كيف تفوز الصين بالمستقبل: انطلق حيث لم يذهب أحد من قبل
ترجمة: نهى مصطفى
الأربعاء / 10 / رجب / 1447 هـ - 22:56 - الأربعاء 31 ديسمبر 2025 22:56
عندما رست سفينة الشحن الصينية «إسطنبول بريدج» في ميناء فيليكستو البريطاني في 13 أكتوبر 2025، ربما بدا وصولها أمرًا عاديًا، فالمملكة المتحدة هي ثالث أكبر سوق تصدير للصين، وتسير السفن بين البلدين على مدار العام. ما كان لافتًا في سفينة «بريدج» هو المسار الذي سلكته، فقد كانت أول سفينة شحن صينية رئيسية تبحر مباشرة إلى أوروبا عبر المحيط المتجمد الشمالي.
استغرقت الرحلة عشرين يومًا، أي أسرع بأسابيع من الطرق التقليدية عبر قناة السويس أو حول رأس الرجاء الصالح. أشادت بكين بالرحلة باعتبارها إنجازًا جيوسياسيًا هامًا ومساهمة في استقرار سلاسل التوريد، إلا أن الرسالة الأهم كانت غير معلنة: مدى طموحات الصين الاقتصادية والأمنية في مجال جديد من مجالات القوة العالمية.
جهود بكين في القطب الشمالي ليست سوى غيض من فيض؛ فمنذ خمسينيات القرن الماضي، ناقش القادة الصينيون التنافس في مختلف مجالات العالم، سواءً على الصعيد المادي أو المعنوي: أعماق البحار، والقطبين، والفضاء الخارجي، وما وصفه الضابط السابق في جيش التحرير الشعبي، شو جوانجيو، بـ«مجالات القوة والأيديولوجيا»، وهي مفاهيم تشمل اليوم الفضاء الإلكتروني والنظام المالي الدولي.
تشكل هذه المجالات الركائز الاستراتيجية للقوة العالمية. فالسيطرة عليها تحدد الوصول إلى الموارد الحيوية، ومستقبل الإنترنت، والفوائد العديدة المترتبة على إصدار العملة الاحتياطية العالمية، والقدرة على الدفاع ضد طيف واسع من التهديدات الأمنية. وبينما يركز معظم المحللين على أعراض التنافس ـ كالتعريفات الجمركية، وانقطاع سلاسل توريد أشباه الموصلات، والسباقات التكنولوجية قصيرة الأجل ـ تعمل بكين على بناء القدرات وتعزيز النفوذ في الأنظمة الأساسية التي ستحدد ملامح العقود القادمة. ويعد هذا الأمر جوهريًا لتحقيق حلم الرئيس شي جين بينج باستعادة مكانة الصين المحورية على الساحة العالمية.
هيأت بكين نفسها بشكل جيد للمنافسة العالمية، عبر منهجية متسقة تشمل الاستثمار في القدرات العسكرية، التعاون مع دول أخرى لترسيخ وجودها في المؤسسات، وإرسال أعداد كبيرة من الخبراء والمسؤولين لإحداث التغيير. وعندما تفشل في استقطاب المؤسسات القائمة، تنشئ مؤسسات جديدة، مستفيدة من قدرتها على التكيف وتجربة منصات مختلفة وإعادة صياغة مواقفها بطرق مبتكرة. في المقابل، بدأ صانعو السياسة الأمريكيون مؤخرًا فقط في إدراك نجاح الصين في بناء نفوذها، ويواجهون الآن خطر التخلف عن مسايرة الهيمنة الصينية المستقبلية على النظام الدولي القادم.
بدأت الصين أبحاثها في التعدين البحري في أواخر السبعينيات، وأطلقت في 1990 الجمعية الصينية لأبحاث وتطوير موارد المعادن البحرية، ودمجت القدرات البحرية ضمن خططها الخمسية منذ 2011، وأصدرت قانونًا خاصًا بالتعدين في 2016. أنشأت ما لا يقل عن 12 مؤسسة متخصصة وبنت أكبر أسطول أبحاث مدنية في العالم.
