يوميات - كيف سأتمكن من أداء الأمتحان؟
الاثنين / 11 / شعبان / 1438 هـ - 22:00 - الاثنين 8 مايو 2017 22:00
عبدالله حبيب -
السبت، 12 يناير 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
لن تجعلني الحروب قادراً على النوم. لا يستطيع ديناصور أن ينام أمام كل هذا الدم، فما بالك إذا كان هذا الدم هو دم أهلي.
لا أريد حتى لأعدائنا أن يموتوا، فالحياة تتسع للجميع، لكنهم لا يفهمون اننا من أهل الحياة أيضاً.
كفاية، كفاية: ألم يكفكم كل ذلك؟. إلى أين أنتم ذاهبون؟.
ليس هناك من دم وراء الدم. ليس خلف الدم سوى حمرة التفاحة، أو الشمس، أو خطوات العشاق. ليس وراء الموت شيء غير الضحكة الأخيرة، لكنكم لا تفهمون.
ليس خلف الشمس سوى هدأة الألوان، لكنكم لا تفهمون. لماذا لا تفهمون؟، لماذا لا تفهمون؟.
ليس لدينا المزيد في محاولاتنا لتعليمكم، حتى موعد مجزرتكم القادمة التي ستذبحون فيها أطفالنا، ونساءنا، وشيوخنا، وترابنا.
ليس لنا المزيد الذي يمكن قوله لتثاؤب العالم.
الأحد، 13 يناير 2002، لوس أنجيلوس، كالفورنيا:
طوال اليوم قراءة عن دور تومَس أدِيسُون في تأسيس السينما الأمريكية وتحريك مساراتها والتلاعب بها، وخاصة في سعيه الدؤوب لصناعة الاحتكار. في صباي، في حوالي الثالث الابتدائي، نقل لنا المنهاج الدراسي العربي تومَس أدِسن باعتباره عبقرياً ومخترعاً كبيراً بما في ذلك المصباح الكهربائي ضمن حوالي ألف براءة اختراع. وقال لنا المنهاج الدراسي العربي ان علينا نحن الصغار ان نحتذي بمثال أدِسون فهو قدوة لنا. ولم يقل لنا المنهاج الدراسي العربي ان أدِسُن هو واحد من كبار المحتالين، والمخاتلين، والجشعين في التاريخ البشري كله.
الاثنين، 14 يناير 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
يوم نسيته، تماماً. لكن لأنه ليس اليوم الأوحد الوحيد الذي نسيت تماماً، وددت أن أذكره.
السبت، 25 يناير 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
سأجدِّف كثيراً، وسأصاب بالملح، والهلع، والغرق كثيراً، ولن أعود إلى الشاطئ أبداً، لأنني أبحث عن البحر.
وهذا هو مصير كل من يحب البحر.
الإثنين، 4 فبراير 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
في غيابات الكتابة، وفي حضور الدم، والابتسامات والصباحات القاتمة، والواجبات الاحترافية، والقهوة، سرقت اليوم كتابين من مكتب أستاذتي الجليلة فيفيَن تشوبساك. من واجبي أن أشكرها كثيراً، وعليها أن تقول لي بالرتابة الببغائية الأمريكية: “you’re welcome!”.
الثلاثاء، 5 فبراير 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
يا كل هذا: لقد تأخر الوقت كثيراً على الانتحار، ولا يزال الوقت مبكراً جداً للانتحار.
يا كل هذا: فقط لو تدري مقدار بؤسك.
الأربعاء، 6 فبراير 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
انهماك كامل في المكتبة البحثية في الجامعة.
الخميس، 7 فبراير 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
قضيت وقتاً طويلاً في «حديقة النحت» في الجامعة. كثير من التأمل، بلا فائدة. أنا لا أصلح للتأمل، ولا لأي شيء آخر.
الجمعة، 8 فبراير 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
إسراف ليلي فظيع. كل شيء يهترئ في هذا البطن الصغير. شعور فظيع باللاجدوى.
السبت، 9 فبراير 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
يجب أن أغادر إلى مكان آخر غير أمريكا. أنا لا أحب أمريكا. ومن أنا كي أكتشف ما قاله أدورنو: « في أمريكا كل شيء غير طبيعي بما في ذلك الطبيعة».
الأحد، 10 فبراير 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
ينبغي التوقف عن كتابة هذه اليوميات.
الإثنين، 11 فبراير 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
خواء. عبث. ألم. ليس هناك ما يجبرني على تحمل كل هذا.
الثلاثاء، 12 فبراير 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
لم يحدث أي شيء في كل العالم اليوم.
الاثنين، 17 فبراير 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
سادر. وهذا لا يكفيني، ولا يكفي أحداً.
الثلاثاء، 18 فبراير 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
رغبة النسيان. الرغبة في النسيان. لا أنسى، وسأمضي مع ذلك.
السبت، 9 مارس 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
لا أتذكر شيئاً سوى اختفاء منفضة السجائر الخاصة بالمطبخ.
