شرفات

كرة القدم.. المقهى ولذّة اختراق المحرّم

Untitled-1
 
Untitled-1
سيف الرحبي - أيتها الغيمة، مرضعة الأطفال والشجر، حامية الحِمى من زحف الصحراء والجفاف. منذ فجر الخليقة الأولى. وأنت تترحّلين بين الآفاق والمحيطات، أيتها الغيمة المعظّمة، تستَجدي عطاياكِ الأقوامُ والمفازات. حنانك العالي موصولاً في الليالي الموحشة إلى الأرامل والجرحى، فيض حنانك الإلهي أيتها الغيمة المبجّلة في الطقوس والديانات. *** كم أخطأتِ أيتها الجدّة في قضْم تفاحة الخطيئة، لتصنعي «حدث الجنة الوحيد». بذرة التأسيس الأولى للجريمة والشتات، أيتها الأم، الأم الأولى. الرحم الدامس الذي انشقّ من ضلع ناكحِه، كم أخطأت؟! لكن المقدر مكتوب على جبين السلالة مثل وشْم القطيع المتناسل في العراء الفاجر. *** حين أنظر إلى هذا الأعمى الإنجليزي، يشبك يده في ذراع عمياء مثله ، لا شعورياً أتذكر قول السيّد المسيح «أعمى يقود أعمى كلاهما يقع في حفرة». وربما المسيح قصد البعد الرمزي لعمى القلب والبصيرة.. هؤلاء العميان الذين نصادفهم في أكثر من زقاق ومدينة، لا يقعون في حفرة، لأسباب واقعية ورمزيّة، منها تلك العصا الإلكترونيّة التي تقودهم إلى جادّة صواب المكان المقصود. المؤسسات وجمعيّات العناية وذلك الحدس الذي يعوض به الله أصحاب العاهات. أتذكر (شعبان جلاصات) بسوق مطرح (خور بمبه) الذي يكون دائما بصحبة عمياء أيضا، بصوته العالي الأخاذ وهو يتوسل المارة لقمة عيش أو كسرة خبز.. كيف كان يتدبر أمره وسط ذلك الشح القاسي للمعيش. *** في مقهى ريفي بعيد.. هؤلاء الزبائن القليلون، بحيواناتهم الهائجة.. ذئاب رمادية ستكتسح القرية بعد قليل. قادمة من الصحراء الأسترالية، أو من الإسكيمو، حيث تتنزه متأملة مصير الروح في عزلتها القصوى، بينما ريح ثلجيّة تهب على الثَقلين محطّمة العلامات والجسور. *** هذا الوجه المعتّق في الوحدة والنأي، محتقناً من فرط السهر والكحول، لحظات سريعة تمر عليه، وهو يتأمل حياته كأي جنرال متقاعد، حين كان مع رفاقه يحتلون المدن والثكنات. بتثاقلٍ يمضي، إلى الحانة التي لا يعرف غيرها، ثكنته الجديدة، ناظرا في مراياها مصير الكائن برهة الأفول والاضمحلال. *** ما لهذه الشهوة التي لا تنضب مياهها الرقراقة إلى مؤخرات النساء والفروج. إلى نبيذ الأحلام المعتق والكروم. (أحلم بالغرق في مياه الروح الخالدة بعيداً عن الجسد الفاني) يقول الشاعر المحتدم بصراع هوامّ صحرائه وأنواتِه التي لا تُحصى. *** هل الأحلام حين نتذكر وقائعها الليلية في الصباح، ونحاول كتابتها نستطيع النقل الحرفي للصور والأحداث متسلسلة أو متقطعة كما هي طبيعة الأحلام على الأغلب؟ أم تخضع كأي مادة خام لشيء من التحويل في عبورها، عبور الطيور القادمة من فجاج الزمن وأطوار الحياة المتشابكة؟ كنت البارحة رأيتني في المدينة التي أحب، بأكثر من مكان، في فنادقها الدَبِقة وشققها وأزقتها التي تفوح منها رائحة القدم والتاريخ. هكذا ينفتح المشهد الحلمي وأنا في أحد الفنادق ألملم أغراضي المبعثرة في الغرفة. ذاهبا إلى المنزل الذي لا يبعد كثيراً، بل يمكن القول انه في حي الفندق نفسه، في الشارع وأنا أحمل الحقيبة رأيتني من غير حذاء، حافياً أمضي في الطريق نحو البيت العتيق. شملني اضطراب وارتباك، لا أعرف كيف أمضي من غير حذاء وسط حشود المارة؟ وإذ أتقدم في الطريق رأيت موتى مبعثرين من أعمار مختلفة.. هالني المشهد ونسيتُ أمر الحذاء، حين سألت أحد المارة في دروب الأحلام وترّهاتها: ما لهؤلاء موتى، هكذا مرميين مهملين في الزوايا المعتمة المتْربة، أجابني أحدهم، بأنهم أخذوا جرعات زائدة من مخدر (البانجو) فقضت على أحلامهم المنتشية ورحلوا عن دنيا البشر.. وفي (كادر) آخر من هذا المشهد الليلي أحمل كيساً فيه الكثير من الملابس المتسخة إلى المكوجي، لكن هناك من أتى وسرق الكيس، بقيت أفكر نادباً حظي. كيف أتدبر أمر الملابس من جديد، وكيف أتدبر أمر رحيلي من هذه المدينة وأنا لم أغير ملابسي المتسخة منذ زمن؟! في هذه اللقطة يجمد المخرج السماوي المشهد بكادراته ووجوهه التي تبتلعها سُحب الأحلام الحثيثة نحو فوّهات المسالخ والهاويات. *** إلهي... لماذا أتعثّر بقطيع الليل المظلم.. أنى هربتُ منه ونأيت ؟! *** ورود وكروم تعرّش فوق مقبرة (البريد الأخير) يستنشق الموتى منها رائحةُ الأيام السعيدة شاربين نبيذها كل صبْح ومساء.. *** كنت في المقهى، سارحاً أفكر (بعد حادثة الأمس وتلك الصفة اللاأخلاقية التي بدرت من البعض ممن كنت أتوسم فيه نقيض ذلك) أفكر حزيناً ومحبطاً، في تلك البلاد الكبيرة، تاريخا وشعوباً وجغرافيا، وقد أحالها التخلف والاستبداد الظلامي، إلى حطام بشر وأنفس منبتة العواطف والانسانية والأخلاق التي كانت موجودة كعناصر سلوكيّة لدى الأسلاف الراحلين.. وهي في حالتها هذه، إذ بالانفجار البركاني لتكنولوجيا ما دعي بوسائل التواصل الاجتماعي الذي صنعته حضارة الغرب بشكل رئيسي، يطوح بأولئك البشر إلى أصقاع صحارى تعمق أمراضهم وأوبئتهم النفسيّة والاجتماعيّة بشكل ينذر باليأس من أي أمل بشفاء قادم إلا من (رحم ربي)... وأنا على هذه الحال ساقطا في هوة الألم والحيرة المظلمة، إذ يلوح ضوء جمال روحي قادم من الكبير (إرنستو ساباتو).. «يوفر عصرنا لكل من يعيش حالة انسداد الأفق فيقرر الإقدام على خطوة الانتحار، أرقاماً، هاتفية. (للاتصال مع بعض المساعدين) أجل لا يزال في حقيبتا دون أدنى شك بعض ما ينبغي قوله لذلك الكائن الإنساني الذي تتوقف الحياة عن الظهور عنده بمظهر الخير الأسمى بل غالباً ما أقدم أنا نفسي بعض السند النفسي لأناس غالبا ما يشرفون على الهاوية. غدونا نبحث كيف تأتينا كلمة طيبة من الطرف الآخر للخط الهاتفي وحسب أو عبر جهاز الحاسوب، بينما انعدمتْ هذه الكلمة في بيوتنا ومقرات عملنا وفي الشارع العام كذلك ، وكأنما ما زلنا مجرد نزلاء في عيادة طبيّة محاطة بحاجز مُشبك، يفصل بعضنا عن البعض الآخر من وقوع اتصال وجداني بيننا ، كلما اجتمعنا حول مائدة واحدة قد يكون من الجائز جداً ألا يفضل في مُكنتنا أي شيء آخر يمكن فعله، عدا الركون لاستعمال وسائل الاتصال.. *** غارقاً بلجّة هذا الجمال بلجة هذا العَدْم أتأمل هذه المدينة فارغةً قوافل ترحل في ليلها الأبدي مزينةً بالهوادج يحملها الظاعنون مزينة بالنعوش *** إزاء معاناة الشعب السوري ومكابدته القتل والتدمير والإبادات الجماعيّة في كل الأماكن حيث الأبواب مغلقة والنوافذ والممرات حتى تلك التي تفضي إلى الموت على الأرجح، أصبحت محكمة السدّ والإغلاق عبر السنوات الدامية. والتي تختزل قرونا وأحقاباً من المعاناة والبطولات التي فاقت خيال الأساطير وحلت محلها حين