العرب والعالم

مسقط: سياسة الأبواب المفتوحة في عامٍ مغلق

كتب: عبدالوهاب بن يحيى الهنائي

 

 

لم يكن عام 2025 عاما اعتياديا في المشهد السياسي العالمي؛ فقد نشبت فيه حروب وصراعات عدة وتداخلت فيه أزمات إقليمية متفاقمة، وتصاعدت التوترات بين القوى الكبرى الحليفة والعدوة على حد سواء، وتراجعت فيه مساحات الحوار ولغة التفاهمات لصالح صوت البارود والنار ومنطق القوة والمصالح. ومع ذلك حافظت سلطنة عمان على نهجها الدبلوماسي القائم على سياسة الأبواب المفتوحة والتواصل مع الأطراف المتصارعة لتهدئة الأزمات وفتح مسارات للحوار لإيجاد فرص للسلام؛ إيمانا منها أن السلام والاستقرار هو أساس التنمية والازدهار في العالم. 

وقد جاءت الزيارات الخارجية التي قام بها جلالة السلطان هيثم بن طارق –حفظه الله ورعاه– إلى عدد من العواصم، وكذلك زيارات قادة الدول إلى مسقط ضمن سياقات سياسية راهنة، وليس مجرد تبادل بروتوكولي صرف أو مصالح اقتصادية ثنائية. 

كما أن النشاط الدبلوماسي الذي قاده معالي وزير الخارجية السيد بدر بن حمد البوسعيدي، والاتصالات واللقاءات المكثفة مع نظرائه حول العالم، جاءت في سياق تثبيت قنوات الحوار، واحتواء تداعيات الأزمات المتصاعدة. 

ففي وقت شهدت فيه العلاقات الدولية قدرا كبيرا من الاستقطاب الحاد حملت التحركات العمانية رسالة مفادها أن سلطنة عُمان ذات الإرث الحضاري الراسخ والسياسة الحكيمة المتزنة قادرة على التواصل مع جميع الأطراف حتى وإن تعددت اتجاهاتهم دون أن تحسب على محور، أو تستدرج إلى خندق ما. 

هذه الفلسفة التي تعتمد عليها سلطنة عمان في سياستها الخارجية والتي تعمل بعيدا عن الأضواء والصخب، لكنها حاضرة في أهم اللحظات المفصلية والحساسة أثبتت فاعليتها في كثير من الأزمات التي عصفت بالمنطقة والعالم، وجعلت من سلطنة عمان وسيطا دوليا محترما من جميع الأطراف المتصارعة. 

ففي الملف اليمني حافظت مسقط على دورها الساعي إلى خفض حدة التصعيد، ومنع انزلاق الأزمة اليمنية إلى مستويات أكثر خطورة من خلال فتح قنوات تواصل بين الأطراف المختلفة نجحت من خلالها في مايو 2025 في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار والأعمال القتالية بين الولايات المتحدة الأمريكية وجماعة أنصار الله في اليمن؛ حيث ضمن الاتفاق حرية الملاحة وانسيابية حركة الشحن التجاري الدولي في البحر الأحمر وباب المندب منهيا بذلك واحدة من أهم الأزمات الدولية حساسية؛ حيث أدت هجمات جماعة أنصار الله على السفن الأمريكية وأيضا السفن المتجه إلى موانئ الكيان الإسرائيلي أو المتعاونة معه في منطقة البحر الأحمر وباب المندب إلى تأثر حركة الشحن العالمية من خلال تغيير حركة السفن لمسارها، ما زاد من تكلفت الشحن الدولي ومدة وصوله، وهو ما أدى إلى اضطرابات وارتفاع تكاليف الشحن إلى مستويات كبيرة. 

كما شهدنا قبل أيام قليلة نجاحا دبلوماسيا عمانيا آخر؛ حيث أفضت مفاوضات ماراثونية استمرت أسبوعين بين الحكومة اليمنية وجماعة أنصار الله في مسقط إلى التوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى بين الجانبين هو الأكبر منذ اندلاع الأزمة اليمنية؛ حيث أعلن الطرفان عن الموافقة لعملية تبادل نحو ثلاثة آلاف أسير من الجانبين إضافة إلى عشرات الأسرى من السعودية والسودان، وقد رحب العالم بهذا الاتفاق وأشادت الأمم المتحدة بالجهود الدبلوماسية الكبيرة التي قدمتها سلطنة عُمان في سبيل الوصل إلى هذا الاتفاق. 

