شرفات

لا يزال لدى ميلوش ما يقوله

1017941
 
1017941
أندرزيج فرانسيزكا - ترجمة أحمد شافعي - في مئوية ميلاد الشاعر البولندي تشيسلاف ميلوش سنة 2011، وبعد سبع سنوات على وفاته، أقيم مؤتمر حول حياته وشعره في بلدة صغيرة على الحدود البولندية اللتوانية تدعى سيجني. ولأنني كنت قد كتبت للتو سيرة للشاعر، فقد دعيت لمناقشة كتاب «العالم المحلي» وهو عمل سيري كتب قبل نصف قرن. يحكي الكتاب تجارب حياته، لكنه في الوقت نفسه يصلح سيرة ذاتية لمثقف من شرق القارة- أو من وسطها مثلما يحلو لنا القول في بولندا تمييزا لأنفسنا عن الروس. في ذلك الكتاب وفي غيره، كتب ميلوش بقوة عن الاستبداد وعن معاداة السامية وعن القومية، وهي المواضيع التي انشغلت بها أذهان المثقفين الأوروبيين طوال أغلب فترات القرن العشرين. أعلنت أمام الجمهور أن رؤيتي لأغلب تشخيصات الكاتب السياسية قد عفا عليها الزمن. فقد كنت أظن في نهاية المطاف أن كثيرا من طلبتي يرون أنفسهم في المقام الأساسي من مواطني أوروبا، شأن شباب لا حصر لهم في مختلف أرجاء الاتحاد الأوروبي. هم يتكلمون لغات أجنبية، ويسافرون ويعملون في الخارج وبذلك يشعرون بالعالم، ولا يشعرون أنهم مهددون. أما الأمور التي كانت تثير غضب ميلوش العارم فقد باتت في ذمة الماضي. ويتبين أنني كنت على خطأ جسيم. قال شخص ما إن ميلوش صادف في حياته كل ما ابتدعه القرن العشرون من شرور الجحيم، ولكنه في بعض الأوقات عرف طعم الجنة. وشأن دانتي، عرف الجنة مثلما عرف الجحيم. شهد في صباه زوال القرن التاسع عشر إذ جرت وقائعه في ميدان الحرب العالمية الأولى. ولفترة عاش في فيلنو ـ وكانت آنذاك جزءا من بولندا وهي الآن عاصمة لتوانيا المعروفة بـ فيلنيوس ـ وبات وعيه يزداد بما كان يحدث في الجوار القريب على حدود بولندا الشرقية، حيث كانت امبراطورية القياصرة تنزف دم تحولها إلى الاتحاد السوفييتي. شأن أغلبية المثقفين الشبان، كانت لديه نزعات إلى اليسار، وفي الوقت نفسه، كان يجد نفسه حبيس حيرة أيديولوجية. منذ منتصف العشرينات وأوائل الثلاثينات وما تلاها، كانت أوروبا في أغلبها واقعة تحت سطوة سحر إحدى أيديولوجيتين استبداديتين: الشيوعية أو الفاشية. وبرغم ادعاء كلتيهما أنهما معنيتان بمستقبل الإنسانية وتعهدهما بتحقيق العدالة وإقامة فردوس على الأرض، فإن ما جلبتاه فعليا لم تكن له علاقة بوعودهما. فبدلا من تلك الوعود تسببت الاثنتان في مقتل ملايين البشر. شهد ميلوش الحرب العالمية الثانية والهولوكوست، وعاش احتلال ألمانيا لبولندا وما رافقه من أعمال ذبح وحشية لا تعرف الشفقة. ومن بين أشهر قصائده قصيدة عنوانها «Campo dei Fiori»، وفيها يخلِّد على نحو مؤثر ذكرى ومصير انتفاضة جيتو وارسو سنة 1943. بعد الحرب، قضى سنوات عديدة في الولايات المتحدة دبلوماسيا يمثل بولندا الجديدة التابعة للشيوعية. وفيما كان يستمتع بقراءة روايات فوكنر، وترجمة أودن وإليوت، ومقابلة أينشتين، كان عاجزا عن التصالح مع ما بدا لعقله