يسرد السوري لاحقا شيئا من ملحمته للأولاد القادمين والأحفاد.. إزاء معاناة هذا الشعب ونبله التراجيدي، أفكر، انه من باب الاستحقاق والعدالة أن يمنحه التاريخ والزمن والآلهة بعض ما منحته للبشرية ماضياً وراهناً، من فضاءات حريّة وكرامة ورغد عيش ومعرفة وجمال، يطلع من بين جبال الخرائب والأنقاض. من باب العدالة والاستحقاق الطبيعي الأخلاقي القانوني المنطقي، أن يكافئ الرّب والتاريخ ، هذا الشعب بمثل هذا الوضع من كرامة وهدوء وسلام، ليعيد صياغة ذاته الخلاقة عبر السنين والعصور، وهذه ليست هبة فيها شيء من المجانية إزاء حجم التضحيات والصبر الخرافي على الملمات والإيمان بالإنسان وكرامته ، قبل كل شيء، إزاء قوى الطغيان التي تخجل كهوف تاريخ البشر وظلامه، من الانتماء إليها. إنها نوع آخر غير موجود ربما، ولا موصوف في الكتب والوقائع، نوع آخر من الضعة والانحطاط والحقد والعدوانيّة على كل ما يمُت إلى القيم الإنسانية قيم الحرية والعدل والجمال. انه طور آخر من الانحطاط البشري لم تعرفه العصور السالفة، طور آخر في الأرض السورية والعربية التقى وتقاطع واندمج على مقياس حجمه، مع قوى وعناصر نافذة الأوامر والمخططات على مستوى العالم ، قوى تمسك بزمام التاريخ الراهن وتقوده بلا ريب إلى الهاويات الأكثر غلظة وظلمة وانحطاطاً.. ان الكلام عن «الإرهاب» الصبياني المراهق والسريع الزوال، بأنه مولد الشرور والآثام والرعب، هو الهروب عينه ووجهه وروحه، من المسؤولية الكبرى للقتلة الحقيقيين، والذين من غير شك هم المسؤولون الأساسيون عن ولادة هذه الألوف من القتلة الذين دعتهم القوى المهيمنة بالإرهابيّين، وهم كذلك ممن اتسموا بضيق أفق الوعي حتى الامحاء العدواني وفقدوا الصلة والأمل، بالحياة والسياسة والتاريخ .. انهم العرض الزائل وبسرعة أكيدة، لكن أولئك القتلة الموسوعيين في قدراتهم وتحشيدهم وأموالهم الجمّة، أموال الشعوب المسروقة والمستعبدة هؤلاء هم مصدر الإرهاب والدم، خزّانه الكبير ورحمه الهائل الذي يتمدّد عَبر الجغرافيات والزمن والواقع الذي لا يُسرد عبر وسائل الإعلام النافذة، إلا ظلاله وأشباحه ان لم تكن الأكاذيب المحضة والافتراءات.. ان هؤلاء السوريين خصوصا والعرب وغير العرب عموماً، الذين يهيمون بأطفالهم وشيوخهم، في أرض البشر، مُقتلعين ومُذلين، ان هذه الموجات المتلاحقة لهذا التيه العاتي، العَدمي الأكثر قسوة من كل ضروب الاقتلاع والتشريد الذي عرفته الحروب والنزاعات، لا بد أن يثمر عنفاً معاكساً ومدلهماً أكثر شراسة، وانتقاماً ثأر الضحايا المقذوفين من الأطفال، والمراهقين وهم ينْمون وسط هذا اليباب الفظيع، وسط لامبالاة عربيّة وعالميّة. قل نظيرها تجاه غزارة هذا الدم المسفوك من العين إلى العين والروح ومن الوريد إلى الوريد.. ثأر الضحيّة النبيلة المغدورة، وهي في غمرة مطالبها البديهية بشيء من الكرامة والحريّة والمعيش الطبيعي كبشر في القرن الحادي والعشرين او في أي زمن كان.. *** اذا كان فلاسفة ومؤرخو فلسفة، وصفوا (عمانويل كانت) بأنه العبقرية التي لا تجود بمثلها الدهور إلا نادراً، فربما الوصف نفسه ينطبق على وليم شكسبير في الشعر والمسرح... ثمّة لافتات وكتب تزين واجهات المكتبات الانجليزية في القرية والمدينة، إذ أن المعرفة في الغرب الرأسمالي مُتاحة للجميع حتى أعماق القرى