اعتبرت القيادة الصينية، بقيادة شي جين بينج، قاع البحر العميق أولوية استراتيجية للسيطرة على المعادن النادرة، وتعزيز الأمن البحري ورسم خرائط قاع البحر وتمديد الكابلات البحرية، مؤكّدًا أن الصين أصبحت «الطريق» في أعماق البحار دون الحاجة لملاحقة الدول الأخرى.
مع توسع قدراتها المحلية، عززت الصين نفوذها في الهيئة الدولية لقاع البحار منذ 2001، حيث تشارك في مجلس الهيئة المكون من 36 عضوًا، وتقدم أوراقًا بحثية، وتعين خبراءها في مناصب فنية، وتقدم دعمًا ماليًا يفوق أي دولة أخرى. حصلت الشركات الصينية على أكبر عدد من عقود استكشاف التعدين في قاع البحار (خمسة عقود).
تسعى بكين لاستقطاب الاقتصادات الناشئة والمتوسطة الدخل عبر الشراكات والقدرات التقنية، بما في ذلك شراكات مع جزر كوك ودراسة اتفاقيات مع كيريباتي، وإنشاء مركز تدريب وبحوث في تشينغداو، وتأسيس مركز أبحاث أعماق البحار لمجموعة البريكس في هانجتشو. لكن الصين تواجه صعوبات، إذ تعارض غالبية الدول تسريع وتيرة التعدين، وتحافظ على خلافات مع أعضاء الهيئة حول حماية النظم البيئية، كما تواجه تحفظات داخل مجموعة البريكس ومع دول آسيا والمحيط الهادئ بشأن استخدام سفن البحث لأغراض عسكرية. رغم ذلك، تستثمر بكثافة في تقنيات التعدين ذات الاستخدام المزدوج المدني والعسكري، مثل المركبات الآلية والغواصات المأهولة، لتعزيز هيمنتها على التعدين البحري وقدراتها الاستراتيجية.
يهدف شي جين بينج منذ 2014 إلى جعل الصين قوة قطبية عظمى، مع التركيز على القطب الشمالي الذي يحتوي على موارد نفطية وغازية وعناصر أرضية نادرة، إضافة إلى ممرات ملاحية جديدة. في 2018، أعلنت بكين عن «طريق الحرير القطبي» لتطوير هذه الموارد والبنية التحتية، وأعادت صياغة إدارة القطب الشمالي لتشمل تغير المناخ وحقوق الدول غير القطبية.
بدأت الصين الاهتمام بالقطب الشمالي منذ 1964، مع إنشاء الإدارة الوطنية للمحيطات، وتأسيس معهد البحوث القطبية في 1989، وعضويتها المراقبة في مجلس القطب الشمالي منذ 2013، حيث أصبحت من أكثر الأعضاء نشاطًا في فرق العمل ولجان المهام.
واجهت بكين مقاومة من دول القطب الشمالي الديمقراطية بسبب المخاطر الأمنية، إذ تم إلغاء العديد من مشاريعها، ولم تنفذ سوى 18 من أصل 57 مشروعًا مقترحًا. بالمقابل، فتحت روسيا أبوابها للتعاون منذ 2018، وازدادت الشراكة بعد غزو أوكرانيا عام 2022، بما شمل تطوير مناجم، وبنية تحتية، ومناورات عسكرية مشتركة، بالإضافة إلى إشراك مجموعة البريكس في القطب الشمالي.
مع ذلك، يظل نفوذ الصين محدودًا، فالدول غير القطبية الأخرى مثل البرازيل والهند تشارك أساسًا عبر روسيا، كما لم تدعم موسكو جهود بكين لتوسيع دورها في إدارة القطب الشمالي، وكانت بعض المناورات العسكرية استعراضية، مع استمرار شكوك بشأن هوية الصين كدولة قطبية.
انطلق بشجاعة إلى حيث لم يذهب أحد من قبل: اعتبرت الصين استكشاف الفضاء أولوية منذ 1956، وأطلقت أول قمر صناعي لها «دونج فانج هونج 1» عام 1970. خلال العقود التالية، طورت البلاد برنامجًا فضائيًا واسعًا يحقق أهدافًا علمية، اقتصادية وعسكرية، مع التركيز على الموارد الفضائية، الرحلات المأهولة، واستكشاف القمر.