مجتمعا استهلاكيا عديم الروح. كان كثيرا ما يشعر بتنافر مع الشيوعية مثل تنافره مع الرأسمالية حتى أنه فكر مرة في الالتحاق بمجتمع زراعي مسيحي في باراجواي. في عام 1951، وبدون أي شكوك أو ارتيابات، هرب إلى الغرب، محتملا حياة المهاجر ومصيره، في فرنسا في أول الأمر، حيث كان المثقفون في اليسار الفرنسي يعاملونه في بعض الأحيان معاملة المنبوذ لأنه خان الشيوعية. وكان ألبير كامو من الكتاب الفرنسيين القلائل الذين أعانوه على البقاء لفترة طويلة في منفاه الانفرادي. ومع ذلك، تلك هي الفترة التي أنتج فيها ميلوش أحد أشهر أعماله وأحظاها بالقراءة وهو كتابه الصادر سنة 1953 بعنوان «العقل الأسير». في كتابه هذا بحث الأسباب التي جعلت كثيرين للغاية من مثقفي العصر وفنانيه يذعنون للشيوعية أو يدعون الإيمان بها. كتب يقول إن الأيديولوجية الناجحة تبعث الارتياح، وهي أداة شاملة لاستعباد أعمق مخاوفنا وتوجيهنا في حياتنا. حقَّق له الكتاب شهرة عالمية، برغم أنه كشاعر لم يشعر بالارتياح إزاء تصنيفه محللا للسياسات السوفييتية. ربما كان يسهل قبل عقد من الزمن التعامل مع «العقل الأسير» بوصفه أثرا وذكرى من القرن العشرين الاستبدادي، لولا أن العقد الماضي أظهر لنا كيف أن آليات السيطرة على العقل التي فضحها ميلوش لا تزال موظفة في شتى أرجاء الكوكب. يشعر بعض الناس على سبيل المثال بيقين بأن إخفاقاتهم أو الإخفاقات الجمعية في دولهم إنما ترجع أسبابها إلى أعداء يسهل تحديدهم. وتراهم يعتنقون أيديولوجيات تشيطن الليبراليين والشيوعيين والرأسماليين واليهود، إلى أن راجت في السنوات الأخيرة صرعة شيطنة المهاجرين والمسلمين. أهمية تحليل ميلوش تكمن في أنه ينطبق على ما هو أكثر من الشيوعية والفاشية، بل على ما هو أكثر من الأيديولوجية السياسية بعامة. لقد كان المؤرخ البريطاني توني جُودِت يقرأ قرب نهاية حياته «العقل الأسير» مع طلبته ويشير إلى وجود أيديولوجيات كثيرة مختلفة ننقاد لها في سلبية وإلى وجود أكاذيب كثيرة نعمد إلى تصديقها: من قبيل أن الثروة قادرة على إسعادنا، وأنه بفضل أحدث أجهزة الآيباد يمكن أن نعرف معنى وجودنا، وأن فيسبوك قادر على تقريبنا من بعضنا بعضا، وأننا بسبب ذلك كله سوف نجتنب الألم والخيبة. كثير من التحولات السياسية والاجتماعية التي كان يتحسب لها ميلوش في فزع ـ وكثير من المخاوف والكراهيات ـ أصبحت الآن حاضرة بيننا. في «العالم المحلي» يحكي لنا ميلوش عن رحلته في فرنسا في ثلاثينات القرن العشرين وكيف أنه صادف بينما هو سائر مع أصحابه على جسر يربط بين سويسرا وفرنسا لافتة تمنع «دخول الغجر والبولنديين والرومانيين والبلغار». وبتبديل هذه الأعراق، يسهل على المرء اليوم أن يرى رسائل مماثلة بطول جميع الحدود. يمكن القول إن تاريخ الإنسانية تحدده وتمليه عمليتان متعارضتان هما بناء الجسور وإقامة الأسوار. الجسر يقربنا من الآخرين، ويتيح لنا أن نعرفهم، وهو بداية طريق أو امتداده. والسور يفصل، ويغلق. وبرغم