شرفات

«كأنني تائهة، كأنني هشة، كأنني طوعُ نداءٍ متخيَّل»

صالح العامري - ماذا يصنع الشاعر إزاء الحقيقة؟ وكيف يقودها إلى نصّه المتَـفرس المرتاب؟. إن الشاعر لا يحتفي بالحقيقة إلا بمقدار ما يختبرها بلسانه وأصابعه (في شقِّها الماديِ المحسوس)، وبمقدار ما تشتهيها دواخله ويتضوّر لها قلبه (في يُـتمه المستغيث بالرؤى والأحلام). إنه، أي الشاعر، يتكئ- أكثر من أي شيء آخر وأعلى من أي وجه من وجوه الحقيقة- على تلك الوشايات والوساوس والهذيانات والكوابيس، على تلك المنحوتات الجافلة التي تخز خاصرته، على تلك الظلال التي تتلبسه، على تلك الأشكال التي يقوم فيها فجر مفاجئ أو مصباح حزين. إنه دائب العثور على تلك المزق المتناثرة من الرقع الشكاكة والمتهورة، في طريق رؤياه الكاشفة والغامضة، ذات التعقيد والكثافة، ذات البساطة المشتبكة مع مناقير الطيور وخياشيم الأسماك، أما الحقائق -في بصره وبصيرته- فسرعان ما يكنس إحداها الأخرى، أو بشكل أدق، سرعان ما يغسل إحداها وجه الآخر. هكذا تتناسل الحقائق في نصّ الشاعر، حتى لا تبدو أيّة صورة لأيّ حقيقة لمّاعة أو مدلسة، لأن «الحقيقة بضاعة مغشوشة»، ولأن الشاعر- في كل العصور- هو الصانع الأمثل للحقيقة البادئة، والحارث الحالم دوماً بتخليص الأثر من نيره، إنه الوهجيّ المتكفّل بإعتاق الأشجار من ميراثها الغليظ وتربتها الخرساء، ولهذا تماماً تنخلع الكلمات من قاموسها المعهود، ومن معجم معانيها الأصفر، ويصبح للكلمات أن تعني شيئاً آخر مختلفاً عما تعنيه في رؤوس الحشد وألسنة العابرين، لقد لحق الصدأ والفساد بالكلمات، وتحولت إلى أحاجٍ، وعلى الشاعر إذن أن يفكّ غموضها ومغاليقها، على هذا النحو: «العمر: بزة الحياة العسكرية/‏‏ الصداقة: غراء لازم لملء فراغ الشقوق/‏‏ الحبّ: رغبة جادة للتعرف على الألم عن قرب/‏‏ العائلة: كيف تربي نواياك الخفية للانتحار؟/‏‏ البيت: عاهة مستديمة/‏‏ الوطنُ: فرصة مناسبة للضحك». من المرجح أيضاً أن إحدى مهمات الشاعر أن يقدم الحقيقة- مهما كانت سطوتها وغطرستها- علفاً لثيران البرية الهوجاء، التي لا تفرق بين المسطرة والمطر، بين الإسفلت والينبوع، بين الخيال الرقيق والبرسيم المتهور. إن مهمته الكبرى، هو أن يتجاوز أية حقيقة، وأن يجتازها إلى ما فوقها وما تحتها، ومع ذلك، فإن حدث له ورآها رأي العين، في حُرَق استيهاماته وشغف تمثلاته، فعليه أن يقتلها بألحانه وعصافيره، بفراشاته وصناديق هواءه، بأصابعه التي تخترقها الصباحات، بيده التي تمتحن العالم بالكتابة، ولهذا يبدو مشروع الشاعر برمتّه «تدريباً على الكلام»، أو تهجياً للسرّ، حتى وإن استغرقته هذه التدريبات أو التهجيّات عمره كله. الضحك، في مجموعة «جمهور الضحك» لفتحية الصقري، ليس ضحكاً أو وقوعاً فيه، بل مشي بمحاذاته، واستدرار لعطفه، كما لو أن الشاعرة استيقظت ذات يأس فتّاك على «أنّ الضحك