"معضلة" المسيرات " : كيف تحاول امريكا "الأكثر تطورا في العالم" تعويض تأخرها عن المنافسين؟
الثلاثاء / 9 / رجب / 1447 هـ - 19:19 - الثلاثاء 30 ديسمبر 2025 19:19
واشنطن'د. ب .أ': في الأول من يونيو الماضي فوجئ العالم بهجوم جوي نوعي شنته أوكرانيا على خمس قواعد جوية رئيسية في أنحاء روسيا باستخدام طائرات مسيرة. في هذا الهجوم استخدمت أوكرانيا أكثر من 100طائرة هجومية مسيرة، تم تهريبها داخل كبائن خشبية على متن شاحنات يقودها روس غير مدركين للأمر. وأسفر الهجوم عن تدمير قاذفات قنابل استراتيجية جاثمة على مدارج الطائرات، حتى في قاعدة بيلايا الجوية في سيبيريا، على بعد حوالي 3000 ميل من كييف.
وأطلق على هذه العملية اسم 'عملية شبكة العنكبوت'، وكانت من أكثر الهجمات جرأة وإثارة في الحرب الأوكرانية حتى ذلك الحين، كما مثلت تحذيرا شديد اللهجة من الخطر المتزايد الذي باتت تمثله الطائرات المسيرة على الأمن القومي لأغلب الدول بما في ذلك الولايات المتحدة القوة العسكرية الأكبر على مستوى العالم.
وفي تحليل مشترك نشره موقع مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي قال تيودور بونزل المدير الإداري ورئيس شركة لازارد للاستشارات الجيوسياسية والدبلوماسي السابق وتوم دونيلون مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما إن الرئيسين الأمريكيين السابق جو بادين والحالي دونالد ترامب اتخذا خطوات لحماية الولايات المتحدة من الطائرات المسيرة، مثل تحديد الأدوار والمسؤوليات الفيدرالية، وحظر تحليق الطائرات المسيرة فوق مواقع حساسة أو فعاليات خاصة، والاستثمار في تكنولوجيا مكافحة الطائرات المسيرة واستخدامها.
وعلى الرغم من هذا التقدم، لم تواكب الولايات المتحدة التهديدات. ولا تزال هناك نقاط ضعف، بما في ذلك عدم كفاية أنظمة تحديد الطائرات المسيرة وتقييدها في المجال الجوي الأمريكي، ومحدودية التمويل لأنظمة مكافحة الطائرات المسيرة المتقدمة القادرة على حماية البنية التحتية الحساسة والتجمعات الجماهيرية، ومخاطر سلاسل التوريد المرتبطة بهيمنة الصين على سوق الطائرات المسيرة العالمية.
بمعنى آخر، لا تزال الولايات المتحدة تفتقر إلى منظومة دفاع شاملة ضد الطائرات المسيرة، رغم أنها وحلفاءها تمتلك الوسائل والقدرة على الحد من التهديد الداخلي الذي تشكله هذه الطائرات، وهناك إجماع من الحزبين الديمقراطي والجمهوري في واشنطن على القيام بذلك، وكل ما تحتاجه الولايات المتحدة والدول الغربية هو الإرادة البيروقراطية والسياسية للتحرك قبل أن تجبرهم الأزمة على ذلك، بحسب بونزل ودونيلون.
ومنذ 2022 تطور خطر المسيرات بشكل كبير، حيث أظهرت الحرب الروسية ضد أوكرانيا فتك هذه الطائرات، التي تشير تقديرات الحكومة الأوكرانية إلى أنها مسؤولة الآن عن 70% من إجمالي الخسائر البشرية التي تكبدتها. كما مثلت الحرب في أوكرانيا ساحة اختبار ومحفزا للابتكار في أنظمة الطائرات المسيرة، بما في ذلك الإنتاج الضخم للطائرات المزودة بما يعرف بتقنية الرؤية من منظور الشخص الأول، وتطوير مسيرات تعمل بالألياف الضوئية قادرة على قطع مسافات طويلة دون أن تتأثر بالترددات اللاسلكية، وطائرات هجومية بعيدة المدى قادرة على ضرب أهداف مثل الطاقة والبنية التحتية المدنية بفعالية. ويستطيع مشغلو الطائرات المسيرة المهرة توجيه حمولاتها إلى فتحة دبابة، وقد قاموا بتسجيل هذه الهجمات لكسب نقاط دعائية سواء من جانب كييف أو موسكو.
ووفقا لبعض التقديرات تنتج أوكرانيا نحو أربعة ملايين طائرة مسيرة سنويا وهو ما يزيد على ما تنتجه جميع دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) مجتمعة، بينما تصنع روسيا حوالي مليوني طائرة مسيرة سنويا. في المقابل اتضح أن إقامة منظومات دفاعية مضادة للطائرات المسيرة عملية بالغة الصعوبة، حيث لم تتمكن روسيا ولا أوكرانيا من إيجاد تدابير كافية لحماية نفسها من هجمات المسيرات.
وفي الوقت الذي كثفت فيه روسيا وأوكرانيا استخدام المسيرات في حربهما، أظهرت بيانات إدارة الطيران الفيدرالية الأمريكية وجود أكثر من 800 ألف مشغل طائرات مسيرة مسجلين في الولايات المتحدة. إلا أن العدد الفعلي للطائرات المسيرة التي تحلق في الأجواء الأمريكية أعلى بكثير، نظرا لوجود العديد من الهواة الذين يشغلون طائرات صغيرة لا تستوفي شروط التسجيل، ولأن المشغلين يمكنهم استخدام ترخيص واحد لتشغيل عدة طائرات.