تحت قيادة شي جين بينج، أصبحت الصين تهدف لأن تصبح قوة فضائية رائدة عالميًا بحلول 2045، مع قدرات متقدمة في الحرب الفضائية، وأقمار استطلاع واتصالات وإنذار مبكر، فيما يخدم أكثر من ثلث الأقمار الصناعية لأغراض عسكرية.
كما عززت الصين دورها القيادي عبر شراكات دولية مع 26 دولة، والتعاون مع مكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي، إضافة إلى مشروع محطة الأبحاث القمرية الدولية مع روسيا، التي تهدف إلى إنشاء قاعدة دائمة على القمر وضم 50 دولة و500 مؤسسة و5000 باحث.
قدمت بكين وموسكو نظام الملاحة الفضائية الدولي كبديل لبرنامج أرتميس الأمريكي، فيما يسعى المشروع الصيني-الروسي لتوفير التدريب، التعاون العلمي، والوصول إلى تقنيات فضائية متقدمة، مؤكدة طموح الصين في الهيمنة المستقبلية على استكشاف الفضاء.
واجهت الصين صعوبات في استقطاب الدول لمشروعها الفضائي الدولي، فاجتذب اتفاق ILRS 11 دولة فقط، معظمها بلا برامج فضائية متطورة، بينما حققت اتفاقيات أرتميس الأمريكية جاذبية أوسع بفضل العلاقات العلمية والأمنية والتجارية، ومعايير الشفافية، وإمكانية إرسال رواد فضاء إلى القمر.
كما واجهت بكين صعوبات في إدارة القضايا الدولية للفضاء؛ فدعمها لقرارات مثل وقف تجارب الصواريخ المضادة للأقمار الصناعية أو منع الأسلحة النووية في الفضاء كان محدودًا. رغم ذلك، تستمر الصين في تعزيز أطر حوكمتها الفضائية والاستثمار في التقنيات، مع احتمال أن يمنحها النجاح في إعادة البشر إلى القمر تفوقًا رمزيًا يؤهلها لتشكيل المعايير والتقنيات المستقبلية في الفضاء.
سعى شي جين بينج إلى هيمنة الصين على الفضاء الإلكتروني من خلال مبادرات مثل «طريق الحرير الرقمي» و»معايير الصين 2035»، ما مكن شركات مثل هواوي و ZTE من الاستحواذ على حصة كبيرة في سوق معدات الاتصالات العالمية. كما عملت بكين على وضع معايير للإنترنت والتقنيات الاستراتيجية المستقبلية، أبرزها بروتوكول «الإنترنت الجديد» (New IP) الذي يعزز سيطرة الدولة على الشبكة، ويقلل من اعتماد الإنترنت على البروتوكولات الأمريكية.
واجهت هذه الجهود معارضة قوية من الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، الذين حذروا من تجزئة الإنترنت وإضعاف معايير التشغيل الدولي، بينما دعمت بعض الدول الأفريقية المشروع، وإن كان دعمها محدودًا وغير مرتبط دائمًا بالمساعدات الصينية. في الوقت نفسه، تستمر الصين في تطوير تقنيات الجيل السادس للشبكات ونظام توجيه بيانات الإنترنت لزيادة التحكم، وتروّج لمقترحاتها عبر عدة منصات دولية لتوسيع نفوذها الرقمي، خصوصًا في دول البريكس والدول النامية.
يسعى شي جين بينج لتقليص الهيمنة العالمية للدولار من خلال تدويل الرنمينبي، عبر برامج تجريبية للتسوية التجارية، إصدار سندات بالعملة الصينية، توسيع خطوط مقايضة العملات، وإنشاء نظام مدفوعات بديل عن سويفت يربط أكثر من 1700 بنك عالميًا. كما استغلت الصين مبادرة الحزام والطريق لتشجيع الدول الشريكة على استخدام اليوان، وحققت تقدّمًا ملموسًا، إذ بلغت نسبة التجارة الثنائية الصينية باليوان نحو 29% بحلول يونيو 2025.