الأحد، 10 مارس 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
مظاهرة طلبة الجامعة في مسقط احتجاجاً على المجازر في فلسطين والسكوت الأمريكي المخزي عنها. مرحى.
الإثنين، 11 مارس 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
في النهاية، ليست العلاقات بين البشر الا تقانين خوف، وسيطرة، واضطهاد.
الإثنين، 18 مارس 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
أريد أن أموت.
الجمعة، 22 مارس 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
حادث السيارة في التوقيت الأسوأ قبل أسبوع فقط من امتحان «الدكتوراه الطرطوراه» التحريري الشامل. كنت واقفاً أنتظر دوري أمام إشارة العبور الحمراء وإذا بسيارة يسوقها شخص أمريكي أسود تنهال عليّ وتذهب بمقدمة سيارتي على الرصيف في اتجاه افريقيا مباشرة. حتى أنتم أيها السود؟. آلام فظيعة في الظهر، والعنق، والكتفين. لا أعرف كيف سأتمكن من أداء الامتحان. كل شيء يحدث في وقته المناسب تماماً، بالفعل.
الأحد، 24 مارس 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
من المآسي الكثيرة لقصيدة النثر في عمان صراع بين الرومانسية الإنتحابية وما بعد الحداثة في شعر ينتج نصف أنصاف في كل شيء.
لا فائدة من محاولة اقناع الزملاء والأصدقاء في قسم الدراسات السينمائية بتحرك ولو رمزي ضد المذابح. الجميع يستعدون لامتحان «الدكتوراه الطرطوراه» التحريري الشامل، ولن يَرِد أي سؤال عن الدم الفلسطيني في ذلك الامتحان.
الإثنين، 1 ابريل 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
قراءة مركزة استعداداً للامتحان (الكثير من الهراء الذي أدخلته السيميولوجيا على نظرية السينما).
ما الذي يمكن قوله في الخامسة وست دقائق صباحاً سوى: يا ليل! أيها الليل الذي لا أريد، ولو عرفتَ لا تريد.
الخميس، 4 ابريل 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
أزمتي مع الوجود ليست أزمة وجودية، أو فلسفية، أو سياسية، أو إبداعية، أو لغوية، إلخ. إنها مأزق شخصي فحسب ينبغي ألا يخص أحداً غيري، ويجب أن أتصرف مع ما تبقى من حياتي على هذا الأساس.
السبت، 6 ابريل 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
هذا الذي يحدث في العالم الذي اسمه فلسطين. هذا الذي لا يحدث في البلدة الصغيرة التي اسمها الأرض.
الأربعاء، 10 ابريل 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
كم أحسست اليوم بعذوبة صوت [...] على الهاتف.. ذلك الحنان، تلك اللهفة. أحبك كثيراً يا [...]، لأنك تحاولين إعادتي إلى الأرض، وأحبك أكثر لأنني لا أستطيع أن أفعل ما تريدين.
الخميس، 11 إبريل 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
أعتقد بجدية كبيرة أن الفلسطينيين أهم من الإغريق.
ماذا فعل الإغريق الكلاسيكيون بالضبط كي يكونوا أكثر أهمية من الفلسطينيين؟
الجمعة، 12 إبريل 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
هذا الشعور الحزين بالعجز المدمِّر أمام كل شيء.
الأحد، 14 إبريل 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
وحدي، وعليَّ أن أبقى كذلك.
الثلاثاء، 16 إبريل 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
لا الأرض كانت، ولا القيامة قامت. من الصعب أن يتصرف أي أحد بالحكمة المطلوبة إزاء هذا.
الأربعاء، 17 ابريل 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
صوت [...] في مكالمة طويلة. خوف العالم كله. كل شيء ينحسر حين تجيء [...].
الخميس، 18 إبريل 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
حرفياً، لم أعد قادراً على قراءة كلمات أو مشاهدة صور حول ما يحدث في فلسطين. لكن هذا ربما كان توكيداً او استمرار للعجز، وهذا ما لا ينبغي السماح به. علينا (عليّ على الأقل) أن استمد بعض القوة من طابوقة في حائط منهار في مخيم جِنين.
فلنحاول أن نكون أطواداً قُدَّت من دم الاسمنت.
لكن المرء تعب من هكذا وجدان أيضاً. لكن المفارقة هي أن الفلسطينيين لا يتعبون. مرحى لهم لأنهم لا يتعبون.
الجمعة، 19 إبريل 2012، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
لا عتب على أرئيل شارون والصهاينة (كيف يمكن مطالبة العاهة أن تكون بلسماً).
لا عتب على مروحيات الـ «الأباتشي» ومقاتلات “F 16”؟ (كيف يمكن مطالبة القتل بألا يُميت)؟.
لا عتب على الامريكان، والأوروبيين، وشعب الاسكيمو، وقاطني كوكب «الآخ آخ» (كيف نطلب من ثمار البرتقال ان تتدلى من أشجار الطاعون)؟.