ورغم الفوائد الاقتصادية الكبيرة للطائرات المسيرة خارج ساحات القتال، فإن انتشارها يزيد مخاطر الحوادث ويعقد قدرة أجهزة إنفاذ القانون على التمييز بين الأنشطة المشروعة والتهديدات المحتملة. وقد شهدت الولايات المتحدة بالفعل سلسلة من الحوادث المربكة المتعلقة بالطائرات المسيرة. ففي ديسمبر 2023، شهدت قاعدة لانجلي الجوية في ولاية فرجينيا تحليق طائرات مسيرة غامضة على مدى 17 ليلة متتالية مما أجبرها على نقل طائرات إف22- رابتور مؤقتا وتعليق أنشطة التدريب فيها. ووصف شهود عيان لهذه الوقائع تشكيلات يصل طولها إلى 20 قدما، تسير بسرعة 100 ميل في الساعة. ولكن على الرغم من أسابيع من التحقيق، لم يتمكن مكتب التحقيقات الفيدرالي والبنتاجون ووكالة الفضاء والطيران الأمريكية (ناسا) من تحديد هوية مشغلي هذه المسيرات. وخلال العام التالي، تم رصد أكثر من 350 اختراقا للطائرات المسيرة في 100 منشأة عسكرية أمريكية مختلفة.
ويكمن جزء من مشكلة الطائرات المسيرة في سهولة حصول جهات خطرة، متنوعة بين أفراد وجماعات إجرامية ودول معادية، عليها. ويمكن للأفراد، استخدام الطائرات المسيرة الرخيصة كأدوات لأعمال إرهابية.
وفي يوليو 2024، على سبيل المثال، استخدم شاب يبلغ من العمر 20 عاما مسيرة لمسح ساحة التجمعات الانتخابية في بتلر، بنسلفانيا، قبل أن يصوبها نحو دونالد ترامب خلال ظهور انتخابي. وفي الوقت نفسه، تستطيع الدول نشر الطائرات المسيرة لإحداث اضطرابات اقتصادية، كما يحدث في الدول الأوروبية حاليا التي تتعرض لما تقول إنها هجمات هجين تنفذها الاستخبارات الروسية باستخدام طائرات مسيرة. وفي سبتمبر ، أدى نشاط غير معتاد للطائرات المسيرة على إغلاق مؤقت للمطارين الرئيسيين في كوبنهاجن وأوسلو. وفي الشهر التالي، تسببت حوادث مماثلة قرب مطار ميونيخ في تعطيل رحلات أكثر من 3000 مسافر. ونفت السلطات الروسية تورطها، لكن هذه الحوادث كبدت الدول الأوروبية ملايين الدولارات.
من ناحيتهم اتخذت السلطات الأمريكية عدة خطوات لمواجهة تحدي الطائرات المسيرة. ففي عام 2022، وضعت إدارة بايدن خطة أوصت بإجراءات مثل إنشاء قاعدة بيانات وطنية لتتبع حوادث المسيرات، وتدريب مشغلي أنظمة مكافحة الطائرات المسيرة، وإشراك أجهزة إنفاذ القانون على مستوى الولايات والمحليات في أنشطة مكافحة المسيرات، والاستثمار في التكنولوجيا الحديثة، وسن تشريعات لتوضيح مسؤوليات كل جهة. وفي يونيو الماضي، أصدر ترامب أمرا تنفيذيا بعنوان 'استعادة سيادة المجال الجوي الأمريكي'، يوجه إدارة الطيران الفيدرالية إلى تشديد اللوائح المتعلقة برحلات الطائرات المسيرة فوق المواقع الحساسة، وتوسيع صلاحيات أجهزة إنفاذ القانون وزيادة التمويل لمواجهة أنشطة المسيرة غير المرخصة.
وفي الشهر الماضي أقر الكونجرس الأمريكي تشريعا، لتعزيز وتوسيع صلاحيات الوكالات الفيدرالية في استخدام التدابير الدفاعية ضد الطائرات المسيرة. كما يمنح التشريع صلاحيات جديدة لوكالات إنفاذ القانون على مستوى الولايات والمحليات ومناطق السكان الأصليين لحماية مواقع محددة، بما في ذلك الملاعب الرياضية وقاعات الحفلات الموسيقية، بعد تدريب موظفيها واعتمادهم من قبل وزارة العدل.
لكن هذه الإجراءات ليست كافية، حيث تحتاج الولايات المتحدة، بشكل عاجل، إلى نظام وطني متكامل لكشف الطائرات المسيرة، وتحديد التهديدات المحتملة والمسؤولين عنها، والاستجابة لها في الوقت الفعلي. كما تحتاج واشنطن إلى مضاعفة جهودها في مجال مكافحة الطائرات المسيرة وبخاصة تطوير أنظمة منخفضة التكلفة لتدمير المسيرات المعادية. ففي الوقت الراهن يتم التصدي للطائرات المسيرة باستخدام أنظمة حديثة تعمل بأشعة الليزر عالية الطاقة والموجات متناهية الصغر لتعطيل المسيرات أو تدميرها أو التشويش عليها. لكن تكلفة هذه الأنظمة قد تصل إلى عشرات الملايين من الدولارات، في حين أن تكلفة الطائرة المسيرة قد لا تتجاوز بضع مئات من الدولارات.
الخلاصة التي انتهى إليها تيودور بونزل وتوم دونيلون في تحليلهما المشترك هي أن خطر الطائرات المسيرة لم يعد مجرد احتمال نظري، بل أصبح واقعا ملموسا، يتسارع انتشاره، وسيزداد تعقيدا بمرور الوقت. ورغم أن الولايات المتحدة لا تزال قادرة على أخذ زمام المبادرة في التأثير على بيئة هذا الخطر، فإن الوقت أمامها ينفد بسرعة.