والدساكر والأزقة النائية الضيقة: انها الذكرى المئوية للكاتب الشهير بجدارة واستحقاق.. وما تزال الدراسة التي كتبها بهذه المناسبة الشاعر والناقد بول شاؤول ماثلة في الذاكرة وتكمن أهميتها وعمقها في أن اللبناني الكبير لم يركن إلى مرجعيّات الكتابات المتراكمة كالجبال حول الانجليزي الراحل منذ أربعة قرون، حيث أسقط شاؤول شخصياته بنوازعها المأساوية ومساخرها بتناقضاتها الحادة، المسالك والمصائر. على الراهن العربي وراهن العالم (فشكسبير يتذكّرنا) حسب عنوان الدراسة من فرط إلحاح حضوره في لحظتنا وراهننا الواقعي والرمزي.. ولسنا نحن الذين نتذكره، فهو يطبق على واقعنا ووقائعنا، إطباق المفترس على الطريدة الهاربة بين تضاريس الأماكن والعصور.. انه الفن الذي يتجدّد ويزداد راهنيّةً وتحققا مع تصرم الزمان ونأيه.. الفن الذي لا يشيخ ولا يموت ما دامت هناك حياة بشريّة وحيوانيّة على هذا الكوكب الموغل في حتفه وهلاكه، خاصة ذلك الجزء الذي نعيش في زاوية من زواياه المظلمة. «كأننا لا نتذكر شاعراً، رحل منذ أربعة قرون، فهو ليس ذكرى .. الذكرى يحدها ماضٍ أحياناً ويختزلها مستقبل وحاضر، كأن شكسبير قال للأجيال المقبلة «أكون معكم أو لا أكون» أتذكركم أو لا أكون، فهو معنا بحضور راسخ، طالع من عمق مآسينا وأفراحنا رغبتنا وجنوننا وحروبنا بكل هذه الديكتاتوريات السائدة المتحدرة من مئات السنين.. كأنه في القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر والعشرين وفي مظلات القرن الحادي والعشرين.. شمس لا تغيب عن مخيّلاتنا وكلماتنا وهواجسنا وأمراضنا ولا معقولنا ويومياتنا». يمضي شاؤول في الغابات الشكسبيرية، وأدغالها ووحوشها الساحقة. حنانها القليل ودمويتها الأكثر رسوخاً خاصة في (الدراما) إذ أن شكسبير في شعره المحظ، حميمي غنائي على شيء من الألفة، عكس تلك الدراما الجحيميّة المظلمة، دراما عصرنا الحاضر الذي نعيش ونسمع ونشاهد كل يوم ولحظة، في النوم الكابوسي وفي اليقظة المريعة، تعبر الأزمنة والبيئات والمحيطات.. تمضي الدراسة إلى ملامسة اللغز الشكسبيري ليس في المسرح والشعر وأعماق الهاويات التي تتخبط في غموضها شخصياته وعوالمه بل حول شخص الكاتب نفسه الذي يتحول إلى لغز والتباس مفعم بالغموض والغياب، حين طرحت في القرن التاسع عشر، بدايةَ السِجال، داليا بيكون زوجة الفيلسوف فرنسيس بيكون بأن شكسبير ليس هو كاتب أعماله وإنما زوجها الفيلسوف.. وقد تمكّنت من إقناع كثيرين أصحاب شهرة ونفوذ ثقافي أكيد مثل امرسون وولت وايتمان ومارك توين... الخ حتى كبرت كرة الثلج ليصل لائحة المرشحين ليكونوا هم الكتاب الأصليّين إلى 68 شخصاً، كلهم «شكسبير» ما عدا شكسبير.. شكسبير في هذه المرحلة التراجيكوميديّة تحديدا ، يتذكرنا نحن العرب أكثر، من مواطنيه ومحيطه الأوروبي، ولو ذكر شاؤول، أن العرب على ما ذهب أحد زعمائهم وهو شخصية شكسبيريّة بجانب كثرة، في الزعامات العربية. بأنهم أرادوا تملكه بتغيير اسمه (الشيخ الزبير) وأصله وانتمائه الولادي الحضاري، لاكتملت (دراما) الانتحالات والادعاءات والإسقاطات، في شكلها الساخر والسمج.. *** البروق نائمة في سمائها لتستيقظ مع الفجر الأخضر، تقبل أمطارُها أشجارَ الحديقة.. *** تجثو الأم على رضيعها النائم بحنو شجر الصفصاف على ذكريات النهر، على ذوائبه