هو ذلك الاحتجاج العلنيُّ المُلِحُّ على القبح الذي يأكل العالم بشراهة»، ولهذا قررت أن تبدأ الضحك أو تتشبث بأطرافه العارية من الأردية، وأن تتعلق باستفزازاته التي تسحق اليأس والكآبة والصلف والكبرياء الزائف. إنّها تمنح الضحك التوقير اللازم لآلياته واشتغالاته، لأنه يسعف الشعر والطريق، إنه المضلع الثالث، أو بالأحرى هو الأقنوم الثاني في الأقانيم الثلاثة: الحب، الضحك، الحديقة. في قصيدة «الوجود» نتلقف معنى التسمية التي أطلقتها الشاعرة لإضمامة نصوص مجموعتها الشعرية، فعنوان المجموعة «جمهور الضحك» لا يعدو أن يكون سوى تأويل مضمر لتسمية أخرى هي «كلمات الحياة»، فليست «الحياة هي الطريق الوحيد للضحك» كما يرد في السطر الرابع من القصيدة، بل هي الضحك ذاته، كما تكتب الشاعرة في السطر التاسع وما يليه «من الآن وصاعداً/‏‏ أيتها الحياة/‏‏ سأسميك الضحك»، أمّا فيما يتعلق بالجمهور، فلا يبدو له من معنى آخر لديها سوى الكلمات، فالكلمات الراكضة المتحدة هي جمهورها المُخْلِص، وبهذا يمكن أن يتبادل العنوانان الأدوار، كما تتقاسم (كلير) و(سولانج) دور السيدة والخادمة في مسرحية «الخادمات» لجان جينيه، حتى لا يتبقى شيء أو أحد على خشبة المسرح وروع المتفرج سوى رائحة الرعب وصدمة الضغينة. في «جمهور الضحك» ليس ثمة من ضغائن أو أحقاد، بل هي «المظلات التي تطلقها يد الشاعرة على نحو مرعب في الفضاء الملوث»، إنها تكتب، لا لكي تمتلك شيئاً، ولا لأنها تبحث عن شيء ستجده حتماً، بل لأنها في مواجهتها العارية مع الخسارة والفقد، وفي معركتها المحتدمة مع القبح والصدأ، كان لا بد لها أن تبتكر أسلحتها الثرة وأعيادها السرية وأن تعيد مشاهد وردتها وأشيائها الضائعة، وأن تناور قلبها الملتاع المتسكع في ضفاف أخرى محاولة إقناعه بالعودة وعدم الفرار بعيدا عنها، دون طائل، إنها كما تقول «أتمسك بفكرة الكتابة/‏‏ وقت هبوب العواصف/‏‏ عاصفة الشوق بالتحديد». وفي خضم البحر اللجيّ، والأنواء المخيفة، لن يسلس القياد للشاعرة، لا لقاربها، ولا لروحها الناجية من الطوفان أو المجزرة، إلا بأن ترمي حجر ضحكها في مياه الشِّعر الصافية، في حرائق الطرق العزلاء، وأن تعد العدة، بكامل الأناقة اللازمة لملاقاة الكلمات، لممارسة «تدريباتها على الكلام» كما جاء في مفتتح المجموعة، أو تدريباتها «على الضحك والنسيان» كما نقرأ في السطر الأخير من الكتاب. إن التشذيب الذي نتلمسه في كتابة نصوص المجموعة شكلاً ومضموناً، ورمي النشارة بعيداً عن كتلة النصّ، قد خلّص التجربة من تلك الزوائد التي قد تمثل ثقلاً على نسيج النصّ وخيوطه، وأزاح الحراشف والترهلات التي عادة ما تبرز في رغبة النص للاسترسال وإغواءات التداعي الكتابي، ومن هنا، يمكن القول: إن الهندمة النصية التي تتزيّى به قصائد المجموعة، هي إحدى الملامح الجمالية التي تميّز التجربة، وأنّ ذلك النُواس