لكن العتب على العرب، على العروش، على انمحاء الرعشة من القاموس. العتب على الدم حين لا ينبض، وعلى الفؤاد حين لا يسيل.
الأحد، 21 ابريل 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
يا إلهي، لماذا حدثت البارحة؟.
الثلاثاء، 23 إبريل 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
يومان من دون نوم. البارحة، القفز من السرير المظلم كل حوالي نصف ساعة تقريباً، إضاءة أنوار الصالة، التدخين، وتقليب صفحات الكتب، الخ.
تؤكد لي الشعلة الباهتة وحركة الأصابع والضلوع اني لا زلت حياً أنزف هكذا حتى الصباح الذي لم أتمكن فيه من قلي بيضة واحدة.
الجمعة، 26 ابريل 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
لم أنم طوال الأيام الفائتة سوى بضع ساعات. لا جدوى من أقراص الـ “Ambein”. قيء. جسدي يرتجف.
السبت، 27 ابريل 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
لا أستطيع فعل أي شيء.
الأحد، 28 إبريل 2002، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:
جائع بإرادتي. ذهبت إلى مطعم «صنين» اللبناني على «الوستوود بولوفارد» فقد اشتقت لأكل وجبة عربية بعد الصوم الاختياري لعدة أيام. حين دخلت المطعم أردت أن أصرخ. لم أفعل. اكتشفت اني لا أستطيع الصراخ ولا أريد أن آكل. خرجت (*).
---------------
(*). في اليوم التالي لمحاولة الأكل الفاشلة في مطعم «صنين» اللبناني تحول الأمر إلى قصة قصيرة بعنوان «اتصال» يقول نصها: «هَاتَفَ المطعمَ ذاتَه كعادتِه، وَطَلَبَ تحضيرَ وجبتِه الصَّغيرةِ نفسِها، والتي سيصطحبها معه إلى شقَّتِه كي يَضَعَهَا في الثلاجةِ حتَّى اليومِ التَّالي، أو الذي بعده، أو حتَّى تتعفَّن، أو كي يأكلها كلَّها، أو نصفَها، أو أقلَّ أو أكثرَ مِنْ ذلك، وحده، كما في كلِّ مرَّة. دَلَفَ الدِّهليزَ المستطيلَ المليء بالدُّخانِ القادمِ مِنَ الرُّكْنِ الذي وُضِعَتْ فيه أفرانُ الشَّوي والمقالي والصَّواني الكبيرةُ والمليء أيضاً بالبشرِ المتزاحمين على الطَّاولاتِ (الذين كان قد رأى بعضَهم في المطعمِ مِنْ قبل) والممرَّ الصَّغيرَ الذي يَفْصِلُ بين «الكاونتر» والآكلين. تَوَقَّفَ في المنتصفِ لبرهة، وَتَأَمَّلَ الدُّخَانَ والوجوهَ وَالجُدْرَانَ واللَّوحاتِ بعينيه ورئتيه. فَكَّرَ، للمَرَّةِ الأولى في المكانِ المألوف، لو أنَّه فاجأ الجميعَ وصرخَ: «أَيُّهَا النَّاس! أَيُّهَا النَّاس! أنتم لا تعلمون! مشكلةٌ كبرى لديَّ، فهل تساعدوني؟!». رفعوا عيونَهم عَنِ الطَّعَامِ ونظروا إليه شزراً قَبْلَ أَنْ يهتفوا كجوقةٍ مردِّدين في أغنية: «كلا!». ثُمَّ عادوا إلى أطباقِهم. أَخَذَ، إذاً، كيسَ الطَّعَامِ وَسَارَ متأنِّياً إلى الخارج. لَمْ يَذْهَبْ إلى سيَّارتِه. لَمَحَ هاتفاً عموميَّاً، ما رآه مِنْ قبل، في رُكْنِ الشَّارع، فمضى وئيداً إليه. وَضَعَ كيسَ الطَّعَامِ على أرضيَّةِ الرَّصيف، وَأَخْرَجَ نقوداً معدنيَّةً مِنْ جيبِه، وبيدِه الأخرى أَخَذَ يُقَلِّبُ الأوراقَ الصفراء في دليلِ الهاتفِ الضَّخْمِ الموضوعِ على رَفِّ صندوقِ الهاتفِ الصَّدئ. حين عَثَرَ على الرَّقْمِ الذي يريد أَدْخَلَ النُّقودَ المعدنيَّةَ في الفَتْحَةِ الخَاصَّةِ بها وَضَغَطَ على الأزرار، وما هي إلا ثوانٍ حتَّى جاءه صوتٌ محترفٌ ومتحمِّسٌ مِنَ المكانِ الآخر: «هلو! أهلاً بك. هذه شَرِكَةُ [...] لخدمات الموتى. أمِنْ خِدْمَةٍ نسديها لك؟». («فراق بعده حتوف»، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2004، ص 153-155). (هامش أضيف إلى المتن في يوم السبت، 6 مايو 2017، مسقط).