تستريح الطيور المهاجرةُ من رحلةِ الليل والنهار.. *** أما آن لهذه الريح العاصفة أن تستريح، من هذا العواء الجريح، الذي يختلط بعواء ذئاب تسرح في بيدائها والجبال.. ليل مجنون يَسرده نهار سكران.. نشوة الزمن الهارب من بين الأصابع والعيون.. *** تمضي الكلاب مندفعة وراء طرائدها ، كما يندفع البشر شلالاً أعمى وراء الحتف الذي يتربّصهم في القصور المشيدة بالتحصين والرفاه. *** يتحدث طفل السادسة عن ماضٍ وذكرياتٍ تمتد إلى ما قبل ولادة الكون .. *** أيها الغراب القادم من صحراء العرب، تطوي المسافة برقاً يشطر الكوكَب الى نصفين، برق الزلازل التي تشظت بفعلها الأراضي والقارات.. *** كل صباح ، أفتح نافذتي المطلة على الحديقة العامة في القرية ، أغصان الشجر تكاد تلامس النافذة والجدار الذي يعرّش فيه شجر اللبلاب،، أقرأ للجد ساباتو الذي تلامس سنوات عمره قرنا كاملاً، كما يلامس الشجر والنوافذ والحيطان وهو جد الرواية اللاتينيّة أيضا، يتأسى على الصدْع الفظيع الذي حصَل في مشاعر الناس وعلاقاتهم ببعضهم أو مع الطبيعة بأشجارها وحيواتها الضاربة في القدم والرأفة والحنان، ويتذكر في هذا المنحى كيف كان «صديقه (توريتوريللي) الذي ظل حبّه موقوفا على الأشجار، لكم كان ذلك أمراً مثيراً بشكل بليغ إذ كان هذا الصديق في بعض الأحايين، يعمد إلى تقبيل الأشجار التي توقظ في دخيلته الشجن لتلك الحقبة التي عمل فيها حارساً للغابة. لقد ظللنا نشعر برفقته بالسعادة الغامرة بينما نحن نقطع في جنّة (ثاغوني) ويمضي صديق ساباتو فتى الغابة في وصف حبه العميق للأشجار الأزلية التي تبقى بجذورها ومياهها وغموض ليلها المكتنز بالأسرار والجمال، فيما تزول الدول والامبراطوريات ويندثر على صخب مجدها الزائل أمام خلود أشجار الغابة المأهولة بمجد البروق الخفيّة والرياح.. أتذكر شخصيّة الايطالي (دي لوكا) في روايته (ثلاثة جياد) ذلك البستاني المفعم بحب الأشجار والحنين «الأشجار تحتاج إلى شيئين الغذاء من تحت التراب والجمال من فوقه.. إنها مخلوقات صارمة ولكنها طافحة بالبهاء». *** غالبا حين يكون الطقس غائماً، وممطراً، وأنا على طاولة المقهى أمامي كوب القهوة المخلوطة بالحليب، وثمة منفضة سجائر على رغم أني قطعت التدخين منذ 12 عاما.. عليها سجائر، تركها السابقون في الكرسي المستطيل الذي أجلس عليه، بينما يمر الغرباء في القرية أو المدينة، فرادى وجماعات يعتمرون قبعات أو من غيرها حاسري الرؤوس أمام سماء مفعَمة بالغضب والغيم... ومن مألوف المعيش اليومي أن يندفعوا في الطريق متحدثين مع بعضهم فيما يشبه الهذيان، حتى لكأن الواحد في منولوج ذاتي، وليس رفيق الدرب إلا واسطة لتفجر الهذيان واستمراره بينما الأفراد يكون هذيانهم من غير وساطة، عاريا مع الذات المتوحدة ومن غير أقنعة.. أصحاب القبعات من المارة في هذيانهم الصامت، يضيفون على المشهد جواً أكثر رومانسية وخيالاً، فكأنك في فيلم من الماضي السينمائي بالأبيض والأسود من غير وسائط إلكترونية ولا تليفونات جوالة. في مثل هذا الجو وأنا أجلس على الطاولة لا بد من كتاب ودفتر لتكتمل عناصر الحالة التي أتقمصها روحاً من الماضي قرأتها في كتاب أو شاهدتها في فيلم مليء بتأملات جمالية وفكريّة. بعض تلك الأرواح الضائعة المغتربة اغتراباً ساحقاً وجذرياً، تتلبّسني في حين من الزمن، شخصية (ميرسو) في رواية «الغريب» لألبير كامو، تلك الذات الهاربة والتي تحاول الانسلاخ من الماضي والقافلة والمجتمع والتاريخ، الذات المغتربة عن ذاتها الهائمة في مدار اللاجدوى الذي يجرف كل الأشياء والكائنات، يجرف الوجود والعلّة والمعلول.. هكذا كانت تتقمصني حالة (ميرسو) غارقا في المتاه، حتى توقظني ذكرى قتل الشاب الجزائري على شاطئ البحر بينما الشمس في عز الظهيرة والحرارة الراعبة في الصيف. وتحضرني رؤى بعض النقاد، بأن هذه الواقعة تحمل في ثناياها عنصرية مبطنة، رغم مناخ اللاجدوى والعبث الذي يطبق على الشخصية والرواية من الغلاف إلى الهاوية... وبما أني خبرت سطوة حرارة الصيف في بلادي، من فرط قسوتها (التي تستدعي القيامة بشكل مبكر) راودتني هواجس عدوانية تجاه العالم، حد الرغبة في القتل والابادة، أو الامحاء أي الاختفاء في هوة سحيقة.. تشبه ثقباً أسود تفرزه أرض الجدْب واليباب.. في ضوء هذه الخبرة برّرت (لميرسو) عدم حمل واقعة القتل إلى هاجس عنصري ولو كان غاطساً تحت طبقات اللاوعي البعيدة والصدفة جعلته جزائريا، لأن بلد وقائع الرواية هي الجزائر، ابان الاستيطان الفرنسي، وتلك صدفة محظ، ومن الممكن أن تكون ضمن سياق الرواية قريباً او من أي جنسية أخرى، وتذكرت أيضا أن التهمة الموجهة لبطل الرواية، هي بجانب القتل انعدام الاحساس والعاطفة تجاه موت أمه، وأنا ربما من أكثر الذين تأثروا بغياب الأم وموتها، بحيث انفجرتُ باكياً أمام جميع المشيعين من الأهل والبلدة، وهو ما يعتبرونه ضعفاً، إذْ على الحزين أن يحبس دموعه أو يفجرها حين يكون وحيداً، أو يدفعها إلى داخل أعماقه فقط فتطفح قسماتُه بالألم والحزن لكن من غير دموع واضحة، بل دموع خفية مثل تلك التي كنت أراها في عيون الوالدة في حياتها وخاصة الوالد حين يكون في خضمّ ملمة أو مصاب.. وهناك شخصيات لا تحصى في الكتب والروايات خاصة، في فترة من الزمن وأطواره مثل شخصية (توماس) في خفّة الكائن التي لا تحتمل.. وغيرها من الشخصيات الرمزية والواقعية المترحلة الممزّقة التي لا تستقر على حال ومكان.. ومثل شخصيات الروايات وقبلها شخصيات الملاحم والأساطير، التي كان الرواة يسردونها لنا في الطفولات الآفلة.. أما في مثل هذا الجو الغائم الممطر، والمارة الغرباء تسيل هذياناتهم بقبّعات وغيرها فشخصيات الأفلام السينمائية لا تحصى أيضا حسب أطوار العمر، الزمن والوعي، من شخصية محمود ياسين في فيلم (على من نطلق الرصاص) لكمال الشيخ الذي شاهدته في سينما ميامي حين كنت تلميذا في القاهرة تلك الشخصية المثقفة (المأزومة في وعيها حدّ التخبط والتيه والارتباك، حتى شخصية مارلون براندو في (التانجو الأخير في باريس) تلك الشخصية السينمائية الفريدة التي أبدعها خيال الايطالي(برتلوتشي) تتضافر عبقريّة التمثيل مع الإخراج ، ذلك الفيلم الذي يغلب على أجوائه اللون الأصفر، كأنما قذف المخرج بطله خارج الزمان والمكان، تائها بين الأحياء والموتى وتائهاً حدّ الخراب والتدمير بين الأحاسيس والجنازات والانتحار الذي يحمل حتميّة النهاية المنطقيّة لمثل هذه المسارات التي ترسم علامات مصيرها القاتم.. في مثل هذه الأجواء الغائمة الممطرة الغريبة تتقمصني حالات وأرواح شتى.. أرواح بشر وطيور وحيوانات حالماً بأمواج البحر المتوسط التي تغمرني بحنانها الوحشي بعد قليل..