مع ذلك، لا تزال العقبات كبيرة: يشكل الرنمينبي نحو 2.1% فقط من المدفوعات العالمية، وحصته في احتياطيات النقد الأجنبي محدودة، ويحتاج تدويله الكامل إلى تحرير مالي قد يهدد سيطرة الحزب الشيوعي على الاقتصاد. ورغم ذلك، نجحت الصين جزئيًا في تقليل اعتماد الدول على الدولار، مستفيدة من العقوبات الأمريكية ومخاوف الدول من استدامة الدين الأمريكي، حيث انخفضت ملكية الأجانب لسندات الخزانة الأمريكية من 49% عام 2008 إلى 30% عام 2024.
يهدف شي جين بينج لإصلاح النظام الدولي لخدمة مصالح الصين الاقتصادية والسياسية والأمنية عبر قيادة استغلال أعماق البحار والقطب الشمالي والفضاء، وفرض بروتوكول إنترنت جديد، وإنشاء نظام مالي عالمي مستقل عن الدولار. لتحقيق ذلك، استثمرت بكين عقودًا في حشد الموارد الحكومية والخاصة، وتنمية رأس المال البشري، والسيطرة على المؤسسات القائمة، وتطوير مؤسسات جديدة، مع التكيّف المستمر واقتناص الفرص. على الرغم من عدم تحقيق النصر الكامل، فقد أحرزت الصين تقدمًا ملحوظًا: ريادة في التحالف الدولي لقاع البحار، قيادة التجارة والوجود العسكري في القطب الشمالي، قوة علمية وعسكرية في الفضاء، تأثير متزايد على وضع المعايير التكنولوجية العالمية، وتقليص دور الدولار عبر تعزيز الرنمينبي ونظام الدفع البديل الصيني.
أما الولايات المتحدة، فواجهتها ثلاثة خيارات: التراجع، التعاون، أو المنافسة النشطة. التراجع غير مجدٍ، والتعاون محدود بسبب فجوة الرؤى. يبقى السبيل الأكثر واقعية هو المنافسة، لكنها تتطلب من واشنطن إعادة بناء قدراتها في المجالات الحدودية كافة، من القطبية والتعدين في أعماق البحار إلى الفضاء والاتصالات والتمويل الدولي، لتفادي التخلف عن بكين.
اتخذت إدارة ترامب خطوات أولية لتعزيز القدرة الأمريكية في المجالات الحدودية، مثل دعم بناء سفن أمنية في القطب الشمالي، وتخفيف القيود على الصناعات الفضائية، وإرسال رواد فضاء إلى المريخ، وتطوير تقنيات التعدين في أعماق البحار، بالإضافة إلى تعزيز الدولار عبر العملات الرقمية والترويج لتقنيات الذكاء الاصطناعي الأمريكية. لكن هذه الإجراءات تفتقر إلى رؤية استراتيجية طويلة الأمد مقارنة بالجهود الصينية المنظمة.
للتنافس مع الصين، تحتاج الولايات المتحدة إلى استراتيجية شاملة تحدد أهدافها الاقتصادية والأمنية، مع استثمار كبير في القدرات المادية، ودعم مستدام للبحث والتطوير، وتمويل مبتكر عبر شراكات بين القطاعين العام والخاص. كما ينبغي العمل مع الحلفاء لضمان أن تعكس المؤسسات الدولية قيم الشفافية والانفتاح والمنافسة السوقية، واستعادة مصداقية القيادة الأمريكية بعد بعض السياسات المتقلبة التي أضرت بالثقة في النظام المالي العالمي.
تظل لدى واشنطن فرصة لإعادة التأكيد على مكانتها العالمية من خلال التوفيق بين مصالحها الوطنية وواقع عالم متعدد الأقطاب، عبر إبرام صفقات مبنية على المصالح المشتركة وإطار استراتيجي أوسع، مع ضمان الشفافية وبناء القدرات في المجالات الحدودية، كما يظهر نموذج اتفاقيات أرتميس.
هذه المبادرات التعاونية والابتكارية تميز القيادة الأمريكية وتمنحها أفضل فرصة للحفاظ على نفوذها في النظام الدولي.