أنه في ظاهره يوفر الأمن، لكنه أيضا يولد العقلية الدفاعية، والاقتناع بأن كل شيء في الجانب الآخر يشكل تهديدا بحسب ما يبين الكاتب البولندي رايزارد كابوشينسكي. ميلوش كان ينتقد بعمق الرؤى القومية الضيقة لدى أبناء وطنه، مما أثار له عداوة الكثيرين من مختلف الأوساط والاتهامات بأنه «خائن» لوطنه. كان كثيرا ما يقول إن بوسع البولنديين واللتوانيين واليهود والروس أن يعيشوا في تحاب مع بعضهم بعضا مثلما عاش هو صداقة عميقة مع الشاعرين الروسي جوزيف برودسكي واللتواني توماس فينكلوفا. في بلدي بولندا على الأقل، تنتمي نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين إلى بناة الجسور. غير أن من الممكن أن نرى اليوم في كل مكان تقريبا حراس الأسوار، المادية منها والسياسية. يصعب اليوم أن نفهم لماذا انفك من القيود التعصب والعنف والكراهية والخوف والبحث المضني عن الأمن. هل كان لأحد أن يستشرف قبل سنوات قليلة للغاية أن تكون 1984 لجورج أوروِل من أكثر الأعمال مبيعا على أمازون؟ يبدو اليوم أن رؤية المجتمعات متعددة الثقافات قد تلاشت، وأن اللغة التي تجري على ألسن السياسيين تزداد نزعتها القومية يوما بعد آخر، وأن الناس لم تعد ترحب بالنقاش المنفتح، ولا تقبل إلا ما يؤكد وجهة نظرها. وذلك الموقف يجعل الحياة أيسر كثيرا، بحسب ما يتبين من «العقل الأسير». كل ما يحيط بنا يجب أن يكون مألوفا. لا ينبغي أن يوجد خصوم أو دخلاء. ينبغي أن نعيش في فقاعة محكمة الإغلاق. في بلدي، برغم الرفاهية المفاجئة التي شهدناها خلال السنوات القليلة الماضية، يتخيل ملايين الناس أنهم أسوأ حالا من كثيرين غيرهم وأن ثمة من خدعهم. أهم الألمان أم الروس أم اليهود؟ ونتيجة لذلك يصوتون لليمين المتطرف. وهناك الكثير فالكثير من الشباب الذين يتظاهرون ـ كما في ثلاثينات القرن العشرين- هاتفين بشعارات شوفينية ضد المهاجرين، واليساريين، والمثليين. ومنهم من يكسر واجهات المقاهي التي يديرها المهاجرون، ولعلهم يشرعون عما قريب في إحراق الكتب. قبل ثمانين سنة، قرأ ميلوش رواية «الجبل السحري» لتوماس مان. كان ذلك في زمن لا تؤمن فيه أعداد غفيرة من أبناء وطنه بالديمقراطية، فسخروا من شخصية سيتمبريني بطل الكتاب وانجذبوا بدلا منه إلى شخصية نافتا، لما تكنّه من احتقار للحرية وتسامح مع الدكتاتورية. ويبدو اليوم أن مواقف نافتا هي الرائجة. ليس في يد محاضر جامعي ومؤلف كتب مثلي أن يفعل الكثير حيال هذا الموقف. لكنني على أقل تقدير أحفز طلبتي على قراءة «العالم المحلي»، لأن ميلوش كتب بالفعل عن ذلك كله، عن رهاب الأجانب، وطلب الأعداء لتحميلهم مسؤولية أزماتنا السياسية والاقتصادية، وغواية المثل الزائفة الواعدة بالراحة وإضفاء المعنى على الحياة. غوايات الشيطان. كل ما أرجوه أن يساعدهم الكتاب في المحافظة على عقولهم بعيدة عن الأسر. أندرزيج فرانسيزكا مؤلف «سيرة ميلوش». وهذه المقالة مترجمة من البولندية إلى الإنجليزية بقلم ألكساندرا ومايكل باركر.