شرفات

مهندسو الأرواح بمناسبة اليوم العالمي للمسرح

966269
 
966269
آمنة الربيع - (ا) اليوم السابع والعشرون من شهر مارس من كل عام يصادف مناسبة عزيزة ومجيدة وخالدة على قلوب المسرحيين وأفئدتهم. إنه اليوم العالمي الذي خصصته منظمة اليونيسكو العالمية عبر المعهد الدولي للمسرح بمدينة الموسيقى فيينا للاحتفال بالمسرح، لتنطلق المناسبة بافتتاح الموسم المسرحي الباريسي لمسرح الأمم ولتعم الاحتفالية أرجاء العالم كله منذ 1962م وإلى يومنا هذا. وعندما لم يكن هناك نوع أدبي يدعى فن القصة القصيرة ولا نوع أدبي متقدما يدعى فن الرواية كان هناك المسرح وأناشيد الديثرامب وهوميروس. ففي البدء رسم اليونانيون ملاحمهم العظيمة بابداع، ليكون المسرح مفازة واسعة للتأويل، وساحة تستقبل الحروب والخراب والسلام والجمال والحبّ معا. (ل) للمسرح حياة أخرى. وبتعبير إيزابيل هيوبرت التي ألقت كلمة يوم المسرح العالمي 2017م نؤكد معها: «... بالفعل المسرح لديه حياة مزدهرة يتحدى بها الوقت والفضاء... والمسرح يُبعث من جديد من خلال رماده، يظل المسرح حيا من خلال إعادة تدوير أشكاله القديمة وتشكيلها من جديد... المسرح قوي جدا، فهو يقاوم، وينجو من كل شيء، من الفقر، والحروب، والرقابة، والبؤس... لاستحضار الجمال في المسرح عليك أن تتحدث عن الخيال، والحرية، والأصالة، والتعددية الثقافية، عليك أن تطرح أسئلة لا يمكن الردّ عليها... إلخ». ما الذي لم تقله إيزابيل؟ ما الذي تسترت عليه أو كادت أن تُخفيه؟ شدني في كلمتها التائهةُ والمبعثرة العوالم تطرقها إلى قوة المسرح، وهي كما يبدو لي لا تكون في قوة عسكرية ولا في خطابات الأمم المتحدة؛ إنها قوة روحية عالية جدا، يُهندسها فنانون يملكون رؤية وحلما وأملا بالتغيير لواقع آمن. وفي تقديري قولها أن أحد استحضار الجمال في المسرح يكون بالتحدث عن التعددية الثقافيّة. وهذا صحيح إلى حد كبير. فالتعددية الثقافية في أحد معانيها العليا هي القدرة على التصالح مع الذات والاختلاف أولا، ثم التسامح تجاه الآخرين الذين يرفلون حياتنا بالألم والأمل معا. ولكن، عند هذه النقطة، ينبغي علينا أن ننتبه إلى قوة حصار الأيديولوجيا التي خرّبت المسرح. فعندما أنشغل المؤدون بوظيفة (الرسالة السياسية وليس إنسانية الإنسان) على حساب الحياة، تضعضع الاشتغال الجمالي واختفى التمثيل والسينوغرافيا، وحضر الفراغ الممجوج، والتكرار الهزيل لأنماط متكلسة وتقليدية من الفنون. وبما أن للمسرح حياة أخرى مزدهرة بالأمل، فسنقاوم. (م) مايرخولد، فسفولد إيميلتفتش (1874-1943) عاشق للمسرح ومتعدد المواهب والنشاط الفني. جمع المحاسن الثلاث: التمثيل والإخراج والتدريس. أعدّه من أهم المنظرين للمسرح الجديد أو مسرح المستقبل الذي يجمعنا اختلافه، وتضمنا محبته واحتفاليته العالمية. انطلق مايرخولد كمنظر للمسرح من إيمان في نفسه وقناعة داخلية لديه أنه سيكون يوما أحد قادة التغيير. فقال في حفلة التخرج بالمعهد الذي درس فيه: «لا يمكن للمسرح والحياة الروسيين أن يراوحا مكانهما، ولا بد أن تقوم المعارك في المستقبل من أجل مسرح روسي جديد، ولسوف يكون كل منّا مشاركا فيها». يا ترى كم منّا موجود في داخله هذا المايرخولد العاشق والمقاوم والمثقف العضوي؟ كم واحد منّا يعيّ أهمية المسرح في هذه الحياة القصيرة الأجل، ويعي قوة الدور الذي سيلعبه كأنه سيموت غدا؟ كم منّا سيختلف مع أستاذه المسرحي كما اختلف وعارض مايرخولد معلمه ستانيسلافسكي، ومثلما كان هناك تلميذ عظيم كان هناك أستاذ عبقري عظيم، فاليوم لا يُذكر المسرح في روسيا إلاَّ ويُشار إلى هذين الاسمين المجددين، فلتهنأ بهما روسيا. انطلق مايرخولد من رؤية ومختبر للتجريب. فبعد أن غادر المسرح الفني عام 1902، بدأ نشاطه في تقديم لغة مختلفة في الإخراج. لم يكن حداثيا دفعة واحدة، ولم يكن أيدلوجيا بقرار رسمي. لم يركب موجة سياسية عارضة، لم يكن متسلقا ولا خانعا ولا منافقا. لم يكن فئويا ولا متطرفا إلاّ في لحظة عشقه للمسرح، ألم يقل في عام 1912: «قبل كل شيء أنا، وعلاقتي الخاصة بالعالم، وكل ما أتناوله مادة لفني لا يتطابق مع حقيقة الواقع، بل مع حقيقة نزوتي الفنية»، فكان كّل ذلك معا؛ العالم المسرحي والذات المتطرفة بفن المسرح. تبدت حداثته الأولى في تأثره بالتيارين الأدبيين في عصره (الرمزي والانطباعي والذاتية)، فأخذ موقفا صريحا من لغة المسرح الطبيعي المبتذل، فالعمل على المختبر المسرحي لتكوين أساس علمي ومبدأ حقيقي في فن التمثيل. هو مسرحي ثوري امتلك مشروعا لتغيير لغة الإخراج على الرُّكح. كانت الثورة على الرُّكح وتقاليده شغله الشاغل في تعاونه مع الممثلة الشهيرة كوميسار جيفسكايا، فانفصاله عنها بعدما تخلت عن خدماته، وقاده إلى تطور أبحاثه المسرحية لتأسيس ما سيعرف بعد ذلك بمنهج البيوميكانيك. آمن بالتغيير الجذري للمسرح في بلده روسيا، لكن السلطة الحاكمة كشأن أيّ سلطة حاكمة في العالم، وفي كل مكان كان لديها وجهة نظر أخرى. لم أكن قد ولدت في ذلك الوقت لأحضى بمشاهدة عرض مسرحية (الدكتور ستوكمان) التي عُرضت في بطرسبوغ عام 1901م، ولم تكن وسائط الميديا اليوم قد تكونت وتعصرنت بأسلوب العصر ليتسنى لنا توجيه جوجل ليبحث لنا عن هذه المسرحية. يُقال إن هذه المسرحية قد دفعت مايرخولد إلى التفكير في نواة المسرح السياسي وشرطه التاريخي. جاء ذلك في فكرة مايرخولد أن «اندماج الصالة مع خشبة المسرح يكون أقوى عندما يمر الشعب بأحداث جسيمة»! ويبدو أن هذه الفكرة التي لاقت صداها عند مسرحي عربي هو سعدالله ونوس لم يعد لها ذلك التأثير، فعلى الرغم من السياسة التي يغمر وجهها اليابسة؛ فالمسرح يخجل من تحطيم أشكاله التقليدية في التناول، أو ربما، من وجهة نظر أخرى، أن الجمهور لم يعودوا قادرين على التجاوب الجيد مع المسرح! فماذا نريد بالضبط أيّها المهرولون في الكواليس: مسرح سياسي أم السياسة في المسرح؟ حاصل جمع ذلك هو مشاهدة عرض يسمح بقراءة إنسانية. كتب مايرخولد مرة يقول: «كان الاتحاد السوفييتي على حق في زمنه المرحلي التاريخي عندما أطلق على الكتّاب الواقعيين الاشتراكيين في العهد السوفييتي مهندسي الأرواح. فالمبدع هو مرآة عصره. فكان جوجول، وبوشكين، وليمونتوف، وأسروفسكي الذين أنشأوا الأسس المتينة للمسرح الروسي، هم الناس الأكثر قدرة على تأمل الواقع وما يعتمل فيه من صراعات وتحديات. (س) سعدالله ونوس (1941- 15 مايو 1997م). هل تذكرونه؟ ليس مهما! هل نسيناه؟ لا أذكر! ونوس في كلمته التي ألقاها بمناسبة اليوم العالمي للمسرح عام 1996م قائلا: «لو جرت العادة على أن يكون للاحتفال بيوم المسرح العالمي عنوان وثيق الصلة بالحاجات التي ينهض إليها المسرح، ولو على مستوى رمزي، لاخترت لاحتفالنا اليوم هذا العنوان (الجوع إلى الحوار) والحوار الذي أعنيه هو الحوار المتعدد، المركب، والشامل، حوارا بين الأفراد، الحوار بين الجماعات. ومن البديهي أن هذا الحوار يقتضي تعميم الديمقراطية، واحترام التعددية، وكبح النزعة العدوانية عند الأفراد والأمم على السواء». في كلمتين متباعدتين (إيزابيل وسعدالله) لا يفصل بينهما بعدد السنين والحساب (21) عاما، بل المزيد من الإرهاب، والعنف، والاحتراب، والطائفية القاتلة. ارتفع معدل الفقر بين الشعوب يا إيزابيل، وكشر سادة الحروب والرأسماليون الجشعون عن أنيابهم ونشبوا أظافرهم في جلود الفقراء، وتفننت أساليب البلاغة في جهاز الرقابة. إلى أين سارت بنا الواحد والعشرون سنة الماضية؟ ماذا دبجنا من كلمات، وكم من المنابر التي صعد عليها متحدثون رسميون وممثلون ليكلمونا عن السلام، والحب، والزنبق، وحياة كريمة بلا كراهية؟ كم طفل مات في حروب الطغاة القتلة؟ كم مدن أُبيدت ولم يعد لها أثر؟ كم من أغاني الصباحات والمساءات اغتالتها يد قناص ليأكلها الذئب؟ لم يعد للفاكهة طعم ولا للطعام مذاق؟ كم جاعت شعوبنا إلى الحوار واليوم تجوع إلى الحياة! واحد وعشرون عاما بين كلمتين طافحتين واحدة بالذاتية والثانية بالمجموع. كلمة تؤمن بتناسخ الحيوات ليزدهر بها المسرح، وكلمة شخصت أمراض المسرح في خداع الذات الكبير: «المسرح في تقهقر»، هكذا تكلم ابن قرية حصين البحر المسرحي الراحل سعدالله ونوس. وعندما يتقهقر المسرح، فكلّ الحياة تسير إلى الوحل وهي واثقة من خطاها. كم عدد الرصاصات والقذائف التي أطلقت على الشعوب ما بين كلمتين لا تقولان لنا شيئا عن أسرار الحرب، سوى أن القادة الزعماء من العسكريين وضباط الجيش هم الذين يصنعونها! ماذا قال لنا المسرح في العالم كله عن ضحايا الحرب الباردة والديمقراطية القذرة؟ (ر) ربيع المسرح العربي لم يهرم ولن يشيخ. البركة في قوة الروح رغم تعب الجسد. هكذا يحكمنا الأمل. لكن اللحظة التراجيدية الخالدة التي نراها اليوم هي أن الآلهة قد قطعوا صلتهم بالبشر تاركين إياهم لمواجهة فنائهم، وتلك هي العلامة الفاصلة للتراجيديا.. من المأمول لمواجهة الامحاء السحيق القادم لعالمنا أن نعود إلى ما يقويّ شبكة العلاقات الدرامية للنص المسرحي. إلى الشخصية بكل أبعادها، والفكرة بعناصر تجددها وواقعيتها ورمزيتها. هل نتذكر كعب أخيل؟ وهل نتذكر وقوف الرجعية تجاه مسرح أبي خليل القباني؟ يعودان إلى ذاكرتي في لحظة غريبة، كعنقاء يخرجان من الرماد. أليسا هما جوهر الربيع؟ ألم يؤثث أخيل حياة مزدهرة للأسطورة ويسقيها ماء النهر بالجريان الدائم الذي لم نستحم فيه منذ قطعنا حبل السُرة مع العنقاء! ألم يبرهن حرق مسرح القباني أن النار واحدة في كل مكان، وأن مآلات السقوط الحرّ قد جرى بإرادتنا واختياراتنا؟ هل بمقدورنا أن نتغاضى عن طعم الربيع المرّ؟ فماذا فعلت بنا أيها الربيع؟ سوف نكرر إننا محكومون بالأمل يا سعدالله ونوس، وسنظل كذلك برغم التشوه الذي جرى في داخلنا. (ح) حوّل المسرحي برتولد بريخت (1898- 14 أغسطس 1956م) المسرح إلى حياة ثانية. قال كلّ شيء ومضى إلى حيث يرقد أسلافه الإغريق. وظننا أنه قال كلّ شيء ومضى. لكن الشارع العربي وجدران العالم ما تزال قادرة على الكلام، مثلما كان بريخت قادر على هدم الجدار الرابع. استطالت الجدران في العالم، وعلى الرغم من ذلك لم يفقد الممثلون الحالمون على الرّكح حلمهم وقيافتهم. الاستثناءات العاطلة والمعطلة كثيرة جدا تنتشر كالسلطة في كل حقل. كم من ممثل تبختر ساعته على المسرح واستشاط وظل واقفا إلى اليوم كعلامة مضيئة يحمل بين أضلاعه حلمه وخبزه؟ الجدران تستطيل وتكبر وتحاصر لتهدم أملنا في الحياة.. ولكن، سأقف هنا، لأنني أريد أن أظل حية في الأمل، لذا سأسارع إلى إنهاء هذه المقالة، وعلى خلاف إيزابيل هيوبرت ونقلا عن صموئيل بيكت (1906- 1989م) وهي تلخّص التفرد الزمني لليوم العالمي للمسرح «كان لا بد أن يكون يوما جميلا»، عذرا أيها اليوم؛ ليس بالضبط أنت كذلك عندنا في عُمان، لأننا فقدنا أحد عشاقك، وخسرنا أحد فرسانك وممثليك. نقص من قائمة المحتفلين باليوم العالمي للمسرح في عُمان إنسان نبيل وأخ كريم.. سالم بهوان (ت11 مارس 2017م)، رحمة الله عليك أيّها الأخ العزيز.. نعم احتفالنا ناقص بغيابك، وبمن ترجل قبلك من المسرحيين الكبار.. المسرحي الراحل محمّد الشنفري (1949- 9 إبريل 2016م)، واحتفالنا ينقصه اثنان من بلاد المغرب حيث الأحبة والخلان والأهل، الفنانان الممثل والمخرج جمال الدين الدخيسي، والممثل محمّد حسن الجندي.. المسرح خيمتنا واختبارنا الأبدي.. المسرح وجهتنا الأخيرة.