أما فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، فقد واصلت سلطنة عُمان مساعيها لتقريب وجهات النظر بين الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الغربية من جهة والجمهورية الإسلامية الإيرانية من جهة أخرى مستفيدة من علاقتها المتوازنة مع جميع الأطراف. وقد نجحت في أبريل 2025 في عقد جلسات مفاوضات غير مباشرة بين المفاوضين الأمريكيين والإيرانيين في مسقط وروما الطرفين متوصلة إلى نقاط اتفاق في كثير من الخلافات الدائرة بينهما، ورشحت مؤشرات إيجابية عن قرب التوصل إلى اتفاق نهائي بين الجانبين، غير أن الضربات الجوية الإسرائيلية على الأراضي الإيرانية التي أدت إلى اشتعال حرب بين الطرفين امتدت لـ 12 يوما أدت إلى انهيار تام للمفاوضات، بل اشتراك الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها في ضربات جوية استهدفت أهم المفاعلات النووية الإيرانية ما دعا إيران لاستهداف القواعد الأمريكية في الخليج؛ حيث استهدفت الصواريخ الإيرانية قاعدة العديد الجوية في قطر. 

ونددت سلطنة عمان بالعدوان الإسرائيلي على إيران، وحضّت الولايات المتحدة الأمريكية على خفض التصعيد العسكري، وحذرت من انفجار المنطقة، ورغم خيبة الأمل الكبيرة بسبب انهيار المفاوضات النووية، إلا أن سلطنة عمان سعت منذ بداية التصعيد الإسرائيلي إلى تدارك الموقف، وعملت مع المجموعة الدولية لخفض التوتر القائم، ودفعت باتجاه وقف الأعمال القتالية من خلال جهود دبلوماسية مكثفة نجحت إلى حد كبير في الضغط على الأطراف لوقف إطلاق النار. وتعليقا على هذه الأحداث فقد شدد معالي السيد وزير الخارجية في منتدى حوار المنامة 2025 الذي استضافته مملكة البحرين بالتعاون مع المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)، على أن الأمن الحقيقي لا يُبنى بسياسات العزلة أو الاحتواء أو الإقصاء، بل يقوم على الشمولية والانخراط الإيجابي بين دول المنطقة لافتا إلى أن التجارب التاريخية أثبتت أن سياسات التهميش لم تؤدِّ إلا إلى تفاقم التوترات وإطالة أمد الصراعات مؤكدا أن الاستقرار الإقليمي لا يتحقق إلا من خلال الحوار البنّاء والتفاهم المتبادل. 

وأوضح معالي السيد في مداخلته أن سلطنة عُمان ترى منذ زمن بعيد أن سياسة عزل إيران لم تكن حلا، وأن إشراكها في منظومة الأمن الإقليمي الشامل يسهم في ترسيخ الاستقرار والتعاون المشترك مؤكدا أن إيران أظهرت في مراحل مختلفة انفتاحا واستعدادا للحوار البناء، وأبدت في أحداث متعددة ضبطا للنفس رغم الاعتداءات المتكررة، وهو ما يؤكد أهمية تبنّي نهج دبلوماسي شامل يضم جميع الأطراف لمعالجة التحديات المشتركة مثل أمن الملاحة ومكافحة التهريب والتغير المناخي. 

وأشار معاليه إلى أنه في وقت سابق من هذا العام أحرز ملف المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة تقدما ملموسا خلال خمس جولات من المحادثات بين الجانبين، غير أنه قبل أيام قليلة من انعقاد الجولة السادسة التي كادت أن تكون الحاسمة قامت إسرائيل بشن هجمات عسكرية غير قانونية ضد إيران. 

وأوضح أن الممارسات الإسرائيلية المتعمدة لإطالة أمد التوتر قد تسببت في هذه الحالة بمقتل مئات المدنيين الإيرانيين الأبرياء مشيرا إلى أن إيران ردّت رغم ذلك بضبط نفسٍ لافت تماما كما فعلت عندما قصفت إسرائيل قنصليتها في سوريا، وأصابت سفيرها في لبنان، واغتالت أحد كبار المفاوضين الفلسطينيين في طهران. 

وأكد معاليه أن مثل هذه الأعمال التخريبية يمثل انتهاكا خطيرا للقانون الدولي، ويكشف بوضوح أن إسرائيل -وليس إيران – هي المصدر الرئيسي لغياب الأمن في المنطقة. 

كما أكد معاليه أن السياسات القائمة على الإقصاء تغذي التطرف وعدم الاستقرار بينما تسهم الشراكة الشاملة في إيجاد مناخ من الثقة والاحترام المتبادل والازدهار المشترك داعيا إلى إقامة إطار أمني إقليمي يضم جميع الدول بما فيها إيران والعراق واليمن للتعامل بفعالية مع التحديات المشتركة. 

ومن هذا المنطلق تؤكد سلطنة عُمان دعمها المتواصل للحوار الشامل كخيار استراتيجي لتحقيق الأمن والسلام والازدهار في المنطقة، وأن الحوار وحده هو السبيل لبناء مستقبل أكثر استقرارا وتنمية لشعوبها، وأن مد يد الصداقة والتعاون مع الأمم الأخرى هو نهج راسخ في السياسة الخارجية العمانية.