الخَدِر، الذي يرتِّب الأولويات والميلانات، كما تنسّق يدٌ خبيرة الزهور والألوان، فضلاً عن الامتداحات الحرة للثيمات الهامشية والتي يظنها البعض خرقاء أو طفولية، هي التي تقيم أود القصائد وتغذيها وتُغْنيها، حيث الشعر هنا هو اكتفاء داخليّ يقتات على ما يشعّ فيه وما يصدح في أعماقه وما يلبي حيويته وطزاجته. تكتب فتحية الصقري في «مقابر جماعية للضحك»: مائلةٌ/‏‏ مخدّرة/‏‏ مكتفية بالورديّ/‏‏ أدير لباقة النظرة/‏‏ بسعادة فاقد الوعي/‏‏ على ظهر يدي/‏‏ تشع حقيقة ما/‏‏ «يجب أن نعتني بحديقتنا». الآن/‏‏ في الوقت الذي تندلق فيه ذاكرتي/‏‏ يمكنني أن أطلق ضحكة ساخرة/‏‏ أن أملأ معدتي بالشيكولاتة/‏‏ أن أستلقيَ فوق الكنبة/‏‏ لأشاهد فيلماً كوميدياً طويلا. إن الكاتبة، تدرك معنى المتاهة، متاهة اللغة والوجود والعالم، ولهذا فإنها تسعى إلى القبض على اللحظة الشعرية، وإلى غزو تخوم الأفكار ومنازعها ومظانها وأجراسها اللامرئية، لا بقدرة الشاعرة التي فيها فحسب، أو بعطايا أقرانها من الفلاحين الشعراء الذين بذروا في أرض الشعر كلماتهم الخالدة، كما في استدعائها لفيرناندو بيسوا وهو يقول «روحي أوركسترا خفيفة»، بل بكل التحولات والتقمصات الممكنة والمستحيلة، حيث تتسوّل كلماتها دبق أصابع النحاتين، الذين يصوغون بمودة وصبر منحوتاتهم الطريفة البارعة، والذين يصرخون في أعماقهم الغبراء الثملة «يعذبني دائماً شيء غائب»، كما تصدر بعض النصوص عن عين سينمائيّ حاذق في مطاردة الصورة وفي انتشال اللقطة المدهشة من براثن العدم، مناطحاً بها الزمن أو سارقاً إيّاه أو سابحاً في نهره آلاف المرات، مثلما يوجد لعابٌ سيّالٌ في نصوص المجموعة نحو الموسيقيين، الحدادين، القاصّين، السحرة، قفاري الأثر، العميان، المغنين، المدمنين على الظلال، الذئاب التي تتعارك في منتصف ليل القصيدة. ولهذا كله، ليس من الغرابة أن نجد في المجموعة عناوين قصائد من قبيل: «قصة قصيرة»، «صور شخصية للحب»، «سيناريو نهاية العام»، «موسيقى الثانية صباحا»، «الرقص بقدمين عاريتين في ممشى حار»، «حناني أغنية حزينة..»، «سينما الصوت والصورة»، إن ذلك لا يوحي بعجز الشاعر، أيّ شاعر في هذا العالم، عن تأثيث بيته الداخلي دون مساعدة آخرين له، بل إنّ ذلك يعزز من قدرات البيت على أن لا يُقتلع، وبأن لا تتحطم نوافذه لمجرد حصاة طائشة، أو هياج عاصفة رعناء. (هذا بالطبع إذا كان ثمة بيت فيزيقي للشاعر، لكن حتى إذا كان مسكن الشاعر هو عراء القصيدة وأرصفتها، وإقامته في اللاوصول، فإنّ استغاثاته الفنية تجد مبرراتها في اللغة التي يحاول جاهداً أن يتجاوز محدوديتها أو أن يوصل حباله الماكرة بحبال آخرين، طاعنين على شاكلته في اليُتم والانتظار والمنفى). تكتب الشاعرة في إحدى القصائد عن علاقتها بالكلمات، بأوجهها المتعددة وصورها المختلفة، موثِّقة تلك الحميمية الاستثنائية التي تعيشها برفقة الكلمات: ...