسبب ذلك لاحقا يوحي إلينا الشعر بالغموض، ويوحي إلينا بقابلية قراءته المتعددة، والتي جاءت بالأساس ومن تجربة كل منا الخاصة في استقبال النص، لأن تفاعلنا كقراء مع نص ما يعتمد حقا على التماس أو التنافذ، الذي يتم بين روح النص وروح القارئ. وما أجده في أحيان كثيرة، عدم حاجتنا إلى الكثير من الشرح والتفاصيل والزخرفة، كي نصل إلى لب القول وجوهره. لا تملك القضية أداءً هادفا بغية الإقناع، لغتها ليست لغة الخطيب أو السياسي أو الفقيه، لغة تأتي من الروح متجهة إلى الروح أيضا، خارجة عن التحديد أيضا، خارجة عن التعريف، لغة الشعر لا زمان يحكم انتماءها، بل ولا مكان لكنها تصدر من جذر مكاني ما يشمل العالم بأسره. ولكي لا أصبح كمن يسبح بكم في فضاءات نظرية مجردة، أطرح قصائد ذهب بها التكثيف نحو تقديم نفسها بعيدا عن الزخرف اللغوي، قريبة من الجوهر، وذلك ما أعطاها القدرة على النفاذ، بل وأعطاها قدرة تلخيص حركة العالم في كلمات قليلة، ودون شك فإن موسيقى الشعر هي ما حفظت لها ترابطها الداخلي العميق، والذي قدمها كوحدة نصية متماسكة. أولا: موتوا قبل أن تموتوا هذه الجملة الشعرية الخصبة المختلف على مصدر قولها، تلخص ما أود قوله، إذ تحيط بها متحققة عناصر التكثيف والغموض وقابليات التأويل المختلفة، وهي حقا قصيدة احتفظت منذ قرون وستظل تحتفظ بفرادة لا تمس ولا تضاهى. ثم أطرح ثانيا قصيدة لمحمد بن عبدالجبار النفري، رغم قلة مفرداتها، هي حتى اليوم تقدم أبلغ شهادة على ضياع الإنسان وحصاره، بل وعدم قدرته على النجاة من الحصار: « ليس أمامكم باب فتقصدوه وليس وراءكم باب فتلتفتوا إليه» ثم أطرح ثالثا قصيدة رثاء من شعر الهايكو الياباني، في جملة شعرية واحدة يقدم الشاعر رثاءً بالغ الأسى لاحتفاظه بفرادة التكثيف وتصعيده الحي الملموس إلى أعلى درجات التجريد المأساوي : « في الغرفة دست على مشط زوجتي الميتة» ثم أخيراً أطرح نصاً للشاعر الفرنسي رينيه شار، يكتفي الشاعر بالتقاط مشهد طبيعي وتحويله إلى قصيدة حب، اعتمدت على تكثيف الجمال: « صخرتان تحابتا فاندهش الماء» لكن ما إذا كنا نتحدث عن اللغة كأداة تحمل روح الشاعر إلى الشعر ومنه إلى المتلقي، خروجاً عن محددات الإيصال اللغوي المباشر، وخروجاً عن أي محدد زمني يضع للنص قوالب تجهز عليه قبل انطلاقه، فإننا أمام المحدد الآخر وهو المكان، نعود إلى المحدد ولكن إلى ثرائه، لأنه حقاً أي المكان كذاكرة فردية أو جمعية مصدر غذاء روحي للشاعر، يشكل حداً آخر للغته الناطقة بروح المكان الذي تجلت منه. لذلك تمتلئ تجارب الشعراء بنفحة أماكن ولادتهم، بأرحام أمهاتهم، بالصحراء والجبال والبحار التي انحدروا منها، وكلما ارتبط الشاعر بمكانه وتجذرت تجربته في الأعماق التي جاء منها كلما قذف تجربته طليقة في رحم العالم الأوسع. من تلك الزوايا الصغيرة البعيدة، يشرق عالم واسع هو الشعر، من المكان المفقود وقد أصبح حلماً. يبدأ الشعر جرحاً صغيراً ينزف قطرة دم واحدة، ولكن ليتسع لاحقاً هذا الجرح لينزف بحيرات من شعر الجمال الصافي الخلاق. ذلك ما نسعى إليه ونحن نضع أولى خطواتنا في طريق الشعر المظلم الطويل. • مقال منشور في كتاب سماء عيسى الجديد «اقتراب من النبع: شهادات ومقالات في الثقافة والفكر والتاريخ» الصادر عن دار سؤال اللبنانية بالتعاون مع مبادرة «القراءة نور وبصيرة» عام 2017 إضاءة مقدمة للملتقى الأدبي فـي دورته المنعقدة بصحار 3 – 7 يوليو 2010 م