الكلمات التي لمستْها روحي لمساً خفيفاً، ولم تعانقها/‏‏ تتجمّع حولي/‏‏ تتسلق فرحي الغامض/‏‏ تناديني بإلحاح/‏‏ كأنني أمُّها.. هذه هي أسلحة الشاعر إذن، فلا ذخيرة إلا الكلمات، ومنها يولد وفيها يموت، وبهذه الكلمات وحدها يكون للشاعر وحده الحق في أن يقول- حافراً أساطيره في أرض النشوة وفي جسد القصيدة- «رأسي عش مفتوح للعصافير والهواء»، و«يهوي ربيع سريٌّ في راحة يدي». وكما نجد في «الأوتوبيوغرافيات» صوراً مجهولة لا نعرفها عن حياة كتّابها، أو نصدف في «البورتريهات» التي يرسمها الفنانون لأنفسهم حضورات بالغة العمق والدلالة لدواخلهم، فإنّ الشاعرة قد فتحت لقارئها، من خلال قصائدها، تلك الخزانة الثمينة المليئة بالأسرار الشخصية وصور الذات في أنبل اعترافاتها وأسمى استكناهاتها، ولعل قصيدة «لا أريد أن أمتلك شيئا» هي النموذج الأنصع لافتضاض تلك الأغلفة المصطنعة، التي تحول عادة بين الكائن وبين جوهره ومعدنه العاري، أو تلك الحجب الزائفة التي تندلع من غبارها تلك «الشمس المنشقة». في هذا الكتاب ستجول برفقة الكلمات التي تطلق عليها الشاعرة اسم «الجمهور الهادئ»، تلك الكلمات التي لا تألوا جهداً في إماطة اللثام عن المفارقات حيث «بائع مجوهرات في حيّ يقطنه الفقراء»، أو تحولات الصوت حين تارة «لم يفصح عمّا يؤلمه» وتارة «لا يناسب تجار الدين، ولا المرتدة قلوبهم عن الحبّ» وتارة أخرى «يهم بخلع ملابسه الشتوية»، والقلب الذي هو «مصور فوتوغرافيّ»، أو التعبير عن الرهافة الفاتنة «كرقة صفائح النور في شتاء جبل شمس»، وستبلغ بك الصداقة مع كاتبة تلك الكلمات أن تعرف بأنها «لم يحدث يوماً أن تأخرت/‏‏ أصل دائماً قبل الموعد بثلاث دقائق/‏‏ أصل/‏‏ لكنني أتبدل طوال الوقت:/‏‏ سحابة/‏‏ باباً/‏‏ صندوقاً/‏‏ علبة كبريت». تدشن تجربة الشاعرة فتحية الصقري من خلال أربع مجموعات شعرية هي «نجمة في الظل»، «قلب لا يصلح للحرب»، «أعيادي السرية»، و«جمهور الضحك» الصادر عن دار مسعى للنشر والتوزيع، 2016، روحاً كتابية بالغة النهم والطزاجة والتفرد في التجربة الشعرية في عُمان، لأنها تنبثق من كاتبة متمكنة من لغتها وأدوات كتابتها، أو حسب تعبير الشاعرة من «ظل الورديّ اللامع في حياة القصيدة»، إنها تجربة تستنجد في مطافها الأخير بالكلمات، بالتيه، بالسخرية، بالهشاشة، بالفراشات، بالضحك، بالاكتئاب، ذلك الاكتئاب التي توصفه بالقول: «اكتئابي لا تقتله العروض المسلية ولا الضحك، لا تطفئه الكتابة ولا تمحوه لمعة الحب في الألم والمسرات». إنّ الكتابة التي تؤمن لا بحمولاتاها وحدها، بل وبأنقاضها كذلك، ولا بما تحتضنه في داخلها فحسب بل بمحوها لذاتها أيضاً، هي كتابة جديرة بالاحترام، احترام قدراتها المتماسكة: في الأزمنة المنهارة، واحترام انتظاراتها الشقية: في الأمكنة التي لا تربّي أيّ أمل أو عمل صادقين.